ما نشهده على صعيد النظام الدولي هو مرحلة انتقالية شديدة الدقة والخطورة في آن معاً، لانها تؤشر إلى بداية تراجع حقبة الهيمنة الأميركية على هذا النظام، وصولاً إلى الانتقال نحو نظام جديد متعدد اللاعبين والفاعلين، لا سيما مع تثبيت روسيا والصين نفسيهما كلاعبين أساسيين في هذا النظام، حيث سنشهد نهاية تاريخ الهيمنة، بسردية مختلفة عما قدّمه فرنسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ”.
وتعد مرحلة التحوّل من نظام دوليّ إلى آخر، من أخطر المراحل في العلاقات الدولية، وقد حذر وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالمي” من خطورة هذا الانتقال، ومع ذلك يرى أنّ النظام العالمي الجديد يستحيل أن يكون أحادي القطب، بل ينبغي أن يكون متعدّد الأقطاب، فلا مناصّ من هذا التحول.
أولاً؛ تقبل فكرة نهاية الهيمنة:
لا ينفي المنظّرون الأميركيّون أطروحة تراجع الهيمنة العالميّة للولايات المتّحدة، ويحاولون من خلال تقبّل هذا الواقع، التخطيط لهذا التراجع وإدارته بالشكل الذي يصل ببلادهم إلى أن تكون إحدى هذه القوى الرئيسيّة. وعلى حدّ تعبير المفكر الأميركي روبرت كابلان، “ليس هناك شيء أفضل بالنسبة إلى بلاده من تهيئة العالم لاحتمال زوالها، وترتيب آلية مناسبة للتراجع المتناسق كي تطيل أمد بقائها كأمّة قوية”.
لقد تغيّرت نظرة الغرب ولا سيما نظرة النخب الأميركية في مراكز الدراسات والصحف للأحادية القطبية، وبات معظم الباحثين الأميركيين يرون أنه لم يعد هناك من مكان للأحادية وأن النظام الدولي يتحول نحو التعددية، فالسياسات العالمية والجغرافيا السياسية ومراكز الأبحاث، أصبحت، من وجهة نظرهم، محكومة بالتعامل مع حقيقة العالم المتعدد الأقطاب. في هذا السياق، تقول إليزابيث ديكنسون في مقالة لها في مجلة “السياسة الخارجية”: “لقد أصبح العالم متعدد الأقطاب حقيقة عالمية”.
إن السعي للوقوف بوجه الهيمنة الأميركية، يشكّل سبباً واضحاً لتأجيج الصراعات العالمية، إلا أن تحول القوى الأخرى إلى المواجهة، يعني بدء التراجع في النظام القائم على الهيمنة، خصوصاً أمام تحوّل النظام الدولي إلى التعدّدية القطبية.
يُدشّن الإعلان الروسي الصيني مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، يترافق مع اتباع دبلوماسية قوية قادرة على مواجهة الولايات المتحدة ومحاصرة سياساتها الأحادية، وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الإعلان يعد بمثابة تحالف دفاعي روسي – صيني في مواجهة الولايات المتحدة وسياساتها
ثانياً؛ حقبة جديدة في العلاقات الدولية:
على الرغم من أن واشنطن لا تزال تتحكم بمفاصل في النظام الدولي، ولا يمكن أن يحصل شيء على الساحة السياسية الدولية وفي مطلق الجغرافيا السياسية لبلدان هذا النظام من دون موافقتها، إلا أن تفرد الأميركيين دولياً، بلا حسيب أو رقيب، لم يعد ممكناً، وهذا ما يظهر من خلال البيان الصادر عن قمة الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والصيني شي جين بينغ فى بكين، الذي دشّن دخول العلاقات الدولية حقبة جديدة. وقد أعربا في بيانهما عن قلقهما حيال تحالف “أوكوس” (أستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) كونه يزيد من خطر سباق التسلح فى المنطقة ويزيد من مخاطر انتشار الأسلحة النووية. وقال الكرملين إن بوتين وشي جين بينغ وصفا العلاقات بين البلدين بأنها “شراكة متقدمة” ذات طابع خاص. كما كشف بوتين النقاب عن صفقة غاز جديدة كبيرة مع الصين، في إشارة أخرى إلى تعميق العلاقات بين الجارتين في وقت يواجهان لحظة توتر في علاقاتهما مع الغرب وتحديداً مع الولايات المتحدة على خلفية أزمتي أوكرانيا وتايوان. وأعرب البلدان عن قلقهما إزاء “تقدم الخطط الأميركية لتطوير دفاع صاروخي عالمي ونشر عناصره في مناطق مختلفة من العالم، إلى جانب بناء قدرات أسلحة غير نووية عالية الدقة لنزع سلاح الضربات وأهداف استراتيجية أخرى”. وأعربا عن معارضتهما لتوسيع حلف شمال الأطلسي، ووجها الدعوة إلى حلف الناتو إلى التخلي عن “مقارباته الأيديولوجية للحرب الباردة”.
لا شك أن ما يلفت نظر الباحثين في العلاقات الدولية، هو أن يصدر هذا البيان عن قوتين دائمتي العضوية في مجلس الامن، وهما ترصدان انتهاكات جسيمة لكل المواثيق والقوانين الدولية، من خلال سياسات الولايات المتحدة وحلف الناتو، ولهذا الاتفاق والإعلان دلالات هامة، فهو إعلان عن الوقوف في وجه الهيمنة الأميركية، ورفض سياساتها التي لا تلتزم بالقانون الدولي، كما أنه تأكيد على أمن القوتين الروسية والصينية، فضلاً عن محاولة تفكيك عناصر القوة العسكرية الأميركية ـ الأطلسية.
ويفتتح هذا الإعلان عصراً جديد من العلاقات الدولية يبدأ بدبلوماسية هجومية يقودها الطرفان، وذلك رداً على الحصار الأميركي للصين واستغلال الأزمات لشيطنتها، ليس أقله في ازمة الملف التايواني التي لا تقل أهمية وخطورة عن الازمة الأوكرانية، التي يسعى الأميركي من خلالها إلى محاصرة روسيا، برغم أن الأخيرة تصرفت على قاعدة ردة الفعل على عدم إلتزام الولايات المتحدة بتعهدات دولية سابقة عمرها ثلاثة عقود من الزمن، ومن هنا يُدشّن الإعلان الروسي الصيني مرحلة جديدة في العلاقات الدولية، يترافق مع اتباع دبلوماسية قوية قادرة على مواجهة الولايات المتحدة ومحاصرة سياساتها الأحادية، وبالإضافة إلى ذلك، فإن هذا الإعلان يعد بمثابة تحالف دفاعي روسي – صيني في مواجهة الولايات المتحدة وسياساتها.
وفق ما تقدم آنفاً، بات الحديث عن انطلاق حقبة جديدة في العلاقات الدولية أمراً طبيعياً، حيث تتغير السلوكيات الدولية في التعامل مع الازمات وفي حل الصراعات والنزاعات. وقد أتى البيان الروسي الصيني المشترك عن دخول العلاقات الدولية عصراً جديداً، إعلانًا واضحًا بأنّ الخطوات لتحقيق هذا العصر الجديد أصبحت جاهزة، بل ربما تكون دخلت حيز التنفيذ، وهذا ما سينعكس على تحصين المصالح المشتركة للقوى المناهضة للسياسات الاميركية والقضاء على منطق الأحادية.