عاش مظفّر النواب زاهداً أقرب إلى قدّيس، مستقيماً وصادقاً وشجاعاً في مواجهة الزيف والكذب والخنوع، وقد نذر نفسه للجمال والإبداع والأغنية الشعبية.
أي حزن يمتلك المرء حين يرحل صديقه، فما بالك بصديق بوزن مظفّر. هاتفني العديد من الأصدقاء العرب والعراقيين وهاتفت عدداً منهم، كانت كلماتهم أو كلماتي تتسابق مع بعضها: نعزّيكم ونعزّي أنفسنا. وكأن الكل كان يتفّق على أن مثل هذا الحزن العارم أخذ يلفّ الجميع مع أن مظفّر لم يرحل، فإنه يبقى فينا ومعنا ولنا وللمستقبل والأجيال القادمة، صوتاً هادراً ومعطاءً ومتفانياً وجميلاً مثل قصيدته، لكنه الحزن يتمكّن منا، حتى ولو جاهدنا لنقبل الصبر الجميل:
مو حزن.. لكن حزين
مثل ما تنكطع تحت المطر شدّة ياسمين
مو حزن لكن حزين
مثل صندوق العرس
ينباع خردة ْعشك
من تمضي السنينْ
مو حزن لكن حزين
مثل بلبل كعد متأخر
لكه البستان كلها
بلايا تــــــين.
***
أحياناً حين تلتقي مبدعاً كبيراً كنتَ قد تعرّفت عليه من خلال نصّه أو منجزه الثقافي، فتقول مع نفسك: يا ليتني لم ألتقِ به، كي تبقى صورة منجزه مشرقة أنيقة جميلة، فثمة تناقض كبير، بل وصارخ أحياناً بين السلوك اليومي والاجتماعي وبين التحضّر والتخلّف وبين المعرفة والثقافة، وخلافاً لذلك حين تلتقي مبدعاً آخر وتكون قد قرأت له أو اطّلعت على منجزه الإبداعي، تتمنّى ألّا تفارقه، بل تزداد محبة له، لأن ثمة انسجام بين ما يقول وما يفعل، فالصورة الفائقة المبهرة لشخصه التي بناها من خلال ما كتبه أو صرّح عنه أو قام به ومن خلال أفعاله ومواقفه ظلّت منسجمة ومتّسقة على نحو مشرق ورائع بين القول والعمل، فليس ثمّة هوّة بين الإثنين.
ومبدعنا المحتفى به مظفر النواب، من الصنف الثاني، الذي ما إن تتعرّف عليه حتى تنجذب إليه، وقد أتاحت لي الفرصة لفترة خمسة عقود ونيّف من الزمان أن أقترب من مظفر النواب، فأزداد تعلّقاً وإعجاباً به ومودّة ومحبة له، فهو من طينة من تحلو لك رفقته، حيث تأنس بصحبته وتكتشف يوماً بعد آخر الكثير من الخصال والسجايا الإنسانية الفريدة والأخلاقية النبيلة التي تمثّل قيماً عليا يسعى البشر لتجسيدها أو تمثّلها.
ولم أعرف مبدعاً كبيراً كان يُحكِمُ الصلة على نحو فائق بين الأقوال والأفعال وبين الإبداع والسلوك والأخلاق والسياسة والثورة والجمال والصلابة المبدأية والمرونة العملية والكبرياء والتواضع وحب الحياة والزهد بها مثل مظفر النواب، ولعلّ ذلك ميزان ذهبي من العدل ظلّ مرافقاً له طيلة مسيرته الإبداعية والنضالية وعلى المستويين الشخصي والعام حيث كان رقيب نفسه باستمرار، وظلّ كلّ متاعه من هذه الدنيا الفانية، حزمة قصائد ورسوم وكأس نبيذ وذاكرة خصبة وضمير يقظ لم يخدر أبداً، وكان برفقة ذلك أيضاً محبّة الناس واحترامهم له لشعورهم بنقاء سريرته وطهريّته وترفّعه عن الصغائر، وهو ما صنع مجده ورفعته وعلو كعبه، فأضحى أقرب إلى “القديس” بتعابير المؤمنين و“المعبود” بتعبير العاشقين.
وخلال مسيرته حافظ النواب على صوته الخاص وإيقاعه المتميّز ونبرته الشائقة، وسط ضوضاء هائلة، وحسب الروائي الغواتيمالي أستورياس الحائز على جائزة نوبل في الآداب العام 1967 “الإنسان إله بسبب من صوته”، فالصوت يذهب إلى الإذن مباشرة، ومنها إلى الدماغ، ومن هذا الأخير إلى القلب، فيعطي الإحساس، وهكذا هي الموسيقى تذهب إلى القلب والروح، وذلك هو صوت مظفر النواب الشديد الإحساس والتأثير الحسّي، لا سيّما وهو يسعى للمحسوس من الأشياء، حيث تمتزج أوتار صوته بالروح، فيخرج مليئاً ونافذاً، والحسيّة هي ما مثّله الفيلسوف الانثربولوجي الألماني لودفيغ فيورباخ.
وإذا كان مظفر النواب قد انشغل بالحريّة باعتبارها القيمة العليا في الحياة، فثمّة عشق صوفي يتماهى مع حيرته وقلقه الإنساني، “فالمكان زمان سائل والزمان مكان متجمد” حسب ابن عربي، وهكذا كانت غربته في المكان والزمان تنتقل معه وتعيش فيه وتسافر إليه:
“هل في الدور من عشق لهذا المبتلى ترياق
نقطة في العشق تكفي
فلا تكثر عليك الحبر والأوراق”
( من قصيدة قل لأهل الحي)
أية شيفرة سرّية خاصة تلك التي تحتويها لغة مظفر النواب ومفرداته الإبداعية الباذخة:
“لا تسل عنّي لماذا جنّتي في النار
جنّتي في النار
فالهوى أسرار
والذي بغضي على جمر الغضا أسرار
يا الذي تطفي الهوى بالصبر لا باللّه
كيف النار تطفي النار؟
يا غريب الدار
إنها أقدار
كل ما في الكون مقدار وأيام له
إلّا الهوى
ما يومه يوم… ولا مقداره مقدار
(من قصيدة المساورة أمام الباب الثاني)
في سهله الممتنع ثمّة صور غير مألوفة في الشعر الشعبي العراقي من قبل، ولنلاحظ هذه الصورة:
“آنه يعجبني أدوّر عالكَمر بالغيم..
ما أحبّ الكَمر كلّش كَمر”
(من قصيدة الشناشيل)
***
حين نشر النواب قصيدة “الريل وحمد” في العام 1959 وكانت بمبادرة من علي الشوك وتلقفها بالتقييم والترحيب والإعجاب عدد من مجايليه منهم: سعدي يوسف وبلند الحيدري والفريد سمعان ورشدي العامل وعبد الرزاق عبد الواحد، برز على الفور بصفته شاعراً جديداً يملك كل شروط الحداثة ومواصفات التجديد، وجاءت الإشارة بقدر غموضها ورمزيتها، واضحة جليّة، فقد كان أمام النقاد نوع من الأدب الجديد المكتوب بالعامية العراقية أو باللهجة الشعبية الجنوبية الحميمة، فهو لا يشبه حسين قسّام والحاج زاير والملّا عبود الكرخي، على الرغم من إعجابه بهم، وخصوصاً الحاج زاير، ولم يسع لتقليدهم، بل عمل للخروج على التقليد مثلما سبقه إلى ذلك نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري وعبد الوهاب البياتي في قصيدة الفصحى الجديدة التي تمرّدت على القوالب.
وحجزت قصائد “يا ريحان” و”حسن الشموس” و”حجّام البريس” و”زرازير البراري” و”ابن ديرتنه حمد” و”حِنْ وآنه حَنْ” و”روحي” و”البنفسج” مكاناً خاصاً لمظفر النواب في صدارة الشعر الشعبي العراقي، إضافة إلى قصائد أخرى، وفي منفاه ارتقى مظفر إلى المكانة التي يستحقها في سلّم قصيدة الفصحى الحديثة التجديدية، بحكم الفضاء الذي تمتّع به والبيئة التي عاش فيها وقد انحسرت في نتاجه الإبداعي القصيدة الشعبية بشكل عام إلّا باستثناءات محدودة، وهكذا توزّعت قصائده حيث احتلّت المرحلة العراقية 1959-1969 القصائد العامية، ومن أهم انجازاتها مجموعتين هما “الريل وحمد” و”حجّام”، أما المرحلة العربية أي من العام 1969 وعلى مدى نحو 50 عاماً فقد عرفت قصائد الفصحى وضمتها مجموعات أساسية هي “وتريات ليلية” و”أربع قصائد” و”المساورة أمام الباب الثاني”، إضافة إلى عشرات القصائد غير المنشورة والمسجلة على أشرطة كاسيت.
امتازت قصيدة النواب باللغة الآسرة والمفردة الحيّة، بل إن بعضها استخدم لأول مرّة، لا سيّما برمزيتها وبُعدها عن المباشرة، حيث كان يفيض عليها من روحه، فتصبح كائناً حياً تشبه عطاءه وتمرّده وصدقه، ففي قصيدة “الريل وحمد” يقول:
“أرد أشري جنجل
وألبس الليل خزامة
وأرسم بدمع الضحج
نجمة
وهوه
وشامه
ويا حلوة بين النجم
طبّاكَة لحزامه
وهودر هواهم
ولك
حدر السنابل كَطه
كضبة دفو، يا نهد
لملمك… برد الصبح
ويرجفنّك فراكين الهوه… يا سرح
يا ريل..
لا.. لا تفزّزهن
تهيّج الجرح
خلهن يهودرن..
حدر الحراير كَطه”.
***
لقد اكتشف النواب المدى الذي تحمله المفردة العامية فدفع به إلى القصوى ووظفه برياديّة بحيث أصبح مفتاحه كما يقول إلى “الفضاء الإبداعي الأوسع”، بما تملكه تلك المفردة من رمزية وطاقة حسيّة ولنلاحظ الاستخدام غير المألوف مثل:
افيش.. شمني..
بشهيك الروح،
شكَة طلع
فُوج بحنين الصدر،
طوفان دك ورصع
ليش آنه وانته بعطش؟
موش احنه نبعه ونبع
(من قصيدة فوك التبرزل)
وكلمة “أفيّش” تدلّ على رائحة الشّم ذات البعد الحسّي وكأنها رائحة محسوسة، أي أنها مبهرة وذات تأثير على المتلقي.
أطرن هورها امصكك
واصيحهن عليك اجروح
يجحلن چالمطبجات الزرگ
صلهن يشوغ الروح
واجيك اشراع… ماهو اشراع
عريانه سفينة نوح
اصيح اشّاه… مابياش
يبني جحلت يبني
ويجيني امن الرضاع الحيل
موش امك واندهلك…
أشيلن حملك امگابل أنگلنه
وأشيلك شيل
أكابر… وانه اطر الهور
وأعدل ظهري للشمات
چني امگابل ويه الريل
أصدن لليصد ليه ابشماته
وفوگ اشيلن بيرغ الدفنه
عمد للسيل
كلها اولا شماتة عدو…
يتشمشم خبر موتك وراي ابليل
يازين الذي ابطرواك
دلتنه الچبيره اتگوم للخطار…
(من قصيدة حسن الشموس)
هكذا يستخدم مظفر النواب مفردة حسّية مثل كلمة “اشّاه” التي هي دليل على البرد ويمكن أن تُقال في لحظة تأثر أو مفاجأة. كما يستخدم عبارة “أحّاه” – التي هي دليل على الألم أو تعبير عن الحزن أحياناً، حتى أن النسوة اللواتي يلطمن على فقدان أحبتهن يردّدن أحّاه.. أحّاه بما فيها في المناسبات الحسينية، وبالتعبير العامي فكلمة “أحّاه” هي أقرب إلى كلمة “آخ”، وهي تقال حين يعتصر الإنسان الألم للفراق أو للصدمة أو لما يحصل له من ضغط يتعرض فيه للأذى والألم فيصرخ “آخ”.
“أحاه، شوسع جرحك ما يسدّه الثار يصويحب
وحكَ الدم ودمك حار
من بعدك، مناجل غيظ ايحصدن نار
شيل بيارغ الدم فوكَ يلساعي
صويحب من يموت المنجل يداعي
(من قصيدة مضايف هيل)
ويهمّني أن أشير إلى أن قصيدة مضايف هيل “جرح صويحب” كان قد لحّنها الفنان سامي كمال وحين قام بتأديتها (التمهيدية) في سهرة خاصة في منزل شقيقتي سلمى شعبان عام 1984 في دمشق، أعجب الجواهري بكلماتها وآدائها الفني وردّد “يا صويحب…” مع آهات خرجت منه في حين كان يداعب حبّات مسبحته، واحدة واحدة، واثنتان اثنتان، ويشرد قليلاً، وكأنه يستذكر قصيدته “أخي جعفر”، وهو ما دعا طارق الدليمي الذي كان يجلس بجانبه إلى استعادة القصيدة المذكورة وكأنه يريد أن يرسم أحداثها إلى صديقنا داوود التلحمي رئيس تحرير مجلة الحرية الفلسطينية (الجبهة الديمقراطية)، والتي يقول في مطلعها:
أتَعْلَمُ أمْ أنتَ لا تَعْلَمُ/ بأنَّ جِراحَ الضحايا فمُ
فَمٌّ ليس كالمَدعي قولةً/ وليس كآخَرَ يَسترحِم
يصيحُ على المُدْقِعينَ الجياع/ أريقوا دماءكُمُ تُطعَموا
ويهْتِفُ بالنَّفَر المُهطِعين/ أهينِوا لِئامكمُ تُكْرمَوا
أتعلَمُ أنَّ رِقابَ الطُغاة/ أثقَلَها الغُنْمُ والمأثَم
وأنّ بطونَ العُتاةِ التي/ مِن السُحتِ تَهضِمُ ما تهضم.
إلى أن يقول:
أخي “جعفراً” يا رُواء الربيع/ إلى عَفِنٍ باردٍ يُسلَم
ويا زَهرةً من رياض الخُلود/ تَغوَّلها عاصفٌ مُرزِم
وكان الجواهري قد نظم هذه القصيدة في العام 1948 التي تعتبر بحق ملحمة شعرية بنحو مئة بيت، إثر استشهاد شقيقه جعفر في المظاهرات الاحتجاجية الشعبية التي سمّيت فيما بعد “وثبة كانون” ضد “معاهدة بورتسموث” (جبر- بيفن)، وألقاها في محيط جامع الحيدر خانة ببغداد بمناسبة مرور سبعة أيام على استشهاد شقيقه.
أما “إش” فهي تعني طلب الصمت أو الرغبة في السكون والهدوء، وأحياناً تصدر بلغة الأمر أي “صه”، ولنلاحظ استخدامه الأولي:
إش، لا توعّي المزنة
وتسودن حنيني بعذرك
أنه كربت بور الفلا
وطشيت صبري وصبرك
وسكيت، وضميت الشمس لليل
عود انتظرك
تاليها ريحان وملح
جا هذا كَدري وكَدرك؟
(من قصيدة أيام المزبّن )
***
الغربة والحزن مترابطان في شعر النواب على نحو عضوي، حيث يُعتبر النواب الشاعر الأكثر اغتراباً، فقد مضى على منفاه 51 عاماً، وأقصد بذلك المنفى البيولوجي، وقبل ذلك اغترابه الروحي وليس المكاني “Alianation” وربما كان الأطول لأنه يمثل جلّ عمره الإبداعي، أي منذ أن وعى على الحياة وانخرط في التعبير عن جمالياتها وإنسانيتها، وقد عاش مظفر في المنفى حسيّاً وتآلف معه وأصبح واحداً من أهل بيته وصار صديقاً ورفيقاً له ينتقل معه ويلازمه مثل ظلّه في البلدان والمدن والمرافئ والمطارات والقطارات والحدود والجوازات، وترك المنفى بصمته عليه، تلك التي زادته حزناً فـالمنفى كالحب “يسافر في كل قطار أركبه في كل العربات.. أمامي”.
تعبتُ ومن دوخة رأسي في الدنيا.. أبكي
لا تكسرني الريحُ
فماذا يكسرني بعد الريح ِ.. وأبكي
القصّة ُبلّلها الليلُ،
وليسَ هناكَ مَنْ يحكيها،
فلنذهب فالريحُ ستحكي
المأخورُ يضيءُ وجوه الزانين
فلا تخجل يا حزني أنْ تصبحَ زاني
يا قلبي
يا بنَ الشكّ
أرحني من أحزاني
تعبتُ ولمْ أصلِ المنفى
المنفى يمشي في قلبي،
في خطواتي.. في أيّامي،
يسافرُ في كلّ قطار ٍ أركبهُ،
في كلّ العرباتٍ أراهُ
حتّى في نومي
يمشي كالطرقاتِ أمامي.
وكما يقول عن الحزن:
مو حزن لكن حزين
مثل ما تنقطع جوّا المطر
شدّة ياسمين
مو حزن لكن حزين
مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين
مو حزن لكن حزين
مثل بلبل كَعد متأخر
لكَه البستان كلها بلاي تين
مو حزن لكن حزين
لكن أحبك من كنت يا أسمر جنين.
***
قدّر لي أن ألتقي مظفر النواب مرّة واحدة بعد خروجه إلى العلن بُعيد انقلاب 17 تموز (يوليو) 1968، وخصوصاً بعد تسوية قضية هروبه من سجن الحلّة وإسقاط الأحكام التي صدرت بحقه بعد اعتقاله في إيران وتسليمه إلى الحكومة العراقية، حيث حوكم وصدر حكم بإعدامه، ثم خُفِّض الحكم إلى المؤبّد، وكانت التنظيمات الشيوعية قد نظّمت عملية هروب جماعية من سجن الحلّة في خريف العام 1967، حيث تم حفر نفق طويل بحدود 20 متراً بملاعق الطعام وأدوات بسيطة للغاية، كما روى لي ذلك حسين سلطان في السبعينات، وقد كنت باستمرار أطالبه بتدوين ذلك وتوثيقه، وبالفعل أنجز جزءًا منه وقام خالد حسين سلطان بنشره لاحقاً.
وكان من بين الهاربين مظفر النواب، علماً بأنه تم اعتقال قسماً منهم ونجح الآخرون في الإفلات بعد أن قضوا بضعة أيام في الريف. وقد رويت كيف نظّمنا سفرة طلابية (حيث كنت في الصف المنتهي في الكلية) لإنقاذ سعدون الهاشمي ورفيقه من سدّة الهندية إلى بغداد، كما جاء في مقالة لي عن سنان الشبيبي والموسومة: سنان محمد رضا الشبيبي والبنك المركزي- قضية رأي عام المنشورة في صحيفة الخليج (الإماراتية) بتاريخ 31/10/2012، جدير بالذكر الإشارة إلى أن سعدون الهاشمي هو شقيق سامي الهاشمي الذي استشهد غدراً في أيلول (سبتمبر) 1968 في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.
وكنتُ قبل أن ألتقي مظفر أحفظ الكثير من قصائده، ولا سيّما تلك المهرّبة من سجن نقرة السلمان وسجن الحلة فيما بعد، واستمعت إلى الكثير من التفاصيل عنه من عدد غير قليل من الأصدقاء منهم مهدي عدنان الشديدي والمحامي هاشم صاحب والمحامي محمد أمين الأسدي وابراهيم الحريري وصاحب الحكيم وآخرين.
وكان اللقاء الثاني الذي وثّق الصداقة في براغ العام 1970، ثم تواصلت اللقاءات بعدها في دمشق حيث تعمّقت علاقتي به وكنت ألتقيه على نحو مستمر تقريباً، سواء في منزل طارق الدليمي أو في منزلي أو في مقهى الهافانا الذي كنّا نرتاده أحياناً، أو في حانة “قصر البلّور” في “باب توما” لعدّة مرات رفقة طارق الدليمي وآخرين. وحين غادرت دمشق لم تكتمل زيارتي لها إلّا حين ألتقي مظفر النواب، وكان غالباً ما يأتيني بصحبة الشاعر رياض النعماني أو حامد العاني قبل لجوئه إلى هولندا أو شفيق الياسري (هاشم) أو باقر ياسين الذي استضافنا عدة مرات في مزرعته خارج دمشق.
والتقينا أكثر من مرّة مع بعض الأدباء والمثقفين السوريين، منهم صادق جلال العظم وممدوح عدوان وزوجته إلهام وحميد مرعي وأبيّة حمزة ومنى الأتاسي وعمر أميرالاي وهيثم حقي ومحمد ملص وزوجته انتصار ملص. وأتذكّر إن في إحدى اللقاءات وكان بدعوة من الصديقة رُلى فيصل ركبي دار الحوار والجدل حول علاقة الشعر بالفلسفة والمسرح والرسم بخاصة والفن التشكيلي بعامة والسينما والتلفزيون والإعلام بشكل عام، باستعراض تجارب المتنبي والمعرّي والجواهري وبعض الأعمال المعاصرة، إضافة إلى الرواد في الحركة التجديدية الحديثة مثل بدر ونازك والحيدري والبياتي وسعيد عقل وأدونيس ومحمد الماغوط، ودور مجلة الآداب في الخمسينيات والستينيات. وكان مسك الختام حين أسمعنا مظفر الشعر مغنّى، وهكذا امتزجت علاقة الصوت والعين والأذن والروح والقلب والعقل، وللأسف لم نتمكن من تسجيل تلك السهرة الثقافية الفكرية بامتياز، وهو ما سبق أن حصل مرّة مع الجواهري حين حاولنا تسجيل كاسيت له، لكن آلة التسجيل لم تكن على ما يرام.
كما التقيت به أكثر من مرة في الثمانينات في طرابلس. وقد أخبرني الصديق عاطف أبو بكر كيف حاول أن يطفئ النيران بينه وبين “أبو نضال” (صبري البنّا)، وقد عقد بينهما أكثر من اجتماع في طرابلس أواخر الثمانينيات، وبذل جهداً كبيراً لفضّ الاشتباك، وكان حريصاً ألّا يتعرّض عاطف أبو بكر ومن معه للأذى أو للانتقام.
وفي التسعينيات حين انتقلت إلى لندن، لم يكن مظفر النواب يزورها إلّا ويشرّفني بزيارة خاصة وكانت أول زيارة له بدعوة من النادي العربي ورئيسه ضياء الفلكي الذي نظّم له أمسية عامة لم تشهد لها لندن مثيلاً، وقد طلب مني في حينها اللقاء بـ صلاح عمر العلي وحصل اللقاء على نحو حميم، وعاد بعد عدّة سنوات ونظّم له أمسية ثانية، وأتذكر أن مشعان الجبوري قدم من اسطنبول أو مدينة تركية أخرى لحضور الأمسية، ولم تكن ثمة تذاكر وقد اتصل بي، فأمنّت له تذكرة خاصة، وحين استعيد تلك التفاصيل فلأنني أريد إظهار الاهتمام العام بمظفر النواب ومحبة الناس له، خارج دائرة الاصطفافات والاستقطابات التقليدية.
وكنت أعتبر كل زيارة له فرصة مناسبة ومهمة للتواصل الشخصي من جهة ومن جهة أخرى لتنظيم أمسية محدودة له مع نخبة عربية كنت أدعوها إلى منزلي، وفي لندن كان رفيق دربه الفنان سعدي الحديثي، وغالباً ما كانت ترافقه المهندسة المعمارية ميسون الدملوجي، والموسيقي أحمد المختار. وحين أصدرت كتابي عن الروائي والصحافي شمران الياسري “أبو كاطع” الموسوم “على ضفاف السخرية الحزينة”، لندن، 1998 (دار الكتاب العربي) أهديته إلى مظفر النواب وجاء فيه “إلى مظفر النواب… وضاعت زهرة الصبّار”.
وأود أن أشير إلى أن مظفر النواب استمرّ بحمل جواز سفر ليبي لغاية العام 2007، وكان حين يرغب بزيارة بيروت يطلب منّي توجيه دعوة خاصة له كما تقتضي القوانين اللبنانية للحصول على فيزا، عبر تقديم سند الملكية والإقامة وتعهّد باستضافته وتحمل كل ما يتعلق بالتبعات القانونية، وذلك بعد انتقالي إلى بيروت، وكانت آخر زيارة خاصة له بالترتيب المشار إليه، قبل حصوله على جواز سفر، بوجود والدتي نجاة حمود شعبان التي سرّت بلقائه وشجعتها على قراءة ما كانت تردّده من أقوال وتعتبرها شعراً.
أتذكّر لقاءنا في أواخر العام 1970 وكنتُ قد وصلتُ لتوّي إلى براغ للدراسة العليا، وحينها كنت لا أزال في كورس اللغة، وصادف أنني كنت أتهيأ للسفر إلى القاهرة لحضور مؤتمر دولي بمناسبة ميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر (بعد وفاته)، ضمتنا جلسة في مطعم “أوفليكو” المكان الذي زاره نابليون واحتسى فيه “البيرة السوداء” (أوائل القرن التاسع عشر ) والطريف أن الساعة التي تزيّن واجهة المطعم قد أوقفت عقاربها وظلّت هكذا لتحمل توقيت احتلال نابليون للعاصمة التشيكية. وهناك صدح صوت النواب وشاركه فيه جعفر ياسين، وكان يقرأ النواب البيت الأول أو المقطع الأول ليجيبه ياسين بصوته الشجي بالمقطع الثاني.
في براغ، التقى المبدعان الكبيران الجواهري والنواب خلال تلك الزيارة الأثيرة. وفي مقهى سلوفانسكي دوم الشهير الذي كان مقرّاً للجواهري يرتاده كل يوم تقريباً، واللقاء غير التعارف، فقد كان التعارف قد حصل من قبل، حين كان الجواهري رئيساً لاتحاد الأدباء في العام 1959، وكان مظفر النواب عضواً فيه منذ التأسيس، ويتردّد على نادي اتحاد الأدباء لحضور بعض الأماسي والمناسبات، لكن اللقاء بمعناه الصميمي والخاص وعلى انفراد وحرّية ومحبة كان في براغ حسبما أعرف.
حين أبدى مظفر النواب إعجابه ببراغ، التي زارها لأول مرّة، وبجمالها ونسائها وأجوائها، كان الجواهري مفتوناً بها ومتولهاً بحبها، فتلك المدينة التي كلّما ازددتَ معرفةً بها وبخباياها وزواياها وخفاياها ازددتَ عشقاً لها وتعلقاً بها، وكان الجواهري قد نظم لها في العام 1973 قصيدته الشهيرة الموسومة “آهات” التي يقول فيها:
قفْ على براها وجب أرباضها
وسلْ المصطاف والمرتبعا
أعلى الحسن ازدهاء وقعتْ
أم عليها الحسن زهواً وقعا
وسل الخلاق هل في وسعه
فوق ما أبدعه أن يبدعا
مرّت الأسراب تترى.. مقطع
من نشيد الصيف يتلو المقطعا
يا لصيفٍ ممتعٍ لو لم يكنْ
غيره كان الفصول الأربعا
ممطرٌ آنا.. وريان الضحى
مزهرٌ آنا.. وذاوٍ سرِعا
وفي مقهى سلوفانسكي دوم علقت فاتنة من اللواتي يعشقهن الجواهري بالشاعر مظفر النواب.. وهنا انتبه الجواهري للحكاية فسأل النواب.. بأي لغة تتكلّم معها؟ فأجاب النواب: بفرشاة الرسم، وبالمناسبة فالنواب رسّام وله إذن موسيقية مثلما تحمل مفردته نغماً، وبعد يومين اقتحم الجواهري خلوة النواب مداعباً إياه بمملّحة شهيرة كانت بعنوان “فاتنةً ورسّام” مهداة إلى “محمد المصباح” الذي عُرف في الحال مظفر النواب:
وقال “محمد المصباح” يوماً
لفاتنة من الغيد الحسان
من ” الجيك” لست أدري
بهن المحصّنات من الزواني
هلّمي أرسمنك غداً.. فقالت
غداة غد وفي المقهى الفلاني
فقال بمرسمي حيث استتمت
من الرسم المعاني والمباني
فقالت لا ومن أعطاك ذهناً
وعلّمك التفنّن في البيان
أداة الرسم تحملها سلاحاً…
بين فخذيك مشحون السنان
ولكن كل ما تبغيه منّي
خفوت الضوء في ضنك المكان
وفي دمشق التقى الجواهري النواب لأكثر من مرّة، لكن لقاءً مميّزاً كان بينهما قد حصل في طرابلس (ليبيا) بعد سنوات طويلة (1988) من لقاء براغ المميّز، وظلّت العلاقة حميمة وتمتاز بالمودّة والإعجاب وفي كتابي “الجواهري جدل الشعر والحياة”، كنت قد سألت الجواهري عن إبداع عدد من الشعراء العراقيين والعرب بمن فيهم مظفر النوّاب، فقال مقيّماً إبداع النواب بما يفيد أنه يعتبر من أبرز الشعراء الشعبيين المجدّدين، ناهيك عن إعجابه بنضاليته وشجاعته، فضلاً عن روحه الإنسانية ونبل أخلاقه، وظلّت العلاقة الحميمة قائمة على الرغم من شحّ اللقاءات لاختلاف حياة المبدعين وطريقة تعبير كل منهما عن ذلك في حياتهما الخاصة.
***
وإذا كانت لهجة التعبير الشعرية لدى مظفر النواب جنوبية، إلّا أنه شاعر بغدادي المولد والجذور والبيئة والثقافة وهو لم يسكن جنوب العراق ولم يتعرّف على لهجة أهله إلّا في أواسط الخمسينيات، حين ذهب إلى زيارة الأهوار في سفرة دامت لأسبوع واحد، وبمرافقة صلاح خالص وابراهيم كبّة ويوسف العاني فأسرته المنطقة وأهلها وأغانيها وطبيعتها ولهجتها، فقد كانت زيارته الأولى إلى العمارة عن طريق الكحلاء حيث عشائر “ألبو محمد” و”الشموس”، سبباً في تعلّقه باللهجة الجنوبية كما أشار في أكثر من مناسبة وزاد أنه وقع في عشقها، وفي حديث له مع كاظم غيلان (دوّنه في كتابه عن مظفر النواب – الظاهرة الاستثنائية، دار مكتبة عدنان، بغداد، 2015) عن كيفية تمكّنه من اللهجة يقول:
“إنها مثل امرأة منحتني هي نفسها ومكنتني منها… المرأة لا تستطيع أن تعشقك دون أن تمكّنك منها.. العامية سلسة مطواعة لا تستعصي على النحت والاشتقاق منها.. الصورة عنها أجمل وأكثر وضوحاً…”
ويقول مظفر النواب أنهم اكتشفوا غناء غير الذي يغنّى بالإذاعة على حد تعبير حسين الهنداوي، فلأول مرّة يسمع ويطرب للمحمداوي الذي كان يجيده جويسم، حتى أنه ظل في سهراته الخاصة يؤديه بطريقة مؤثرة.
ومن أغاني الهور شعر بالغنى الروحي لعالم جديد لم يألفه من قبل، بأبعاده وأحزانه وأشجانه ومعاناته وأفراحه، وهكذا ميّز “عامية المدينة” عن “عامية الأهوار” التي انحاز إليها لما تمتلكه من صور ورهافة وفضاء وألوان. حيث يقول “الهور ليس مجرد مكان، إنما هو زمن وروح أيضاً”، وهكذا أخذ الصوت يتفجّر في داخله من منولوج جوّاني إلى وسيلة تعبير برّانية، وكأنه الموازي الخارجي للقصب والبردي والطيور والماء والمجاذيف والفضاء الواسع والغناء الحميم. وكانت رحلته الثانية في العام 1958 حيث نظّم اتحاد الأدباء عدة زيارات إلى الأهوار وقام هو بتغطية صحفية عنها بما تحمل من جمال سومري وقرمطي.
لقد وقع النواب في عشق اللهجة العامية الجنوبية من أول نظرة كما يقال، فبعد أسبوع من المعايشة قرّر الاقتران بها، خصوصاً وكان قد تعلّق بها، فالأهوار هذا الفضاء المائي الشاسع يعطيه مثل هذه الصور المائية المتحرّكة المزدانة بالطيور بأنواعها والأسماك والحيوانات المتعددة والمدى اللّامحدود، وقد وجد في ذلك ضالته وخميرة أولية لإبداعه، لا سيّما والبيئة تمثّل رؤية تشكيلية متكاملة بذائقتها الجمالية ومفردات لغتها كما يقول محمد مبارك، وبذلك أحدث انعطافة موازية لما في الشعر الشعبي لما أحدثه رواد الحداثة الشعرية في الشعر الفصيح (محمد مبارك- الوعي الشعري، دار الشؤون الثقافية، بغداد، 2003) وما زاد في عشق مظفر اللكنة الجنوبية ولهجتها الجذابة هو اللقاء بعدد من المغنين مثل “غرير” و”جوسيم” و”سيد فالح” حيث اكتشف الثراء في الأصوات والأجواء والعوالم الجميلة. والهور بالنسبة لمظفر النواب “جسد ولغة من ماء” بكل ما فيها من أسرار وخبايا وجمال، إنها روح وثقافة مبللّة بالماء، ولعلّ الماء يعني الحياة و“جعلنا من الماء كل شيء حي” كما في القرآن (سورة الأنبياء، الآية 30).
(*) الجزء الأكبر من هذه المقالة تضمنته مداخلة للكاتب عبد الحسين شعبان ضمن ندوة دعا إليها “مركز كلاويژ” في مدينة السليمانية بكردستان (فندق الميلينيوم) بتاريخ 22 شباط/فبراير 2020 بعنوان “مظفر النواب يتلألأ في ضمائرنا”.
(**) غداً؛ الجزء الثاني والأخير