كانت الريح تحملني وتدور بي بسلاسة وهدوء. كنت أشعر بأن كل شيء يدور معها. فساتيننا وقبعاتنا والأزهار من حولنا وصولاً إلى أغصان الأشجار وأوراقها مروراً بخصلات شعرنا المجعدة وصوت أمي الآتي من خلفنا تطلب منا اللعب بهدوء.
كأن الركض حينها كان طقساً من طقوس الحرية الأولى، تتشاركه معنا الطبيعة بكل ألوانها وأشكالها.
حينذاك، كان منزل العائلة يُصوّر لي كأنه قلعة عملاقة فيها الكثير من المداخل والأبواب التي لا يمكن لأحد إكتشافها إلا أولئك الذين يعرفون كيف يتسلقونها. أما نحن الأطفال، فقد كنا نعرف جيداً فقط خبايا الحدائق الخلفية لمنازلنا الجنوبية.
ما زال المشهد يتراءى أمامي بكل تفاصيله. ما أن أسمع هدير سيارة والدي حتى أقتحم الفناء الخلفي وأركض عبر ممرات المنزل التي كانت تبدو أشبه بنفق طويل ومظلم لقلة الضوء الساطع فيها وذلك حتى أصل الى المدخل الأمامي وأقف عند أعلى درج المنزل الذي يصله بالحديقة الأمامية. أذكر جيداً أنني كنت أجمد في أرضي هناك بسبب الضوء المتسلل بقوة حيث يصبح أكثر إشراقا وبياضا ليلفح عينيّ وكأنه يجبرني على الوقوف في مكاني.
مشهد يكاد لا يفارق ذاكرتي كلما إستعدت تفاصيله أو حاولت أن أعرف لماذا كنت أعاود الكرة، مرة تلو الأخرى، بالركض من الفناء الخلفي عبر الممرات الداخلية المظلمة وصولا إلى أعلى الدرج، لأكتشف بأن ما أذهلني في ذلك الحين كان ذاك الضوء الأبيض الذي سيطر على بصري.. ضوءٌ لم يكن موجوداً فقط في ذلك المكان إنما أيضاً في حديقة المنزل. كان هو نفسه يلفح عيني الصغيرتين وأنا أنظر الى الشمس عبر أوراق الشجر فيما كان والدي يهتم بشجرات التفاح المزروعة بكثافة في حديقتنا الصغيرة. تلك الحديقة التي تختصر حدائق قريتنا في إقليم التفاح حيث نشأت وترعرت تحت أشجار التفاح الوارفة.
لا أدري لماذا تعلقت كثيرا بذاك النور. كان يشكل نهاية النفق وبداية الضوء. كأنه النقطة الفاصلة: نهاية مرحلة وبداية أخرى.. نقطة إنتهاء العتمة وبداية النور.. نقطة رسمت لي التعريف الواضح لمعنى الحرية بهذا الشكل البسيط والسلس وبكثير من الإنسيابية والطبيعية..
بالنسبة لي، أرهقني ذلك الضوء بألغازه حيث جعلني أطرح الكثير من الأسئلة، وأولها لماذا لم أكن أراه سوى في الجنوب وهل يختلف شعاع الشمس في بيروت عنه في الجنوب؟
مع الوقت إقتنعت بأن الشمس لم تكن هي نفسها في كل مكان، وهذا ما كان يحزنني في كل مرة نعود فيها الى بيتنا في بيروت، وكأنني كنت أترك بعض حريتي في الجنوب وأعود الى بيروت وأنا أشعر بغصة الإختناق.
في الجنوب، ثمة حياة لها لون آخر ومعنى آخر. في الجنوب حرية مطلقة غير مقيدة بأي شرط من شروط الإلتزام في الدوران والركض والتسلق المفروضة في أي مكان آخر..
ولدنا لكي نكون أحرارا ولكي نعيش أحرارا فما الذي حصل لكي يرضى البعض أن تُطمس ذاكرتنا وتُخطف حريتنا؟
لاحقاً عرفت أن هناك يداً متوحشة تسللت إلى جنوبنا وخطفت وقتلت ونكّلت. عرفت بأن موطني لم يكن دائما حراً. عرفت أيضاً بأن للحرية أثماناً باهظة وأنها في الكثير من الأماكن والأحيان ولدت من رحم الأنفاق والسجون. أنفاق تختلف عن دهاليز منزلنا. أنفاق حقيقية حفرتها أياد بطولية في عمق جبال قريتنا حيث كنا نتنشق نسيم الحرية والضوء والنور والحياة.
في تلك الأنفاق، كان لتسلل الضوء رونقه المميز وطعمه المختلف. له إنسيابية الوجع والألم والصمود.. علمت لاحقاً بأن كل هذا الحب كان مضاعفا لأوراق الشجر والصخور كيف لا؟ وقد حمت كل المقاومين في سعيهم لأجل هذه الحرية وهذا الضوء وكأنها تشاركت معهم في نضالهم الطويل وشكلت ثنائية طبيعية رفضت كل اشكال السواد والظلام والإضطهاد.
لن تكون غلبة إلا للقيود المنكسرة والحرية المنتزعة والأهم ترجمة الحب والإنتماء.. حب الأرض وحفظها هو بمثابة الحفاظ على الروح.. هو فعل إنتماء وفعل حب. المقاومة هي واجب إنساني وأخلاقي لصون الحرية والدفاع عنها.. الحرية لا تتحقق إلا من خلال المتحررين من عقدة الإستعمار والتبعية وفق منسوب عال جدا من الحب والإنتماء.
الحرية لا يمكن أن تكون منقوصة وهي لا تكتمل إلا باستعادة فلسطين. مقاومتنا هي وعد الحر. ولأن وعد الحر دين.. سنصلي في القدس.
المقاومة هي شكل من أشكال الحب. حب الأرض. حب الحياة. وفيها الكثير الكثير من حب الله.
في 25 أيار/مايو 2000، حرر المقاومون أرض الجنوب من مخالب الغاصب المحتل.. بأسمى أشكال الحب والإنتماء.
طوبى للذين إرتقوا شهداء. سنحمي دماءكم ونكمل الطريق.