ضمن هذا الصراع، تظهر “الهيدروكربونات” وبالأخص “الغاز” كأحد الأسلحة وربما أمضاها. تستعمل روسيا هذا السلاح ضد وكلاء أميركا من الدول الصناعية في أوروبا، كما تستعمله أميركا بالمقابل لتطويع تلك الدول كونها الوحيدة التي تستطيع أن تؤمّن لها البديل.
نصل بذلك إلى هذا البديل وهو غاز الحوض الشرقي للمتوسط. الغاز المصري “الغزير”. يضاف إليه الغاز “الإسرائيلي” الناتج أو الذي يمكن أن ينتج من حقول جديدة أحدها حقل “كاريش”. بهذا المعنى، يقارب المسؤول الأميركي آموس هوكستين ملف الحدود اللبنانية ـ “الإسرائيلية” من ضمن رؤية تشمل تحشيد كل مصادر الطاقة في العالم وبينها حوض شرق المتوسط في مواجهة الغاز الروسي، وهذا ما يمكن أن يُفسر الإلحاح الأميركي على حل قضية ترسيم الحدود لطمأنة الشركات الدولية وإمرار خطوط الأنابيب، ممّا يجعل الضغط على لبنان للتنازل في موضوع الحدود البحرية الجنوبية بمنع استجرار الغاز المصري مفهوماً: إذا لم “يحلحلها” لبنان مع إسرائيل بِدءًا باقتسام الحقول (قانا تحديداً) وصولاً إلى السماح بتمديد الأنبوب الإسرائيلي إلى تركيا ومنها إلى أوروبا، فلن يسمح هوكستين باستجرار الغاز المصري لحلّ مشكلة الكهرباء في لبنان ولو جزئياً، متذرعاً من الآن فصاعداً بأنّ البنك الدولي لم يوافق بعد على تمويل شراء الغاز من مصر بعدما كان تذرّع بأن العقد بين لبنان ومصر لم يكن قد وُقّع.. وقبلها إصرار الشركة المصرية على إستثناء قانوني أميركي صلب من عقوبات “قانون قيصر”.
يُجسّد العقد الذي وقّع في 21 حزيران/يونيو الماضي بين لبنان ومصر هذا الضغط على لبنان، ولو بطريقة مبطّنة، فالغاز الذي سيأتي إلى لبنان ليس غازاً مصرياً بحتاً إذ أنه في أحسن الحالات خليط من الغازين المصري والفلسطيني الذي تضخّه إسرائيل من حقولها. ويتجلّى ذلك بحقيقتين:
– أولاً أن مصر تستورد الغاز الإسرائيلي لكفاية استهلاكها، وإن كان ذلك تبعاً لمنظومة أنابيب معقّدة، تطبيقاً لأحد بنود معاهدة السلام بينها وبين إسرائيل.
– ثانياً أنّ إسرائيل تريد ضمناً أن تفتح باب التطبيع مع لبنان وبالواسطة مع سوريا. يتأتّى التطبيع المبطّن مع لبنان من خلال بيع الغاز المسمّى “مصرياً”، بشكل أوّلي. أما التطبيع مع سوريا فتتوخاه إسرائيل من خلال أحد جوانب العقد ألا وهو أن لا “ربط أنبوبياً” بين الأنبوب الآتي من مصر والأنبوب الذي سيصل إلى لبنان من حمص. يعني ذلك أنّ مصر ستبيع لبنان بعضاً من غازها يصل إلى جنوب سوريا مختلطاً بغازٍ “إسرائيلي” يفوقه حجماً فتأخذه سوريا كاملاً لاستعمالها وتعطي لبنان كمية مقابلة من غازها هي ينطلق من شمال سوريا إلى شمال لبنان مع حسم الـ50 مليون متر مكعب لقاء “أتعاب” سوريا.
كيف يظهر ذلك في العقد؟
يوارب كاتبو العقد ويجتهدون لإخفاء التفاصيل في ثنايا النص.. ولكنهم يخفقون. يبدأون العقد بالـ”Definitions” ولكنهم لا يحددون ما يمكن أن يدلّ على مصدر الغاز ولا على كيفية وصوله إلى لبنان تحت هذا العنوان.
ينسف العقد الحالي كلّ الاتفاقيات والعقود والضمانات والوعود والعهود والتفاهمات السابقة مكتوبة كانت أم شفهية، صريحة أو ضمنية، علماً أنّ عملية التسويق للاتفاقية الحالية ركّزت على أنّ العقد الحالي هو استكمال لاتفاقية العام 2009 بين لبنان ومصر، والتي وقّعها آنذاك وزير الطاقة والمياه.
وقّع الاتفاق الجديد عن الجانب اللبناني المديرية العامة للنفط. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المادة 56 من قانون المحاسبة العمومية تنصّ على أن “الوزير المختص هو من يعقد النفقة، ما لم ينص القانون على خلاف ذلك”. وبما أنّ العقد الحالي يرتّب موجبات وأعباء ونفقات على الخزينة العامة، فذلك يعني انّ الوزير هو مَن كان عليه توقيع هذا العقد باسم الدولة اللبنانية. وعليه، فإنّ المديريّة العامة للنفط لا تتمتع بالصلاحية المطلوبة للتوقيع، حتى ولو كانت مكلّفة من وزير الطاقة. فتفويض مجلس الوزراء يجب ان يتوقف عند حدود الوزير؛ بالتالي، لا يمكن للوزير “المُفوَّض له” ان يُجيّر تفويض صلاحية التوقيع لأي موظّف أو مدير عام. فذلك يُعتبر “تفويضاً على التفويض”وهو باطل قانوناً وفقا للمبدأ المعروف:”délégation sur délégation ne vaut”.
إسرائيل تريد ضمناً أن تفتح باب التطبيع مع لبنان وبالواسطة مع سوريا. يتأتّى التطبيع المبطّن مع لبنان من خلال بيع الغاز المسمّى “مصرياً”، بشكل أوّلي. أما التطبيع مع سوريا فتتوخاه إسرائيل من خلال أحد جوانب العقد ألا وهو أن لا “ربط أنبوبياً” بين الأنبوب الآتي من مصر والأنبوب الذي سيصل إلى لبنان من حمص
إن جميع العقود التي تجريها الدولة يجب ان تُصاغ أولاً باللغة العربية وثانياً باللغة التي إما يطلبها المتعاقد أو يتم الاتفاق عليها بين فرقاء العقد. في الوضع الراهن، وخلافاً للمبادئ العامة، العقد محرّر باللغة الإنكليزية فقط. وإذا تمعّنّا في بنوده، نرى أن تحريره بالإنكليزية تمّ بصورة قصدية فـ”بعض” العبارات المستخدمة فيه غير واضحة لا بل فضفاضة إلى درجة تصعب ترجمتها إلى العربية. فحرفية الترجمة لن تكشف ما أُخفي من أهداف مستترة في بنود هذا العقد.
وبما أن العقد بين مصر وسوريا ولبنان، لماذا لم يُحرّر باللغة العربية، عملاً بالمبادئ القانونية، ثم تُرجم إلى الإنكليزية للاستحصال على موافقة البنك الدولي الذي لن تكفي أمواله لتمويل الأكلاف سوى 18 شهراً؟
أما المستغرب فهو بند “السرية”. هذا البند عينه يطغى على عقود وزارة الطاقة كافة، علماً أنّ هذه “السرّية” يمكن أن تشكل أبواباً للفساد. تناقض “السرّية” المطلقة المبادئ المنصوص عنها في قانون المحاسبة العمومية. لا يندرج العقد الحالي ضمن ما استثناه قانون حق الوصول الى المعلومات، مما يجعل هذا البند باطلاً بطلاناً مطلقاً لانه لا يجوز للدولة ان توافق على إدراج مضامين في البند تكون تحت سرّية مطلقة. فعقد “استجرار الغاز من مصر عبر سوريا” لا يتعلق بالامن القومي ولا بتنسيق أجهزة مخابراتية في ما بينها، بل يتعلق بمرفق عام مشابه لأي مرفق آخر تملكه الدولة.
من الواضح أن حكومة تصريف الأعمال في لبنان تريد توجيه رسائل خارجية من خلال ملف الترسيم والغاز المصري، وصولاً إلى محاولة الإيفاء بالحد الأدنى من تعهداتها الكهربائية التي لم تلتزم بها منذ ولادتها في مطلع الخريف الماضي.
أما الموفد الأميركي هوكستين فإنه يريد من خلال هذا “الجمباز” الجيوستراتيجي تحقيق ثلاثة أهداف:
– الأول واضح فهو يريد أن يخدم إسرائيل بإدخالها من الكوة بدلاً من الباب إلى التطبيع مع لبنان، ومن خلاله مع سوريا ولو بشكل خفيّ.
– الثاني يتعلق به شخصياً، فهذا “الإنجاز” يُؤمّن لهوكستين مستقبلاً شخصياً مجزياً.
– الثالث وهو الأهم، إستثمار كل فرصة طاقوية في العالم من أجل تضييق الخناق على روسيا ومنعها من الخروج منتصرة من حرب أوكرانيا.