اليوم ثمة تخلخل في النظام العالمي، نتيجة حرب أوكرانيا. أزمتا الطاقة والغذاء تهدّدان شعوب الأرض، وهذا ما حذّرت منه تكراراً الأمم المتحدة.. وما يجري في سريلانكا ليس إلا بداية سلسلة انتفاضات شعبية ستصيب بلداناً نامية عديدة. علينا ألا ننسى أنّ الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في نيسان/أبريل الماضي في سريلانكا، أطلقت شرارتها الأولى أسعار المحروقات هناك، معطوفة على فساد سياسي كثيف وسوء توزيع للثروة الوطنية.. جعل خزائن هذه الدولة فارغة فجأة ومن دون عملات أجنبية كافية لإستيراد المحروقات والطعام والدواء، حتى أن المساعدات الدولية لم تتمكن من حماية دولة قررت التخلف عن سداد ديونها الخارجية (51 مليار دولار) في أيار/مايو الماضي، فكان لا بد من اللجوء الحتمي إلى صندوق النقد الدولي.
وككل مرّة ستدفع البلدان النامية فاتورة أزمات الرأسمالية المتكررّة. وهذا يعود بالطبع الى تبعية الاقتصادات الوطنية لهذه الدول بالاقتصاد العالمي، ومركزيته. إضافة الى ذلك، فإنّ البلدان النامية وخاصة التي تتوافر فيها اقتصادات ذات طابع ريعي، تتميّز بعدم انتاجيتها أو طغيان البنى الاقتصادية التقليدية على نشاطاتها، ما يعرّض هذه الدول لأزمات اقتصادية دورية فيها. ولا يختلف الوضع كثيراً في البلدان التي تتمتع بموارد طبيعية غنيّة لأنه ـ في أغلب الحالات ـ تكون هذه الموارد إما مستلبة من قبل الأنظمة السياسية أو عائداتها تعود بالفائدة على شبكة من التنفيعات يجري تقاسمها بين البورجوازية المحلية ونظيرتها الدولية.
ماذا عن إمكان حدوث انتفاضات شعبية عربية؟
غنيّ عن القول أنّ أزمة الغذاء بدأت تصيب دول عديدة في العالم. وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية العالمية “الفاو”، فإنّ اليمن والصومال وجنوب السودان ثلاث دول من أصل ستة تصنفها المنظمة بأنها الأكثر عرضة للجوع نتيجة انعدام الأمن الغذائي فيها. ويضيف التقرير أن دولاً أخرى تواجه “درجة خطر مرتفعة في ما يخص أمنها الغذائي”، ومنها سوريا والسودان. مصر بدورها، قد حصلت في شهر حزيران/يونيو الماضي على قرض من البنك الدولي بقيمة ٥٠٠ مليون دولار وذلك لتعزيز جهود الأمن الغذائي. ومن غير الواضح بعد كيف سيتمكّن لبنان من تجاوز أزمات إضافية وهو الرازح تحت عبء أزمة اقتصادية كارثية هي الأخطر منذ عقود كما وصفتها منظمات دولية عديدة.
مشهدا سريلانكا وبريطانيا تصدرّا الاهتمام السياسي والإعلامي مؤخراً. في البلد الأول، انتفاضة شعبية عارمة أدّت بالرئيس للتنحي عن السلطة، وفي البلد الثاني، مظاهرات ضد الغلاء المعيشي في مشهد بدا غير مألوف لسنوات خلت. أدت هذه التطورات الى جانب عوامل أخرى، الى استقالة بوريس جونسون أيضاً
معظم الدول العربية ما زالت تعاني من ارهاصات الموجة الأولى من الانتفاضات (٢٠١٠-٢٠١١)، ثم ضربت الموجة الثانية دولاً لم يشملها “الربيع العربي” في نسخته الأولى، تحديداً المغرب (٢٠١٧) والسودان (٢٠١٩). وإذا كانت كل هذه الاحداث عقدّت المشهد السياسي في هذه الدول، فإنها فاقمت أيضاً من حدّة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، خاصةً وأن جائحة كورونا فاقمت الأزمات الاقتصادية والاجتماعية حيث تباطأ معها الإقتصاد وضعفت فرص النموّ. وبغض النظر عمّا إذا كانت تداعيات الازمة الحالية ستصيب الدول العربية أو ستكون بمنأى عنها، فإنّ ما حدث ويحدث في السودان منذ شهر الى الآن، يؤشر الى أن الصراع بين القوى الثورية وقوى الثورة المضادة لم ينته بعد في هذا البلد وفي بلدان عربية أخرى، بعكس كلّ التحليلات التي كانت تشي برجحان كفّة العسكر.
هل من أوجه شبه بين أزمتي ٢٠٠٨ و٢٠٢٢؟
أوجه الشبه قائمة بين أزمة ٢٠٠٨ والأزمة الحالية، غير أنّ الفارق بين المحطتين، في كون مركز الرأسمالية العالمية (الولايات المتحدة) وان كان قد استطاع تجاوز أزمة الـ ٢٠٠٨ مرحلياً، الا أنه (ومعه الدول الأوروبية) قد يواجه وضعاً مختلفاً هذه المرّة. دليلنا على صحة هذا الإستنتاج ثلاث حقائق. الأولى؛ التقارير الصادرة عن مؤسسات بحثية عديدة وتفيد بأنّ ارتفاع الأسعار في الولايات المتحدة خلال شهر حزيران/يونيو الماضي كان أسرع من المتوقع، حيث دفع ارتفاع تكاليف الطاقة والغذاء التضخم إلى أعلى معدل له منذ عام 1981. الحقيقة الثانية هي ما شهدته بريطانيا في الأسبوع الثاني من شهر حزيران/يونيو أيضاً، من إضراب نقابي لعمال سكك الحديد، هو الأكبر منذ ٣٠ عاماً. استطراداً، دفع جونسون ثمناً باهظاً للركود الاقتصادي في بريطانيا، وهذ السبب برأيي من الأسباب الجوهرية التي سرعّت الإطاحة بحكومته. أما الحقيقة الثالثة، فتتجسد بهبوط سعر اليورو إلى ما دون الدولار، يوم الثلاثاء في ١٢ تموز/يوليو، وسط أزمات الطاقة التي تدفع أوروبا إلى الركود، وزيادة الطلب على العملة الخضراء كملاذ آمن.
ما بين بريطانيا وسريلانكا!
مشهدا سريلانكا وبريطانيا تصدرّا الاهتمام السياسي والإعلامي مؤخراً. في البلد الأول، انتفاضة شعبية عارمة أدّت بالرئيس للتنحي عن السلطة، وفي البلد الثاني، مظاهرات ضد الغلاء المعيشي في مشهد بدا غير مألوف لسنوات خلت. أدت هذه التطورات الى جانب عوامل أخرى، الى استقالة بوريس جونسون أيضاً. بإختصار، أرخت الازمة الاقتصادية العالمية الحالية بظلالها على بريطانيا (دولة متقدمة) وسريلانكا (دولة نامية) على حدٍ سواء. انها فعلاً لمفارقة أخرى من مفارقات التاريخ العجيبة خاصة إذا عرفنا أنّ سريلانكا كانت مستعمرة من قبل بريطانيا سابقاً.
خاتمة
تأسيساً على كلّ ما تقدّم، فانّ سريلانكا ستكون البداية وليست النهاية في قطار احتجاجات شعبية سيتميز هذه المرة بعبوره معظم القارات.. وثمة دلائل وإشارات تصب في هذا الإتجاه بينها التحذير الذي أطلقته رئيسة صندوق النقد كريستالينا غورغييفا بأن العام 2022 “سيكون صعباً.. وربما يكون عام 2023 أكثر صعوبة مع زيادة مخاطر الركود” الإقتصادي عالمياً.