“قوة لبنان في ضعفه”: أساطير مسيحية مؤسِّسة (1)

في كل تعبير لحزب الله عن إبراز قوة الردع في مواجهة إسرائيل – العدو للبنان تذكيراً لمن سها ذلك عن باله، تتصاعد أصوات مرجعيات دينية وقوى سياسية في البيئة المسيحية اللبنانية في طليعتها البطريرك الماروني، القوات اللبنانية والكتائب اللبنانية، معترِضة ومندِّدة ومشكِّكة. الأحرى متبرّمة من فائض قوة حزبٍ إسلامي إيديولوجي وعقائدي يختلف عنها شديد الإختلاف.

تطرح هذه المرجعيات والقوى والشخصيات أفكاراً تقليدية رفعتها منذ ما قبل الحرب قوى وشخصيات مسيحية أساسية، كالتعويل على المجتمع الدولي – بقيادة غربية وتحديداً أميركية – ومن ترجماتها شعار “البوليس الدولي” الشهير للراحل ريمون إده، الجيش اللبناني، اتفاقية الهدنة، القرارات الدولية إلخ.. وما دامت القوة العسكرية لحزب الله “جاذبة” بذاتها للإعتداء الإسرائيلي، فلم لا تكون هذه البدائل ضماناً لحماية لبنان وسيادته؟

تحيلنا هذه الأفكار إلى نقاش في عمق الوجدان المسيحي اللبناني التقليدي، قبل أن تأتي قوة مسيحية وازنة فتُدخل تغييراً جذرياً في هذه المفاهيم التقليدية، وأقصد بذلك الحالة العونية، إلى حد هدم بعض الأساطير المؤسِسة لهذا الوجدان من زاوية مدى مواءمتها للمتغيرات الإستراتيجية التي عصفت بلبنان والمنطقة والعالم في العقود الأخيرة.

لنتفق أولاً أن هذا النقاش يبتغي المحافظة على ثوابت الوجدان المسيحي اللبناني، لجهة حماية الحرية الشخصية والجماعية والتنوع والحفاظ على الحضور والدور الفاعل وخصوصية لبنان في مشرقه وعالمه العربي.

“الحسَد” الطائفي مفهوم، وكذلك التمسك بمرجعية الدولة سقفاً لأي نشاط سياسي وعسكري. لكن ماذا عن “لبنان القوي” الذي حلمَ به بشير الجميل ورفعه شعاراً ميشال عون فصار ملازماً لبزته العسكرية، أم أن قوة لبنان المفترضة تستثني إسرائيل تحديداً؟

“حسَد” القوة المفهوم

قد يكون هذا التبرّم في البيئة المسيحية مفهوماً من زاوية “الحسَد” التقليدي بين الطوائف والأحزاب اللبنانية على اكتساب القوة، ومنها السياسية والديموغرافية والعسكرية والتنظيمية. من الصعب على المسيحيين الذين كانت لديهم مؤسسة عسكرية قتالية من الكتائب المنظمة بـ”كشافتها” (عروض سينما “الروكسي” وغيرها)، ومن ثم بجيشها المدجج بأسلحة البحرية والمدفعية والإشارة والوحدات الخاصة في القوات اللبنانية أن يروا حزباً آخر يمتلك القوة وينظم استعراضات بحجم أكبر بكثير وبعلاقة عضوية مع دول إقليمية، وبشعارات تتجاوز أحياناً النطاق اللبناني. هذا “الحسَد” مماثل لما يقول بعض المخضرمين في السياسة اللبنانية إنَّ قيادات إسلامية شيعية (بعضها اليوم في حزب الله وكانت سابقاً في حزب الدعوة) كانت تنظر به إلى استعراضات الكتائب العسكرية في الستينيات والسبعينيات ومطلع الثمانينيات، وتفكِّر في بناء تنظيم مماثل. وبالتأكيد “الحسَد” المسيحي موجود لدى البيئة السُنية التي أُقصيَ “سلاحها الفلسطيني” في العام 1982 ومن ثم تم تحييد ذراعها التاريخية “المرابطون” في منتصف الثمانينيات الماضية، وأيضاً لدى البيئة الدرزية التي سلمت سلاحها إنسجاماً مع قرار حل الميليشيات ونزع سلاحها في العام 1990. بإختصار الكل ينشُد القوة ويتمناها لنفسه أولاً.

خطورة “الضعف” على لبنان

“الحسَد” الطائفي مفهوم، وكذلك التمسك بمرجعية الدولة سقفاً لأي نشاط سياسي وعسكري. لكن ماذا عن “لبنان القوي” الذي حلمَ به بشير الجميل ورفعه شعاراً ميشال عون فصار ملازماً لبزته العسكرية، أم أن قوة لبنان المفترضة تستثني إسرائيل تحديداً؟

طالب بشير بجيش من مئة ألف جندي يكون ركيزة لقوة لبنان. ومن المفهوم أيضاً أن هذا “الحلم” استند آنذاك على دعم أميركي وأتى في الإطار التاريخي والسياسي المعروف لمعادلات ذلك الزمن، لكن الأكيد أن القراءة البشيرية التي تجلَّت في خطابه العام ضربت مفهوم الضعف التقليدي الذي أفصحتْ عنه جمهورية 1943، ولو أن هذه القوة كانت بطبيعة الحال ترى في “الفلسطيني” و”السوري” الخصم الأول للبنان.

هذا الضُعف البنيوي اللبناني ما بعد 1943 ترك إسرائيل تستبيح الجنوب وسمح للمنظمات الفلسطينية بأن تسيطر عليه بعد إبعادها عن الأردن وتجعله ساحة، على الرغم من أنَّ الجيش اللبناني بعتاده الضعيف والمحدود سجل مآثر متعددة، بينها مواجهة 1970 في سوق الخان التي أحرق فيها العسكريون اللبنانيون الكثير من الدبابات الإسرائيلية. لكن حجم القوة الإسرائيلية وسيطرة القوى الفلسطينية آنذاك كان أكبر من نواة الجيش اللبناني ومن قدرة الجمهورية اللبنانية على التحمل، فأدى هذا الضعف إلى ولادة الظاهرة السياسية الشيعية مع الإمام السيد موسى الصدر وصولاً إلى حزب الله الذي تطور في مراحله المختلفة وضمن الديناميكيات الإقليمية المعروفة إيرانياً وبتسهيل لوجستي سوري متفاوت حتى تمكن بشار الأسد من السلطة في العام 2000، بالتزامن  مع تحرير الجنوب اللبناني من الإحتلال الإسرائيلي.. من دون قيد أو شرط.

حسابات القوة والمتغيرات

بالتالي كانت “قوة لبنان في ضعفه” والتعويل على “المجتمع الدولي” مولوداً جهيضاً في المهد مع كيان إسرائيلي عدواني شرس وقوى إقليمية تستبيح “لبنان الضعيف” طالما “حيطه واطي”. لم تقدم “الشرعية الدولية” و”مجلس الأمن” والقرار 425 لأهل الجنوب لا انسحاباً إسرائيلياً ولا تحجيماً للقوة العسكرية الفلسطينية، ولم تنسحب إسرائيل من دون قيد أو شرط إلا نتيجة بندقية مقاومة حزب الله التي ورثت بندقية المقاومة الوطنية اللبنانية.

ومن الطبيعي أو من حق كل مجموعة طائفية في لبنان أن يكون لديها صورتها للبنان وقراءتها الأسطورية له، بالقيادات والشعارات والصور والأغاني والأحلام، والجميع في لبنان لديهم هذا المتخيل الذي ليس بالضرورة أن ينطبق على الواقع، وهنا مكمن القراءات الخاطئة، ولدى الجميع أيضاً. من هنا، إذا كان الوجدان المسيحي اللبناني ينطلق من شعار كل لبنان والـ10452 كلم مربع، فيجب أن يرى أن جنوبيي هذا “اللبنان” وعوا الإستقلال بين نار إسرائيل ومجازرها وإعتداءاتها اليومية المتكررة على القرى الأمامية، ولاحقاً نار المنظمات الفلسطينية المسلحة، وكان الحديث عن التسليح والملاجئ و”الحرس الشعبي” (تجربة الحزب الشيوعي اللبناني في مطلع السبعينيات الماضية) حاضراً قبل ولادة ظاهرة إسمها حزب الله بتحالفاتها الإيرانية والإقليمية. ولم يستطِع النظام اللبناني الضعيف أن يستوعب هذه التفاعلات فكان الإنهيار سريعاً، ومن حطام الدولة اللبنانية الضعيفة ولدت البنى العسكرية لأحزاب لبنانية على ضفاف المسيحيين والمسلمين. اللهم إلا إن كان البعض يرى إسرائيل كياناً وديعاً مسالماً على طريقة تسمية جيش “الدفاع” الإسرائيلي”، ولا يمتلك أي مقاربة توسعية تجاه لبنان، وثرواته، هذا إذا استثنينا جوهر طرده للفلسطينيين وإبقائه المنطقة كلها تحت نار الغليان، وأن حزب الله أو غيره هم من يعتدون عليه وعلى نواياه “المسالمة” أو “السلمية”.

إقرأ على موقع 180  مُحرّكات الشراكة الصينية ـ العربية.. الطاقة أولاً (2/2)

التسويق الخاطىء لفكرة خاطئة

استطراداً، التسويق الخاطئ نفسه لـ”قوة لبنان في ضعفه” للتعاطي في ملف ثروة الغاز التي تضع لبنان على طاولة اللاعبين الإستراتيجيين في المنطقة، و”النقزة” الدائمة كلما رفع السيد حسن نصرالله من نبرة صوته للردع وتحسين شروط لبنان في التفاوض، ما يصب في مصلحة لبنان، وطن المسيحيين وكيانهم التاريخي، وفي الوقت الذي تحسِب فيه إسرائيل مئة ألف حساب لهذه القوة، لا يؤدي إلى أي نتيجة عملية سوى اغتراب هذه القوى المسيحية عن صناعة مستقبل لبنان وإلى التباعد مع شريحة لبنانية كبيرة تقع على حافة الخطر الجغرافي المباشر مع كيان العدو، مهما اختلفتْ عنها في اللباس والعقيدة ونمط الحياة (كما يبرزها تضخيم الثنائية المبسطة المايوه/الحجاب لحسابات سياسية)، فضلاً عن تقديم هدايا بخِسة مجانية لغرب لم يحسب مرة حساباً للمسيحيين في سياساته تجاه المنطقة. وكيف لنا في النهاية ونحن نقول لحزب الله أنت من صنعت “حرب تموز” (2006) الأميركية المنتج في مطابخ المحافظين الجدد، وأنت من استدرجت الإرهاب التكفيري إلى لبنان، وأنت من يجب أن يكون ضعيفاً أمام الإسرائيلي والأميركي في مواجهة إستحقاق الغاز، أن نأتي إليه لاحقاً لنقول: تخلَّ عن سلاحك وادخُل فناء دولة نريد استمرارها على قاعدة الضعف التأسيسي!

من حطام الدولة اللبنانية الضعيفة ولدت البنى العسكرية لأحزاب لبنانية على ضفاف المسيحيين والمسلمين. اللهم إلا إن كان البعض يرى إسرائيل كياناً وديعاً مسالماً على طريقة تسمية جيش “الدفاع” الإسرائيلي”، ولا يمتلك أي مقاربة توسعية تجاه لبنان، وثرواته، هذا إذا استثنينا جوهر طرده للفلسطينيين وإبقائه المنطقة كلها تحت نار الغليان

معالجة الأساطير المؤسِسة

لقد صنع مسيحيو لبنان الكثير من جوانب لبنان الجميلة إضافة إلى امتلاكهم شرعية تأسيس الوطن، وثوابتهم لجهة احترام حرية الإنسان الفرد، والجماعات الطائفية، وخصوصية لبنان المتنوع في عالم عربي يشهد تقلبات في استخدام الدين وتكريس السلطوية، يجب التمسك بها والحفاظ عليها، لأن كل مجموعات لبنان هي أقليات لجأت إلى الجبل للحفاظ على الحرية والخصوصية. لكن جوهر مشكلة من يتمسكون بوجدانهم “التاريخي – التقليدي”، هو إنكار المتغيرات وعدم بناء سياسات مختلفة للتعاطي معها، بما في ذلك فهم وجدان الآخرين في لبنان كما يطلبون منهم أن يفهموهم.. وبالتالي لا بد من التفكير في معالجة الأساطير المؤسِسة، أسطورة “قوة لبنان في ضعفه” المرتبطة بأسطورة “حماية الغرب” التأسيسية وأسطورة أخرى هي أن الخصم أو العدو الأساسي والحقيقي هو “العربي في الخارج والمسلم في الداخل”، وتحييد إسرائيل عملياً عن صورة “العدو”.

والحسَد مفهوم، وكذلك الإختلاف كبيراً كان أم صغيراً مع حزب الله، لكن الإستمرار في سياسة “النعامة”، لن يؤدي سوى إلى المزيد من الخسائر، والبعد عن الواقع. الأمر يحتاج إلى مراجعة مختلفة وبروحية إيجابية، فإذا إستطعنا تفهم ظاهرة حزب الله، يُمكن أن يصبح الحزب نفسه أكثر تفهماً لكيفية تبديد هواجس الآخرين. هذا النص هو مجرد مدخل للنقاش..

Print Friendly, PDF & Email
ميشال ن. أبو نجم

صحافي وباحث سياسي لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  ممدوح سلامة لـ180: أسعار النفط ستتصاعد.. والاتفاق النووي لن يُوقع!