كلما كانت نهاية عهدي تقترب، كنت أشعرُ بأن الانتخاب المقبل سيأتي محفوفاً بالأخطار. الطموحات والمطامع لم تعد مستترة، حتى في فريق الشرعية. الطموحات الشخصية تهدّد بإفساد دور المؤسسات. في 29 تمّوز/يوليو 1988، نقل إليَّ السفير (الأميركي) جون كيلي رسالة مقلقة للغاية، مفادها أن قائد الجيش (ميشال عون) يُعدّ لانقلاب عسكري خلال الانتخابات الرئاسية.
إعتاد كيلي تزويدي معلومات مستقاة من أجهزة الإستخبارات الأميركية.
تبلّغتُ هذه المعلومات من إيلي سالم الذي كان اجتمع به، الثامنة والنصف صباح ذلك اليوم في منزله في اليرزة، ودوّنها في تقرير تضمّن مواقف واشنطن أيضاً من الانتخابات الرئاسية الوشيكة ومرشّحيها. لم تخلُ من إشارات واضحة وحازمة، وخصوصاً بإزاء التركيز على ما يضمره العماد ميشال عون: إنقلاب عسكري بطريقة ما.
في تقرير سالم الآتي:
“1 ـ أبلغني جون كيلي أن على الرئيس الجميّل أن يعرف أن العماد ميشال عون يفكر في إنقلاب في أثناء الانتخابات، ولا يعرف إلى أي مدى ذلك جدّياً. لا نعرف كم عدد الضبّاط المتورّطين معه. لكن ما نعرفه بالتأكيد أن هذه الفكرة تراوده، ولا بدّ من عدم نشر الجيش في الداخل خلال الانتخابات حتى لا يستفيد ميشال عون من هذه الخطوة، ويستخدم هذا الإنتشار لأهدافه. إنتشار الجيش ليس ضرورياً أبداً. إذا كان ثمّة اتفاق على مرشّح، يحضر النواب إلى المجلس ويقترعون بحرّية. إذا تعذّر الاتفاق، فإن الإنتشار لن يساعد أبداً، بل يُعقّد الوضع.
2 ـ نعتبر أن الانتخابات يجب أن تُجرى في موعدها الدستوري، وفي أقرب وقت يمكن أن يكون أفضل. لسنا من رأي رئيس الحكومة سليم الحص أن تتأخر إلى 21 آب/أغسطس. إذا كان ثمّة اتفاق، يجب أن يحصل فوراً حتى نوفّر على اللبنانيين مزيداً من المعاناة.
3 ـ سليمان فرنجيه لن يكون رئيساً للجمهورية. ريمون إده وميشال عون يعارضهما الرئيس والقوات اللبنانية، ما يجعل انتخاب أحدهما غير ممكن. جان عبيد تعارضه القوات اللبنانية ويتعذّر انتخابه.
4 ـ إمكان انتخاب ميشال الخوري يتقلّص. جورج أفرام تزايدت أسهمه في الأسبوع الأخير. نعتبر مخايل ضاهر خارج اللعبة بعدما صرّح باقتراعه لفرنجيه إذا ترشّح، ولأنه يقيم في القبيات، ويبدو أنه على تفاهم مع إيلي حبيقة.
5 ـ المرشّحون الباقون هم رينه معوّض وميشال إده وميشال الخوري ومنوال يونس وجورج أفرام وبطرس حرب يُعتبرون من الفئة المقبولة. لمعوّض بالطبع مشاكل مع فرنجيه، ولا نعرف إذا كان قادراً على معالجتها. الذي نعرفه أن مورفي إذا تكلّم مع الأسد عن جورج أفرام سيسأله: جورج ماذا؟”.
يخلص جون كيلي إلى القول لإيلي سالم: “أتمنّى على الرئيس الجميّل، في الاجتماع بمورفي، أن يهمس له بأسماء المرشّحين الذين يُحبّذهم. لا أعرف هل أن عليه أن يذكر إسماً أو أكثر. طرح إسم قد يحرقه. لستُ سياسياً لبنانياً، والرئيس الجميّل أدرى بالأمر”.
أبلغني جون كيلي أن على الرئيس الجميّل أن يعرف أن العماد ميشال عون يفكر في إنقلاب في أثناء الانتخابات، ولا يعرف إلى أي مدى ذلك جدّياً. لا نعرف كم عدد الضبّاط المتورّطين معه. لكن ما نعرفه بالتأكيد أن هذه الفكرة تراوده
على أثر بروز إحتمال ترشيح سليمان فرنجيه، فجأة تذكّر صهره وزير الداخلية عبدالله الراسي، المعتكف منذ تأليف الحكومة قبل أربع سنوات، صلاحيته، هو الذي يقاطع الحكم والمؤسسات تلبية لطلب سوريا وحميه.
بناء على كتاب إليه من سليم الحص في 19 تمّوز/يوليو، يطلب إتخاذ التدابير الأمنية المناسبة لحماية الانتخابات (الرئاسية)، كتب الراسي إلى وزير الدفاع عادل عسيران، اليوم نفسه، يطلب بدوره تكليف الجيش حفظ الأمن مع إقتراب دخول البلاد في المهلة الدستورية بعد أربعة أيام، حاضّاً إياه على تدابير أمنية إستثنائية في البقعة التي يقع فيها المقرّ الموقت لمجلس النواب، وتقيم غالبية النواب، وتصل شرقاً إلى وادي شحرور وجنوباً إلى حرم مطار بيروت. على أن يصار إلى منع أي ظهور مسلح غير شرعي، ومواكبة النواب في تنقّلهم وضمان أمنهم في منازلهم، وفي محيط قصر منصور. أحال عسيران، في الغداة، الكتاب إلى قائد الجيش، الراغب في نشر قواته لكن بشروطه. لذا كتب هو الآخر في 21 تمّوز/يوليو إلى وزير الداخلية يسأله عن دور القوات السورية في بيروت الغربية المكلفة المحافظة على الأمن فيها بموجب بيان دمشق في 21 شباط/فبراير 1987 (لدى دخول الجيش السوري إلى هذا الشطر من العاصمة)، والجهة المنوط بها ضبط المسلحين خارج البقعة المحدّدة في حال تعرّض القوى الشرعية داخلها إلى قصف.
جاءني العماد عون ـ منتهزاً الفرصة ـ يُعلمني أن من واجبه الإمتثال لأوامر وزيري الدفاع والداخلية. كان يعلم تماماً أن حظوظ فرنجيه في الانتخاب معدومة، لكن المسألة تتيح له التحكّم بهذه البقعة عسكرياً، وإظهار نفسه كحلّ بديل من الرئيس الاسبق أو أي مرشّح آخر محتمل. في قرارة نفسه، يرفض الإقرار بأن في اللحظة التي تخرج فيها إحدى مصفحات الجيش من ثكنتها ينفجر الوضع. في الواقع، لم يكن المناخ السياسي على الإطلاق مؤاتياً لفرنجيه، ولا أكثرية النواب مؤيّدة له، من دون أن ننسى طبعاً التحفّظات الجدّية للقوات اللبنانية بإزاء هذا الإنتشار.
عارضتُ الخطة، مؤكداً أن الحلّ يكمن في “انتخاب رئيس توافقي”، وأن قرارات بمثل أهمية نشر الجيش من إختصاص مجلس الوزراء برئاسة رئيس الدولة، وليس من صلاحية وزراء منفردين، لا بل مستقيلين.
عندئذ، حاول عون إقناع جون كيلي بصواب خطته الأمنية. غير أن السفير الذي كان يرتاب منه، أجابه أن حكومته ضدّ كل إستخدام للقوة في الانتخابات الرئاسية.
إطلعتُ على ما دار بينهما في تقرير رفعه إليَّ إيلي سالم. في اجتماع عقده معه الخامسة بعد ظهر 7 آب/أغسطس 1988، كشف له جون كيلي وقائع اللقاء بقائد الجيش قبل يومين، 5 آب/أغسطس، كالآتي:
“بناء على طلبنا، اجتمعنا بميشال عون لإبلاغه موقف الولايات المتحدة من إنتشار الجيش. إستهل عون بحديث مسهب لم أستطع إيقافه، قائلاً إن لديه مشكلة مع الرئيس الجميّل والقوات اللبنانية اللذين لا يريدان انتخابات رئاسية، بل الضغط على النواب لمنعهم من الوصول إلى مجلس النواب. قال إن الرئيس الجميّل يريد تجديد ولايته، ولديه هو كقائد للجيش مسؤولية تأمين حسن تنفيذ الدستور في لبنان، وهو يُعدّ نفسه لتحريك قواته كي يكون في موقع يمنع الرئيس الجميّل والقوات اللبنانية من التأثير على النواب. عندئذ أوقفتُ حديثه، وأبلغتُه أنني أريد الإختلاء به بمفرده (كان يحضر الاجتماع أشخاص آخرون)، وأريد أن أعدّ لمورفي ملخّصاً عن هذه المقابلة، وأريدك أن تصغي إليَّ بوضوح. قال مورفي للرئيسين سليم الحص وحسين الحسيني وللرئيس الجميّل إن الولايات المتحدة لا تريد مرشّحاً كسليمان فرنجيه الذي سيتسبّب في تقسيم البلد. فرنجيه مرشّح تفرقة وتقسيم. ليس للولايات المتحدة أي مرشّح، بل لائحة أسماء. نريد مرشّحاً وفاقياً يُنتخب بلا عنف. ليس لدى حزب الكتائب والقوات اللبنانية مرشّح للرئاسة، وليسا في موقع التصادم. الرئيس الجميّل لا يريد تجديد ولايته، وقد بحثنا معه في هذا الموضوع ونعرف موقفه تماماً. قال مورفي للجميع إن إنتشار الجيش ليس ضرورياً على الإطلاق. عندما يتوافر مرشّح تسوية، لا يعود إنتشاره ضرورياً. إذا توافر مرشّح تحد، فإن الإنتشار سيؤدّي إلى تأزيم الوضع. عندئذ، ذكر عون أنه تلقّى كتابين من وزير الداخلية عبدالله الراسي، وهو بموجبهما مُلزم التدخّل. ردّ كيلي: الراسي ليس محايداً، وهو يتكلم بإسم سليمان فرنجيه. تالياً لا يُمانع في صدام مع القوات اللبنانية. إنتشار الجيش وفق طلب الراسي يعني تنفيذ مشروع فرنجيه ما سيؤدّي إلى صدامات. المستفيد الأول منها سوريا. وهذا ما لا نريده”.
قال جون كيلي لإيلي سالم في ختام إطلاعه على هذه الوقائع: “ظهر الجنرال عون منهكاً حزيناً. قلتُ له مرّات عدّة إن الولايات المتحدة لا تريد رئيس تحد. يعتقد كيلي أن عون تبلّغ الرسالة بوضوح، ولم يقل له إنه خارج المرشّحين”
بحسب كيلي ـ وفق ما ورد في التقرير ـ “بدّل عون من لهجته وأصبح أكثر مرونة، وقال إنه يتقيّد على الدوام بالقوانين، وليس هو مَن يقدّر إذا كان للراسي إصدار تعليمات أم لا. لكن في مفهومه أن عليه تلقّي الأوامر من الحكومة. عندئذ قال له كيلي: أنت على حقّ، وعليك تلقّي الأوامر من الحكومة وليس من الراسي. ردّ أنه لم يقم مرّة بما يخالف القانون، ولا يضع أفخاخاً لأحد، لكن الميليشيات تستفزّه دائماً. أنا متمسّك بالقانون، وسأعدّ نفسي لأي إنتشار عسكري، لكنني لن أتخذ أي مبادرة قبل تلقيّ أوامر من الحكومة. ثم سأل كيلي هل سيساعده الأميركيون لدى الرئيس الجميّل والقوات اللبنانية لوقف الحملات الإعلامية عليه”.
تبعاً لهذا التقرير، قال جون كيلي لإيلي سالم في ختام إطلاعه على هذه الوقائع: “ظهر الجنرال عون منهكاً حزيناً. قلتُ له مرّات عدّة إن الولايات المتحدة لا تريد رئيس تحد. يعتقد كيلي أن عون تبلّغ الرسالة بوضوح، ولم يقل له إنه خارج المرشّحين”.
لم تمضِ ساعات، 6 آب/أغسطس 1988، قدّم ميشال عون في مقابلة مع مجلة “ماغازين” ترشّحه إلى الرئاسة تلميحاً.
مواصفات متنافرة
راح الضغط السوري يشتدّ يوماً بعد يوم، إلى حدّ لا يُطاق. أخذ عبدالحليم خدّام، منذ النصف الثاني من حزيران/يونيو 1988، يستدعي المرشّحين الطامحين إلى الرئاسة لإختبار مدى ولائهم. يمتحنهم واحداً تلو آخر، ويجري في وقت لاحق أمام زائريه من اللبنانيين تقييماً لكل منهم. يضع علامات نجاح ورسوب. يتصرّف كأنه الذي يصنع رئيس لبنان. لا يكتفي بتحديد المواصفات، بل يرسم لكل منهم بروفيلاً كي يجزم بصواب رفض دمشق ترشّحه أو الموافقة عليه. في 5 تمّوز/يوليو أطلعني رينه معوّض، عبر إيلي سالم، على أحدث لوحة رسمها خدّام عن مرشّحين بعضهم زاره، والبعض الآخر صديق له، والبعض الثالث عدوّ أو خصم، أبدى رأيه فيه:
“ـ ميشال عون: ضعيف أضاع كل الفرص لاسيّما منها أربع: مواجهته إيلي حبيقة في الأشرفية، عدم مواجهته قتلة العميد خليل كنعان، مقتل الرئيس كرامي في طوّافة عسكرية، تأنيب رئيس الجمهورية له أخيراً (4 أيار،مايو 1988).
ـ داني شمعون: ليس إبن كميل شمعون. غير ناضج. جعجع سيء لكنه أفضل منه بسبب عدم ظهوره علناً مع الإسرائيليين وأنطوان لحد.
ـ ميشال خوري: ما هو رأسماله؟ ترك له أبوه حزباً يؤمن بالعيش المشترك فتركه وأقام في باريس. لا موقف له ولا تصريح. الرجل غريب. يُرسل إلينا فؤاد بطرس ويقول إنه لا يجرؤ على زيارة سوريا إلا بعد انتخابه رئيساً للبنان.
ـ النواب الموارنة المستقلون: لا نعرف شيئاً عنهم وعن هوّيتهم السياسية. يزورنا من وقت إلى آخر الياس هراوي يطلب دعمنا.
ـ رينه معوّض: صديقنا. مشكلة مشاكله عائلة فرنجيه.
ـ جان عبيد: صديقنا وأخونا. الغريب أنه منفتح على الكلّ، وصديق الكلّ. الجميع يسأل مَن يكون؟ الأسئلة عنه كثيرة، وهو لا يساعد كثيراً.
ـ مخايل ضاهر: يحمل رايته ميشال المرّ. ما قيمة رأي ميشال المرّ في المجتمع المسيحي؟ هل يشفع به دعمه الاتفاق الثلاثي؟”.
ذلك نموذج مقيت ممّا يفعله نائب الرئيس السوري. الأسوأ تهافت المرشّحين حينذاك عليه طلباً تأييده. كنتُ متأكداً من الثمن الباهظ الذي ستطلبه من ذاك الذي يفوز برضاها، فأبلغتُ إلى الأميركيين ما توقّعته باكراً: تنتظر دمشق الإستحقاق لتحقيق هدفها مذ رفضتُ الاتفاق الثلاثي: العلاقات المميّزة معها أولاً وأخيراً في رأس برنامج الرئيس المقبل. عزّز وجهة نظري دليل إضافي مهم يصبّ في صدقية هذا المرمى، هو برقية مرمّزة من سفيرنا في الإتحاد السوفياتي محمود حمّود، أبلغنا أن موسكو ترى “أن سوريا تدعم المرشّح الذي يكون قد وافق مسبقاً على العلاقات المميّزة معها”.
قال الديبلوماسي السوفياتي: “سوريا لا تسعى إلى قلب المعادلة الطائفية في لبنان، بل إلى بعض التعديلات. هي متمسّكة بالعلاقات المميّزة كحقّ من حقوقها، وتعتبر الحدّ الأدنى لها ما جاء في الاتفاق الثلاثي”
ما سمعته ديبلوماسيتنا هناك من مدير قسم سوريا ولبنان أن الخارجية السوفياتية “على يقين من أن الانتخابات الرئاسية ستجري في موعدها الدستوري”، في ضوء زيارة نائب وزير الخارجية فورونسوف ومدير قسم الشرق الأوسط بولياكوف إلى دمشق ومقابلتهما الرئيس السوري. قال الديبلوماسي السوفياتي: “سوريا لا تسعى إلى قلب المعادلة الطائفية في لبنان، بل إلى بعض التعديلات. هي متمسّكة بالعلاقات المميّزة كحقّ من حقوقها، وتعتبر الحدّ الأدنى لها ما جاء في الاتفاق الثلاثي”.
أطلعتني البرقية على ما قاله ـ تبعاً لما ورد ـ “ديبلوماسي عربي شقيق” أن دمشق لن تدعم أي مرشّح في لبنان “لا يُوقّع سلفاً” على العلاقات المميّزة. وشدّد على كلمة “يُوقّع”.
تعاظم قلقي حين تبلّغتُ معلومات تفيد أن ثمّة مساومات مشبوهة حول الانتخابات تجري في الخفاء بين الدوائر الأميركية والسورية والإسرائيلية.
في 4 آب/أغسطس، لدى إستقبالي ريتشارد مورفي في قصر بعبدا، كاشفته بمخاوفي قائلاً: “همّي الوحيد الآن أن تجري الانتخابات الرئاسية في موعدها الدستوري، وأن أتمكّن من تأمين إنتقال السلطة بديموقراطية. ما نتوخّاه هو رئيس جديد، معتدل ومستقل، يستطيع المحافظة على السيادة الوطنية والنظام الديموقراطي اللبناني”.
أجابني الموفد الأميركي: “سنبذل كل جهدنا كي يتم الانتخاب وفقاً للدستور”.
في اليوم ذاته، زارني كيلي وسلّمني وثيقة سرّية ذات لهجة مطمئنة، تختصر إستراتيجيا الولايات المتحدة أو تطلعاتها على الأقل في 15 نقطة. لفتت إنتباهي خصوصاً النقطتان 13 و15 اللتان تنصّان على الآتي:
“13- إلى إستعداده لعلاقات طبيعية وسليمة مع سوريا، على الرئيس المقبل أن يكون قادراً على إتخاذ قرارات متوافقة مع متطلّبات سيادة لبنان وإستقلاله”.
“15- في ما يخص انتخابات الرئاسة، يستطيع الرئيس الجميّل التحدّث رسمياً بإسم الطائفة المسيحية، واثقاً من دعم البطريرك الماروني الكاردينال صفير والقوات اللبنانية وعدد مهم من الزعماء المسيحيين”.
الحال أن ريتشارد مورفي، الذي كان أهمل أخيراً المناقشات العقيمة حول مشروع الإصلاحات، بدأ زياراته المكوكية بين بيروت ودمشق لمساعدتنا على الوصول إلى مرشّح تسوية. في 8 آب/أغسطس وصلني تقرير من إيلي سالم عن لقائه بجون كيلي أطلعه على نتائج زيارة مورفي إلى دمشق، لأيام خلت.
بحسب السفير الأميركي، قابل مورفي الرئيس السوري طوال 5 ساعات، ونائبه عبد الحليم خدّام ووزير الخارجية فاروق الشرع نحو 10 ساعات. لم يكن لبنان وحده في جدول أعماله. تحدّث عن السوفيات وأزمة المنطقة. في أحد الاجتماعات تلك، عبّر الشرع للزائر الأميركي عن تقدير حكومته إلى قوله إن سوريا “تريد رئيساً جيّداً للبنان”، فأردف مورفي أن إدارته “تريد رئيساً يُوحّد لبنان ولا يُقسّمه”. أما خدّام فخاطبه بالقول إستهلالاً إن سوريا “تريد مساعدة لبنان”، مضيفاً أنها “ترى سليمان فرنجيه المرشّح الوحيد ذا كفاية كي يكون فاعلاً. نحن لا ندفع إلى ترشيحه، ولسنا وراء هذا الترشّح”.
أسهب مورفي في الكلام عن ترشيح الرئيس السابق: “تعتقد أميركا أن لبنان في حاجة إلى رئيس لديه رؤية وشجاعة وصمود. لدينا مشاكل وفيرة مع فرنجيه، ونراه مرشّحاً تقسيمياً. الرئيس الجميّل ليس وحده ضدّ ترشّحه. القوات اللبنانية والمسيحيون وكثيرون من المسلمين إعترضوا عليه. لا نوافق على أن ليس ثمّة أحسن من فرنجيه في لبنان من أجل الرئاسة”.
في سياق المحادثة قال خدّام: “إذا كانت الولايات المتحدة تريد تدخّل سوريا، فإننا سنهتم بالأمن في بيروت”.
ردّ مورفي: “لا، بالتأكيد. لا مجال لذلك. لا حاجة إلى خطة أمنية، بل المطلوب التوافق”.
توقّف خدّام عن الإسترسال في هذا الجانب من الحديث.
لدى اجتماعه بالأسد، عرض مورفي النقاط التي زوّدته إياها السفارة في بيروت، بحسب قول كيلي لسالم.
قرأ فحوى محادثات الموفد الأميركي مع الرئيس السوري، وإبلاغه أنه فوجىء بقول خدّام له إن فرنجيه “مؤهل”، مضيفاً أن الرجل “مصدر إنقسام”.
كرّر الأسد تأكيد دعمه الرئيس السابق “بقوة من دون أن نكون مَن يشجّعه على الترشّح”.
عقّب مورفي: “سنّه ووضعه الصحّي نقطتا ضعف، وسيتسبّب في إنقسام البلد”.
وإقترح على الرئيس السوري التحدّث مع نظيره اللبناني واستقبال موفد منه.
ردّ (الأسد): “نحن لم نقطع مرّة العلاقة مع الرئيس الجميّل. إلتقينا به في الجزائر مرّتين، وتحدّثنا بالهاتف، وأرسل موفده إلينا جوزف الهاشم”.
قال أيضاً: “إذا أرادت القوات اللبنانية عرقلة الانتخابات، قد لا يكون في وسع سوريا السيطرة على القوات الوطنية والإسلامية. تكلّمت القوات اللبنانية معنا عن معارضتها ميشال عون وسليمان فرنجيه وريمون إده. ليس لسوريا مرشّح. لكنها لا تريد رئيساً تتحكم به الميليشيات”.
أضاف لمورفي مدافعاً عن فرنجيه: “لن تقول سوريا له بأن لا يترشّح، وهي لا تعتقد بأنه تقسيمي”.
باقي الحوار تركز على “الحاجة إلى إجراء انتخابات سليمة في التوقيت المناسب”.
كان مورفي قد ناقش مع خدّام مكان جلسة الانتخاب، واتفقا على حصولها في قصر منصور، من دون أن يُتخذ قرار نهائي بذلك.
خلال الحديث مع الموفد الأميركي، وتناول شؤوناً شرق أوسطية بينها إسرائيل والسلام والفلسطينيين والعراق إلى تسلّمه رسالة من رونالد ريغن، ترك الرئيس السوري الباب مفتوحاً حيال الحوار مع نظيره اللبناني. قال: “إطرحوا عليَّ إقتراحاً للعودة إليه”.
سمير جعجع، لم تكن قد تولّدت عنده طموحات رئاسية كقائد الجيش. هدفه السيطرة على الأرض من أجل الإمساك بالقرار المسيحي والتحوّل محاوراً وحيداً بإسم هذه المناطق في مفاوضات التسوية والإستحقاقات
لا عصا… لا جزرة
في سجلّ يومياتي دوّنتُ إنطباعات بإزاء ما بَانَ عليه العماد عون:
“لم يعد يتصرّف كقائد للجيش، بل كمرشّح للرئاسة. كل نشاطاته أضحت مرتبطة بهذا الإمتحان. ما يفعله تلاعب بالمؤسسة العسكرية، يضعها في خدمة مشروعه من أجل الوصول إليه. أدواته أربع: أولى لإبراز صورته من خلال موفدين إلى سوريا. ثانية موفدون إلى الملحقين العسكري والأمني في السفارة الأميركية في بيروت بغية إيجاد صلة وصل بينه وبين الإستخبارات المركزية الأميركية، ثالثة فريق سياسي يدعمه ويتردّد عليه، رابعة ضبّاط قريبون منه أضحوا ماكينة حملته الانتخابية مع الداخل اللبناني.
منذ مطلع هذه السنة، 1988، وضع نفسه خارج العهد، وبدأ يؤسّس لعهده هو. لا يبصرني عقبة في طريق وصوله إلى رئاسة الجمهورية. عندما خطف ملازم أول طيّار درزي (ماجد كرامه) في 30 كانون الأول/ديسمبر 1987 طوّافة عسكرية من طراز غازيل من مهبط أدما، وحطّ بها في الدبّية في ساحل الشوف، إرتبك. حادث ثان يمثّل إختراقاً كبيراً في الجيش في سنة واحد، بعد تفجير طوّافة الرئيس كرامي. رفع من نبرة صوته، لكن من دون أن يعرف ماذا يفعل؟ أنذر الدروز ووليد جنبلاط بتسليمها حتى مساء الأول من كانون الثاني/يناير 1988، فلم يفعلوا. هدّد بمحاصرة خافراته البحرية مرفأ الجيه، منفذ جنبلاط على البحر، على أنها منطقة عمليات عسكرية، علّه يستعيد الطوّافة المخطوفة، فأُجيب بردّ مماثل جعل مرفأي بيروت وجونيه منطقة عمليات عسكرية. على الأثر تراجع عن تهديده، ولم يسلّموه إياها بل وضعوها في 10 كانون الثاني/يناير في ثكنة حمانا مقرّ اللواء الحادي عشر ذي الغالبية الدرزية. مع أن المسلمين السنّة لم يصدّقوا حجّته، حاول وليد جنبلاط إقناعهم للوقوف إلى جانبه والتضامن معه، بأنه خطف الطوّافة إنتقاماً من الجيش لاغتيال الرئيس كرامي. في الواقع لم يربطوا ذاك بهذا.
منذ إقترحتُ العماد ميشال عون لمنصبه في قيادة الجيش، لم يحصل خلاف جدّي بيننا. كذلك في السنة الأخيرة من ولايتي. لم يسبق أن واجهني. يُداريني وينفّذ ما أطلبه. عندما يكون لديه تحفّظ يقدّم مبرّرات. مع ذلك عوّل على إعتقاد شائع مفاده أن السنة الأخيرة من الولاية تجعل رئيس الجمهورية يفقد تدريجاً دوره ويتضاءل تأثيره ونفوذه. بذلك يستطيع تجاوز الأوامر وأن يمنح نفسه إستقلالاً معزَّزاً. حيال ذلك، كان علينا مقاربة الوضع الجديد بحكمة وتروّ وتفادي الإصطدام به. ليس الآن أوان الطلاق معه. لا أحد قادر على خلع الآخر من منصبه ونحن ما نحن عليه الآن. ولأنه مقتنع بثبات موقعه، تحرّك بكثير من الحرّية ودمج موقعه العسكري بالدور السياسي الذي يتوخّاه. إتخذ لنفسه مسافة مني وانطلق في مدّ الجسور مع أولئك الذين يأمل في تأثيرهم في الانتخابات الرئاسية القريبة. ها أنا في الحُكم بلا عصا ولا جزرة. لم أعد أستطيع أن أكافىء أو أعاقب.
بدوره الطرف الآخر الرئيسي في المناطق الشرقية، سمير جعجع، لم تكن قد تولّدت عنده طموحات رئاسية كقائد الجيش. هدفه السيطرة على الأرض من أجل الإمساك بالقرار المسيحي والتحوّل محاوراً وحيداً بإسم هذه المناطق في مفاوضات التسوية والإستحقاقات. كما العماد عون، يريد سمير جعجع أن تكون له الكلمة الحصرية في الموقف المسيحي، إقتداء بوليد جنبلاط في الشوف وعاليه، ونبيه برّي في بيروت الغربية والجنوب. المفارقة أن كلا من عون وجعجع يريد الآخر تحت جناحه”.
على أن مخاوفي من هذا الطموح الجامح، إستباقاً لأي مجازفة مكلفة ونحن نقترب أكثر من الانتخابات الرئاسية، ستقودني إلى طلب الاجتماع بقائد الجيش والضبّاط الكبار أكثر من مرّة في شهر واحد: أولى صباح 10 آب/أغسطس في قاعة العماد جان نجيم، أخاطبهم بمَن فيهم قائدهم الجالس قربي، قائلاً: “المرحلة دقيقة جداً، وإتكالي هو على ضبّاط الجيش. عليكم أنتم كقيادة أن تكونوا واعين تماماً لمسؤولياتكم. ذكرتُ في أحد الاجتماعات أننا نريد الجيش أن يكون حامي الإستحقاق الرئاسي وليس ضحيّته. أعيد الآن التأكيد على هذا المبدأ، حتى لا يسقط الجيش في إمتحان الإستحقاق الدستوري”.
أضفتُ في إشارات غير خافية لكنها دالّة: “أنا أعرفكم، وأعرف ماذا عندكم من الحكمة والوطنية والخبرة العسكرية كي نواجهه بحدّ أقصى من التنبّه، لأنني أخشى من أي غموض في المواقف، أو مغامرة سياسية في وضع مترجرج. بالتأكيد ستكون ثمّة ضغوط عليكم، وربّما إغراءات، ما يجعلنا نقحم الجيش في معركة يمكن أن تكون مطبّاً أو فخّاً له. كل ما أتمنّاه منكم أن تكونوا واعين تماماً حتى لا يوقعكم أحد في الفخّ”.
أما المرّة الثانية، ففي 30 من الشهر نفسه. من القاعة ذاتها، برسالة مماثلة، تحدّثتُ إلى عون والضبّاط الكبار. قلتُ لهم إن دور الجيش هو “في مرحلة ما قبل 23 أيلول/سبتمبر، ما يقتضي أن يكون جاهزاً لحماية هذه المرحلة أولاً نظراً إلى دقّتها، وتوفير أجواء أمنية لتسهيل الإستحقاق الرئاسي. لا يزال الجيش يملك الصدقية الكافية لتمكينه من الإضطلاع بدوره. له دور أساسي في هذا الإستحقاق”. لم أخفِ أمامهم قلقي من إحتمال تعذّر انتخاب خلف لي، أو انتخاب رئيس يتسبّب في إنقسام البلد أو يُعطّل دور الجيش “ولذا فإن مهمتي بالتعاون معكم جعل الانتخابات مدخلاً إلى إعطاء الجيش الدور الرئيسي”.