العالم يتغير.. من “الإمبراطورية” إلى “كاريش”!

يصل باراك أوباما إلى البيت الأبيض كأول رئيس أسمر في تاريخ أميركا. يرثُ الرئيس الشاب فشلًا ذريعًا في الشرق الأوسط، وأزمة مالية في الامبراطورية الأميركية تقارب الكارثة.

يتخذ أوباما قرارًا بسحب الجيش الأميركي من العراق وأفغانستان. ويعلن انطلاق مسيرة “التحول نحو الشرق” ويضع الصين كمنافس استراتيجي للولايات المتحدة، تماشيًا مع شعور مفكري الامبراطورية الأميركية أنّ الصين هي الدولة الوحيدة القادرة على منافسة أميركا. وهذا ما قاله علنًا انتوني بلينكن، وزير خارجية الولايات المتحدة، في الجولة الآسيوية الأخيرة للرئيس جو بايدن.
نعود إلى العام 2011. تُشعل إدارة الديمقراطيين العالم العربي. هناك ثورات مخطط لها وأخرى عفوية. القرار الاستراتيجي الأميركي هو عدم العودة بالجيش الأميركي إلى الشرق الأوسط. تنتهي ولايتا باراك أوباما، بإنجازين: الاتفاق النووي مع إيران، وانتشال مؤقت لأميركا من هاوية الأزمة المالية.
يصل الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، عبر خطاب شعبوي، ولازمة أميركا أولًا، وبسبب إخفاق الديمقراطيين في تسييل نتائج الربيع العربي، حدّد الرئيس الجديد أهدافه المقبلة. إنعاش الاقتصاد الأميركي؛ خلق فرص عمل؛ الانسحاب من الشرق الأوسط التي هي أرض رملٍ وموت؛ الصين هي الدولة الخصم، وعلى واشنطن فرملة صعودها؛ استبعاد المواجهة مع روسيا.

بدأت الاتهامات لترامب بالتعاطف مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأنّ موسكو تدخلت في الانتخابات الرئاسية الأميركية لمصلحة صديق بوتين المرشح الجمهوري.

ينهي الرئيس الأميركي الجديد أول مائة يوم بفشل ذريع. فيعبث بالأولويات. روسيا تتقدم. الصين تتراجع مبدئيًا في ترتيب المواجهة عند إدارة بايدن. ليبدأ مسلسل الضغط والتحريض وشيطنة روسيا. الشرق الأوسط يُسلّم راية الحروب إلى أوروبا. 24 شباط/فبراير 2022 القارة العجوز تفتح ساحاتها للحرب الجديدة، روسيا تبدأ غزو جارتها أوكرانيا

الدولة العميقة في واشنطن تحاول بشتى الطرق توزيع النشاط العدائي بين الصين وروسيا، فتفرض عقوبات على موسكو، وتطرد ديبلوماسيين روسًا من عدد من القنصليات في الولايات المتحدة. وتثير مع حليفتها لندن قضية المعارض سيرغي سكريبال، لإبقاء الروسوفوبيا في الواجهة. الرئيس ترامب يعترض، ولكن الأجهزة الأميركية هي الأقوى بأية حال.
الرئيس الاميركي يُمزّق الاتفاق النووي عام 2018، ويتهم سلفه الديمقراطي بالجُبن والتخاذل. بعدها بأقل من سنتين، يغتال اللواء قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس على طريق مطار بغداد، ويفرض عقوبات غير مسبوقة على طهران لإخضاعها. تصمد طهران أمام الحصار، ولا تستسلم.

راية الحروب

يجتاح فيروس كورونا الكوكب. ثمة ركود كبير في الاقتصاد. يخسر ترامب ما حققه اقتصاديًا في السنوات الثلاث الأولى دفعةً واحدة قبل الانتخابات الرئاسية. ويكتفي بولاية واحدة. يخرج من البيت الأبيض، ويقتحم أنصاره الكابيتول هيل، بحجّة تزوير الانتخابات الرئاسية، فتدخل الامبراطورية في نفق أزمة سياسية كبرى. الرابح هو العجوز جو بايدن، نائب الرئيس السابق، الذي تنجح “عصابة واشنطن” حسب تعبير ترامب بإيصاله إلى البيت الأبيض.
جو بايدن يعلن عودة أميركا إلى قيادة العالم، وربما.. خرابه.
ينهي الرئيس الأميركي الجديد أول مائة يوم بفشل ذريع. فيعبث بالأولويات. روسيا تتقدم. الصين تتراجع مبدئيًا في ترتيب المواجهة عند إدارة بايدن. ليبدأ مسلسل الضغط والتحريض وشيطنة روسيا. الشرق الأوسط يُسلّم راية الحروب إلى أوروبا. الرابع والعشرون من شباط/فبراير 2022 القارة العجوز تفتح ساحاتها للحرب الجديدة، روسيا تبدأ غزو جارتها أوكرانيا. عدّاد الموت والهجرة يبدأ بالعمل. أوكرانيا هي الملعب الجديد للبارود والدمار والدموع. حلف شمال الأطلسي ينفخ في نار الحرب والتحريض والتسليح وملايين اللاجئين.

الرئيس بايدن أراد أن يُوقع بنظيره الروسي في الوحل الأوكراني، لكنّ لاعب الجودو “بطحه”. وها هي واشنطن تتعثّر، كما رئيسها.
الجيش الروسي يُواصل تقدمه في شرق أوكرانيا، ويُحقق إنجازات ميدانية، بعد تخبّطٍ واضح مع بداية العملية العسكرية في شباط/فبراير الماض، جعله يتواضع ولا يُكبّر أهدافه الميدانية.
تستنفر واشنطن العالم. الرئيس بوتين هو المارق الجديد، ولا بد من هزيمته، وتأديب الطامحين وتربيتهم. الصين هي المقصودة، لا ضير في رفع السّوط في وجهها. مساعدة روسيا ممنوعة. وإلا.. العقوبات. وتايوان ملف حاضر للابتزاز.
العالم يتغيّر
الرئيس الروسي لا يملّ من تكرار مقولته: إنّ أكبر كارثة جيوسياسية في القرن الماضي كان انهيار الاتحاد السوفياتي. إذًا، لا بدّ من نظام دولي جديد. قد تكون الحرب الروسية الأوكرانية هي الباب الكبير لتغيير النظام الحالي. فلننتظر النتائج.

مهندس غزو العراق في العام 2003 رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير يقول إن العالم مقبل على تغييرات جيوسياسية دولية، وإن الهيمنة الغربية في السياسة والاقتصاد تقترب من نهايتها، وإن هذا العالم يسير نحو التعددية القطبية. وإنه للمرة الأولى يمكن للشرق أن يكون على قدم المساواة مع الغرب.

تُقدّم تركيا ومصر والسعودية طلبات للانضمام الى منظمة البريكس، إندونيسيا وإيران تتحضران أيضًا. الاصطفافات الاقتصادية الجديدة، لا تخلو من السياسة. التفتيش عن بديل للدولار مستمر. بايدن يعود إلى واشنطن، ينظر إلى سعر ليتر البنزين، فيستشعر الخسارة القادمة في الانتخابات النصفية

بايدن يشدّ الرحيل إلى الشرق الأوسط. النفط يعود إلى الواجهة من زاوية محاصرة روسيا وحاجة أوروبا. سقطت مقولة الاستغناء عن نفط الخليج، النفط الصخري لا يفي بالغرض، أسعار الخام يبلغ مستويات حرجة.
ولكن مهلًا، هناك مشكلة مع ولي العهد السعودي. لذا، لا بدّ من التنازل. يصل رئيس الإمبراطورية الأميركية الى جدّة، ينزل سلّم الطائرة، خائفًا من عثراته المتواصلة. يصل أرض المطار، يفتّش عن الملك، عن ولي العهد، فلا يجد أحدًا. أمير مكة تكفّل بالاستقبال. وصلت الرسالة. تلمّس بايدن وفريقه التمرّد على الإملاءات الأميركية. لا زيادة غير متوقعة في إنتاج النفط. لا ناتو شرق أوسطيًا، ولا من يحزنون. إيران دولة جارة، والمشاكل تُحلّ عبر الحوار. يقول وزير خارجية السعودية فيصل بن فرحان. وطاولة بغداد ما زالت حاضرة، الشراشف البيض تتغيّر باستمرار. الإمارات العربية المتحدة تعلن أنها لن تكون منطلقًا لأي استعداء لإيران وتتهيأ لإرسال سفيرها إلى طهران. الإنجاز الأبرز لقمة جدة هو فتح الأجواء السعودية أمام الطيران المدني الإسرائيلي، علنًا.

إقرأ على موقع 180  الإنتخابات النيابية الأردنية.. بريدُ رسائل أم تطبيبُ جِراح؟

جروح واشنطن
يُنصِّبُ الغاز نفسه سلعةً استراتيجية. أوروبا تمشي خلف الغراب الأميركي، فيقودها إلى الخراب والبرد والتقشف، وربما الركود. الخوف يسيطر على القارة العجوز.
ترفع روسيا سيف الطاقة في وجه سيف العقوبات. المبارزة طاحنة بين أبناء العم. أوروبا تهتز سياسيًا واقتصاديًا. اليورو في الوضع الأسوأ منذ العام 2000. بوريس جونسون المحرض الرئيس على الحرب يُجبَرُ على تقديم استقالته. رئيس الوزراء الإيطالي ماريو دراغي يلقى المصير نفسه. رئيس وزراء المجر فيكتور أوربان صديق روسيا، يفوز بولاية جديدة، ويقول حقّقنا نصرًا كبيرًا يمكن رؤيته حتى من سطح القمر.. ويرفض عقوبات الاتحاد الأوروبي على موسكو.
الدبّ الروسي يواصل التلاعب بالفريسة المنهكة. من يريد غازًا عليه أن يدفع بالروبل. أوروبا تعترض ثم تخضع. ومن ثم ترفع بعض العقوبات المفروضة على أكبر المصارف الروسية.
الأمم المتحدة تحذّر من أزمة غذاء عالمية بسبب الحرب. الروس متهمون بتجويع العالم. الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يقطف اللحظة السياسية. تركيا تضمن سلاسل التوريد، لوصول القمح والزيت إلى العالم، ويوزّع عطاءاته السياسية على ضفتي الجبهة. يسمح للسويد وفنلندا بالانضمام الى الناتو. يهدّد بعملية واسعة في الشرق السوري ضد الأكراد الذين يسيطرون على المنطقة بحماية أميركية. يصعد أردوغان طائرته المتجهة إلى طهران، لعقد قمة مع الرئيسين فلاديمير بوتين وابراهيم رئيسي، ولقاء المرشد السيد علي الخامنئي. المنطقة تزدحم بالقمم الكبرى. قمتا طهران وجدّة عنوانان للتفلّت من القبضة الأميركية. فليس كل ما تقوله واشنطن أوامر. كل القضايا أصبحت خاضعة للنقاش والمساومة والاعتراض. صورة الرئيس بوتين مع المرشد الخامنئي خلال قمة طهران الأخيرة “تذكرني بأنّ المفاوضات (الأميركية) مع الروس والإيرانيين، هي التي شيّبت شعري”.. وواشنطن قلقة جدًا من التقارب بين البلدين. يقول مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليم بيرنز.

الرئيس التركي يضع ملحًا على جرح واشنطن، ويقول إنّ على القوات الأميركية مغادرة شرق الفرات. الرئيس الصيني شي جين بينغ يبتسم من بكين. الصين تغادر مربع الحذر والخوف. ترفع عقيرتها اعتراضًا على الأسلوب الأميركي في الخطاب. طائرات الجيش الصيني تحلق في الأجواء التايوانية.
تُقدّم تركيا ومصر والسعودية طلبات للانضمام الى منظمة البريكس، إندونيسيا وإيران تتحضران أيضًا. الاصطفافات الاقتصادية الجديدة، لا تخلو من السياسة. التفتيش عن بديل للدولار مستمر.
بايدن يعود إلى واشنطن، ينظر إلى سعر ليتر البنزين، فيستشعر الخسارة القادمة في الانتخابات النصفية للكونغرس في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل.

المقاومة اللبنانية التزمت بمنع الإسرائيلي من الاستخراج في كاريش وغيره من الحقول، إذا كان لبنان سيبقى ممنوعًا من ذلك. العالم يحبس أنفاسه، من الذي سيتراجع، حزب الله أم الإسرائيلي؟

لبنان في قلب الصراع
مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بقيادة الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين غير سالكة إلا عبر المسار الإسرائيلي. شركة إنرجيان باور، تستدعي حفّارها العملاق. الحفار يرقد فوق حقل كاريش قادمًا من سنغافورة. إسرائيل تتحضّر للتنقيب والاستخراج. أيلول/سبتمبر هو الموعد المرتقب. الاتحاد الأوروبي وإسرائيل ومصر يتفقون على تصدير الغاز إلى أوروبا تعويضًا عن الغاز الروسي. الاحتفالية تتم في القاهرة.
لبنان يئنّ من الجوع والفساد والانهيار. التنقيب عن الغاز والنفط ممنوع بأوامر أميركية. الكونسورتيوم الثلاثي (الروسي الإيطالي الفرنسي) يخرج ولا يعود. توتال تقول إنها لن تعمل في بيئة متوترة، وهي تنتظر انتهاء مفاوضات الترسيم. المماطلة والتسويف واضحان. الأميركي والاسرائيلي يشتريان الوقت، والدولة اللبنانية تخشى العقوبات الأميركية.
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله يتدخل، ويكشف بصريح العبارة، إذا خُيّرنا بين الموت جوعًا أو الحرب، فالقتل بين السيوف أشرف. ويطرح معادلة النفط والغاز للجميع أو لا نفط ولا غاز لأحد. المسيّرات تخرج من مخابئها، وتحلّق عصرًا صوب الناقورة، ومنها فوق الحفّار العملاق في حقل كاريش. الوقت يضيق أمام لبنان، وما قبل كاريش ليس كما بعده. المقاومة اللبنانية التزمت بمنع الإسرائيلي من الاستخراج في كاريش وغيره من الحقول، إذا كان لبنان سيبقى ممنوعًا من ذلك. العالم يحبس أنفاسه، من الذي سيتراجع، حزب الله أم الإسرائيلي؟

في انتظار نهاية الوقت المستقطع، واستئناف الوقت المتبقي من.. المعركة الحاسمة، العالم يتغيّر.

 

Print Friendly, PDF & Email
طارق عبود

أستاذ جامعي وباحث، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  المسيحيون ليسوا أغراباً.. هم ملح العرب