من غزة إلى أوكرانيا والسودان حروب ساخنة؛ وفي آسيا توترات بين الولايات المتحدة وحلفائها والصين؛ توترات لا شيء يمنع من تحولها حروباً في ظل الإندفاع إلى بسط النفوذ والدفاع عن المصالح القومية للأطراف سياسة وإقتصاداً، والإنقياد نحو سباق تسلح سريع، لا تعود معه كوريا الشمالية استثناء.
وما تزال الولايات المتحدة القوة الأكثر تأثيراً في مجريات الصراعات. لكن تعدد الجبهات يُنهكها ويُفقدها التركيز ويعيدها إلى مراجعة الأولويات. لا تستطيع جعل روسيا تربح في أوكرانيا، ولا تستطيع تحمل هزيمة واحدة لإسرائيل، ولو كلّفها ذلك انخراطاً مباشراً في صراع الشرق الأوسط الآخذ بالتمدد.
من المؤكد أن صانعي القرار في البيت الأبيض، لم يضعوا خططاً للتعامل مع حربين أو ثلاثة حروب في وقت واحد. لكنهم يقاربون الصراعات الناشبة الآن من زاوية واحدة، وهي عدم الوقوع في خسارة استراتيجية أمام الصين، التي تبقى المنافس الأكثر خطورة للقيادة الأميركية للعالم. في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، أصدر “المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية” في لندن، النسخة الأخيرة من تقريره السنوي “مسح النزاعات المسلحة”، راسماً صورة قاتمة للعنف المتصاعد في الكثير من المناطق. ووثّق التقرير – الذي يركز على النزاعات الإقليمية وليس على المواجهات بين القوى الكبرى – 183 نزاعاً في العام 2023، وهو الرقم الأعلى للنزاعات منذ ثلاثة عقود. ويستخدم التقرير وصف “الإستعصاء” كسمة تميز المشهد المعاصر للنزاعات.
الأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستكون حبلى بالمفاجآت في المنطقة ومفتوحة على أكثر من سيناريو. هل تتمدد حرب غزة إلى جبهات جديدة مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن؟ أم يتمكن بايدن من إدارة “التصعيد المحسوب”، كي لا يتحول حرباً تتورط فيها الولايات المتحدة وإيران في مواجهة مباشرة، تعيد أميركا إلى “الحروب الأبدية”؟
وتكتب باتريسيا كوهين في صحيفة “النيويورك تايمز” أن “هناك المزيد من التقلبات التي تنتظر العالم جرّاء موجة من الانتخابات الوطنية التي ستترك ترددات عميقة لزمن طويل. أكثر من ملياري شخص في نحو 50 بلداً، بينها الهند وأندونيسيا والمكسيك وجنوب أفريقيا والولايات المتحدة والدول الـ27 التي تنتخب البرلمان الأوروبي، سيذهبون إلى مراكز الاقتراع في 2024، في دول تشكل 60 في المئة من الانتاج العالمي”.
وترى مجلة “الإيكونوميست” البريطانية أن “لا شيء يمكن مقارنته بالانتخابات الأميركية، سواء من حيث المشهد الكئيب أو العواقب المحتملة. ومن الصعب أن نُصدق أن النتيجة الأكثر ترجيحاً هي إعادة مباراة بين رجلين عجوزين، وكلاهما يرغب غالبية الناخبين ألا يكونا مرشحين”.
تذهب الولايات المتحدة إلى الانتخابات الرئاسية بعد أقل من عام، وهي أكثر استقطاباً وانقساماً سياسياً وثقافياً من أي وقت مضى. ودخلت المحاكم على خط التجاذب منذ الآن. المحكمة العليا في ولاية كولورادو قضت بعدم أهلية الرئيس السابق دونالد ترامب لخوض الانتخابات التمهيدية ضمن لائحة الحزب الجمهوري، بتهمة تحريضه على التمرد في مشهد اقتحام مبنى الكونغرس في 6 كانون الثاني/يناير 2021 من قبل مؤيديه الذين كانوا ولا يزالون يرفضون الاعتراف بنتائج انتخابات 2020.
وما كاد ترامب، الأوفر حظاً لنيل ترشيح الحزب الجمهوري، يستأنف الحكم أمام المحكمة الفيديرالية العليا، حتى أعلنت المسؤولة الديموقراطية في ولاية مين شينا بيلوز، المكلفة تنظيم الانتخابات، أن ترامب “غير مؤهل لمنصب الرئيس”، بموجب التعديل 14 للدستور، الذي يستبعد أي شخص شارك في أعمال “تمرد” من تولي أي مسؤولية عامة.
الانتخابات الأهم في العالم مرشحة لتشهد نزاعاً كالذي حصل في 2020، والأرجح أن الأمور ذاهبة نحو المحكمة الفيديرالية العليا لتقرّر النتائج وفق ما حصل عام 2000 بين جورج دبليو بوش وآل غور، لكن مع فارق أن هذه المرة ستكون أكثر حدة وذات ترددات في الخارج.
الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي يحبس أنفاسه منذ الآن تحسباً من فوز ترامب الذي تعهد وضع حد للنزاع الأوكراني في 24 ساعة. وفي المقابل، ينتظر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بفارغ الصبر، عودة ترامب إلى البيت الأبيض، كي “يسحب” الولايات المتحدة من أوكرانيا. وعليه، يضغط بايدن من أجل تمكين أوكرانيا على الأقل من الصمود حتى الأسبوع الأول من تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وفي المقابل، يدفع بوتين نحو تحقيق نتائج في الميدان تمنحه اليد العليا في أي مفاوضات مقبلة.
ليست أوكرانيا وحدها من يتوقف مصيرها على نتائج الانتخابات الأميركية. هناك الشرق الأوسط الذي يغلي برمته على نار الحرب الإسرائيلية على غزة. وعلى رغم أن بايدن قدّم لإسرائيل ما لم يقدمه أي رئيس أميركي آخر، بدعم عسكري غير محدود وحماية ديبلوماسية في العالم، يبقى القادة الإسرائيليون على اختلاف توجهاتهم، أكثر تعلقاً بترامب الذي لا يأتي على ذكر “حل الدولتين” أو يتحدث عن ضرورة فتح “أفق سياسي” أمام الشعب الفلسطيني.
ناهيك عن ذلك، ترى إسرائيل أن جو بايدن أكثر تساهلاً مع إيران، على رغم عدم عودته إلى الإتفاق النووي لعام 2015. لكن تشديده على الوسائل الديبلوماسية عبر القنوات الخلفية لضبط التوترات “النووية” والإقليمية مع طهران، لم تكن السياسة المفضلة لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
والأشهر الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الأميركية، ستكون حبلى بالمفاجآت في المنطقة ومفتوحة على أكثر من سيناريو. هل تتمدد حرب غزة إلى جبهات جديدة مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن؟ أم يتمكن بايدن من إدارة “التصعيد المحسوب”، كي لا يتحول حرباً تتورط فيها الولايات المتحدة وإيران في مواجهة مباشرة، تعيد أميركا إلى “الحروب الأبدية”؟
يُدير بايدن حربي أوكرانيا وغزة وعينه على آسيا. وعلى رغم أن اللقاء مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في سان فرانسيسكو في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي على هامش قمة “آبيك”، قد أزال بعض التوترات المتراكمة في العلاقات بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم وساهم في استئناف الاتصالات العسكرية بين البلدين، فإن البيت الأبيض لا يخفي قلقاً متنامياً من سياسة بكين حيال تايوان وفي بحر الصين الجنوبي.
إن بؤر التوتر الجيوسياسي التي يتسلمها عام 2024، من عام 2023، تُحدّد إلى حد بعيد شكل النظام العالمي الجديد الذي ما يزال على الأرجح في طور المخاض
ولعل أكثر ما يؤرّق المسؤولين الأميركيين هو احتمال مبادرة شي جين بينغ إلى استغلال الانهماك الأميركي في أوكرانيا والشرق الأوسط، لتعزيز نفوذه العسكري في المحيطين الهادىء والهندي، مع تزايد الاحتكاكات بين البحريتين الصينية والفيليبينية والمناورات المتواصلة حول تايوان، والدوريات الجوية المشتركة الصينة والروسية على مسافة قريبة من أجواء اليابان وكوريا الجنوبية، وعلى وقع وتيرة غير مسبوقة من التجارب الصاروخية الباليستية الكورية الشمالية، وتعميق العلاقات العسكرية بين موسكو وبيونغ يانغ على غرار ما هو جارٍ بين موسكو وطهران.
ويقول ستيفن هادلي مستشار الأمن القومي في عهد جورج دبليو بوش: “هناك محور حقيقي بين روسيا والصين وكوريا الشمالية، التي ترفض نسخة النظام الدولي الذي تقوده أميركا”.
لكن هذا ليس كل شيء. هناك الدول الناشئة مثل الهند والبرازيل وأندونيسيا وتركيا وجنوب إفريقيا، وإن كانت أقل إنشداداً إلى المحور المذكور، فإنها لا تتماشى مع السياسات الأميركية، وتبحث عن طريق ثالث. وترجمت ذلك في مواقف متعارضة مع واشنطن حيال حربي أوكرانيا وغزة.
هل نشهد بداية الانتقال إلى العالم المتعدد الأقطاب؟ وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار يجيب بأن أميركا التي تواجه “عواقب على المدى الطويل بسبب العراق وأفغانستان.. تتكيف مع عالم متعدد الأقطاب”.
إن بؤر التوتر الجيوسياسي التي يتسلمها عام 2024، من عام 2023، تُحدّد إلى حد بعيد شكل النظام العالمي الجديد الذي ما يزال على الأرجح في طور المخاض.