كانت زيارة وزير الخارجية الروسى «سيرجى لافروف» إلى القاهرة بتوقيتها ورسائلها إشارة جديدة إلى الأهمية القصوى الإضافية التى قد يكتسبها الشرق الأوسط فى الصراع على مستقبل النظام الدولى.
نحن أمام مبارزة استراتيجية بين القطبين الدوليين المتنازعين الروسى والأمريكى على إثبات القوة والنفوذ فى أكثر مناطق العالم اشتعالا بالنيران والأزمات، أو أيهما أكثر حضورا وتأثيرا وتموضعا فى أزمات الإقليم وقدرة على حلحلتها.
بعد قمتى جدة وطهران بالحضور المباشر للرئيس الأمريكى «جو بايدن» فى الأولى والحضور المباشر للرئيس الروسى «فلاديمير بوتين» فى الثانية بدأ ما يشبه الهرولة إلى الشرق الأوسط.
فى القمة الأولى لم يحقق «بايدن» مكاسب استراتيجية تخوله الادعاء بأن أمريكا عادت إلى سابق نفوذها، وأن كلمتها مطاعة فى أنحاء الإقليم المضطرب، لا أنهت أزمة الطاقة التى تأخذ بخناق الاقتصادات الأوروبية ولا دمجت إسرائيل فى المنطقة اقتصاديا وأمنيا وعسكريا بذريعة حمايتها من «الخطر الإيرانى»!
ربما تكون حققت بقوة الضغوط بعض التقدم في ما سعت إليه غير أنه أقل بكثير مما توقعت.
بصورة أو أخرى بدت إسرائيل عبئا استراتيجيا على جولة «بايدن»، حملته فوق طاقته وطاقة النظم العربية كلها فى طلب إنشاء ما أطلق عليه «الناتو الشرق أوسطى».
فى القمة الثانية، حاول «بوتين» أن يلملم تصدعات «تحالف الضرورة»، الذى يجمعه مع إيران وتركيا بالأزمة السورية، أراد أن يقول بقوة الصور: «أنا هنا.. حاضر ومؤثر».
لم تكن هناك نتائج كبيرة لقمة طهران باستثناء «فرملة مؤقتة» للعملية العسكرية التركية فى الشمال السورى ضد التمركزات الكردية، التى تقول أنقرة إنها تمثل تهديدا لأمنها القومى.
لأسباب مختلفة تحفظت أمريكا على العملية نفسها وبدت قريبة من الناحية العملية مما تبناه خصماها الروسى والإيرانى لا مع حليفها التركى.
كانت تلك مفارقة استدعتها المصالح المتضاربة فى حلف «الناتو».
بعد أيام معدودة من قمة طهران فتحت نافذة أمل فى اسطنبول لإنهاء أزمة الحبوب المتفاقمة فى أرجاء مختلفة من العالم، خاصة فى الشرق الأوسط وإفريقيا، على خلفية وقف تصديرها من الموانئ الأوكرانية، بأثر النيران المشتعلة فيها وحولها.
بمقتضى اتفاق وقعته روسيا وأوكرانيا برعاية تركية وأممية تقرر فتح ممر آمن فى البحر الأسود لتصدير الحبوب والمنتجات الزراعية والأسمدة من روسيا وأوكرانيا إلى مختلف دول العالم.
كان ذلك اختراقا كبيرا لأزمة مستعصية، غير أنه الآن موضع تساؤلات حرجة عن قدرته على الصمود وسط النيران واحتمالات التصعيد.
بالحساب التركى، فإن ذلك الاختراق إضافة كبيرة لصورتها وأوزانها فى اللعبة الدولية، أو أن تكون وسيطا مقبولا من الطرفين عندما يحين وقت إنهاء الحرب بتسوية سياسية غير مستبعدة.
باليقين فإن تركيا سوف تستخدم ورقة نجاحها فى الوساطة بأزمة الحبوب لرفع منسوب أدوارها وأوزانها داخل حلف «الناتو»، وأنه لا يمكن تجاهل اعتبارات أمنها القومى.
وبالحساب الروسى، فإنه ينزع عن صورتها مسئولية أزمة الغذاء العالمى، ويضعها فى موقف أفضل أمام الرأى العام فى العالم الثالث الأكثر تضررا.
كما أنه يساعد على تحسين آخر لصورتها قبل التئام القمة الروسية الإفريقية المرتقبة خريف العام المقبل.
بالتوقيت نفسه جمدت موسكو الوكالة اليهودية على خلفية موقف تل أبيب من الحرب الأوكرانية، كان ذلك تحللا رمزيا من العبء الإسرائيلى عند الاقتراب من قضايا وأزمات الإقليم وداعيا للتساؤل عن مصير التفاهمات الأمنية، التى سمحت بضرب المواقع السورية بالطائرات دون رد!
فى المنازعة الاستراتيجية على القوة والنفوذ لا يمكن تجاهل حجم وأهمية الموقع المصرى فى الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، فإذا ما نجحت فى إدارة التوازن بين القطبين الدوليين وفق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية وحدها فإنها سوف تحصد اتفاقا قانونيا ملزما بشأن سد النهضة يضمن حقوق مواطنيها فى شريان الحياة
هكذا جاء «لافروف» إلى القاهرة قبل أية محطة أخرى فى جولته مدركا أهميتها الجغرافية ورمزيتها التاريخية فى الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، لكى تكون رسالته واضحة وواصلة لأصحابها.
كان مستلفتا فى الكلمة، التى ألقاها فى مقر الجامعة العربية رسائلها المضمرة والمعلنة: «أننا لسنا معزولين».. و«منفتحون على الحوار».. و«مستعدون لأية تسوية سياسية ممكنة للصراع فى أوكرانيا».
كانت حلحلة أزمة الحبوب مدخلا لقضايا أخرى عديدة تدخل فى الاهتمام العربى كالقضية الفلسطينية والأوضاع المأزومة فى ليبيا وسوريا والعراق.
وكان مستلفتا بذات القدر ما سجله أمام المسئولين المصريين: «روسيا لا تمانع فى تصدير مصر الغاز لأوروبا على ما تعهدت».
بإدراك دبلوماسى لأهمية الموقع المصرى فهو يطلب مد خيوط التواصل مع القاهرة مدركا بالوقت نفسه أن حجم الاحتياجات الأوروبية من الغاز لا يسمح بالاستغناء عن روسيا.
بتوقيت متزامن خفضت موسكو صادراتها من الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب «نورد سترديم 1» إلى نسبة (20%) بذريعة مصاعب تقنية، وهو ما شككت فيه ألمانيا!
مناورات الغاز والغذاء لن تتوقف قبل انتهاء الحرب، كل طرف يحاول أن يقيم الحجة على الآخر.
فى جولته الإفريقية أفاض «لافروف» فى إثبات «أن العقوبات الغربية المفروضة على بلاده تعرقل التعاون مع القارة».
فى المبارزة الاستراتيجية بين القطبين الدوليين طرحت أزمة سد النهضة نفسها على جدول الأعمال الملتهب.
الجولة الإفريقية لـ«لافروف» تضم إثيوبيا، ذات الأهمية الاستراتيجية فى القرن الإفريقى، وقد كان الدور الروسى مؤثرا فى إفلات أديس أبابا من أية مؤاخذة أممية فى مجلس الأمن على ما تتخذه من إجراءات انفرادية فى مشروع بناء سد النهضة دون اعتبار لمصالح دولتى المصب مصر والسودان، أو أية قواعد قانونية دولية.
الموقف السلبى نفسه اتخذته الصين.
الأطراف الدولية كلها مدعوة الآن إلى إعادة النظر فى مواقفها، أو أن تكون أكثر توازنا.
المصالح وحسابات القوة، قبل القانون الدولى والاعتبارات الأخلاقية، سوف تحكم المواقف الأخيرة فى أزمة سد النهضة.
لم تكن مصادفة أن تستبق الولايات المتحدة جولة «لافروف» بمبادرة عبر مبعوثها فى القرن الإفريقى للتوصل إلى حل دبلوماسى لأزمة سد النهضة بعد قلة اكتراث أبدته منذ صعود «بايدن» إلى البيت الأبيض.
فى المنازعة الاستراتيجية على القوة والنفوذ لا يمكن تجاهل حجم وأهمية الموقع المصرى فى الشرق الأوسط والقارة الإفريقية، فإذا ما نجحت فى إدارة التوازن بين القطبين الدوليين وفق مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية وحدها فإنها سوف تحصد اتفاقا قانونيا ملزما بشأن سد النهضة يضمن حقوق مواطنيها فى شريان الحياة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“