مهنة “الصحافي المثقف”.. شيرين نموذجاً
Mourners attend a memorial ceremony for Shireen Abu Aqleh, to mark the 40th day of the killing of the Al Jazeera journalist, in the West Bank city of Ramallah on June 19, 2022. (Photo by ABBAS MOMANI / AFP)

أن تأتي عائلة الشهيدة شيرين أبو عاقلة إلى واشنطن وأن تطلب من وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الإجتماع بالرئيس جو بايدن لعرض قضية الصحافية الفلسطينية، فإنها ـ وبمعزل عن نتائج جهدها ـ تعوّض بذلك عن تقصير فلسطيني وعربي ودولي في متابعة هذه القضية حتى تحقيق العدالة ومحاسبة المجرم.. غير المجهول!

عندما كُنتُ أدقق في وقائع القمة العربية ـ الأميركية الأخيرة، إستشعرت محاولة لمصادرة قضية الشهيدة شيرين أبو عاقلة، من خلال استخدامها في المنافسة بين الرئيس الأميركي جو بايدن وولي العهد السعودي محمد بن سلمان ووضعها على قدم المساواة مع جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال الخاشقجي (كما تُبيّن وقائع مناقشة حادة بين بايدن وبن سلمان على هامش قمّة جدّة المنعقدة في 16 تموز/يوليو الجاري)، وهذا يؤكد أنه يتعيّن تحرير شيرين من قبضة الحُكام وإخراجها من سياق لا يعنيها وهي التي تعرّضت للتصفية الجسدية على يد قناصة الجيش الإسرائيلي على خلفية سياسية مهنية ليست تلك التي قتلت جمال الخاشقجي.

***

ومع كل صباح فلسطيني مقدسي، تعود شيرين أبو عاقلة إلينا، لتخبرنا أنها في حال ترقّب كمراسلة أيّاً تكن الظروف والأحوال في فلسطين. تتحدث على سجيّتها ومن دون تكلّف، تقول إنها “بنت القدس” وتخاف عليها لأنها “مخنوقة جداً” تحت وطأة التدابير الإسرائيلية التي تعزلها عن الضفة الغربية وقطاع غزة والخارج، تراقب حركة المقدسيين في جوار باب العامود وتُعلّق على المشهد، معتبرة أن عمليات البيع والشراء غايتها إفراغ هذه المنطقة من حيوية الوجود الفلسطيني. وتذهب شيرين أبعد لتستنتج أن تفعيل النشاط الاقتصادي وازدهار التجارة، هما من العوامل التي تُثبّت الأهل في مدينتهم: أنا سعيدة لوجود الناس هنا رداً على محاولة السلطات الإسرائيلية إغلاق البلدة القديمة ودفع التجار والأهالي إلى الهرب؛ وجود ابن القدس في مدينته رغم الصعوبات هو معركة بذاتها، والمكسب في المعركة يتمثل في ثبات أهل القدس رغم التضييق وزيادة الضرائب والمخالفات ومحاولات التهجير.

***

الصدمة التي أحدثتها طريقة شيرين جديرة بأن يُبنى عليها لتطوير اتجاهٍ عربي يليق بمهنة “الصحافي المثقف” الذي لا يخاف من التضحية لكونه أكثر من مجرّد أستاذ أو خبير يحيط نفسه بهالة المعرفة والتخصص، بل يتجرأ على تجاوز قيود المهنة ليخرج بلغة مختلفة ويضطلع بدور خاص مناوئ للإجماع والسلطة. ذلك أن دور الصحافي المثقف ليس أن يجاري السلطة بل أن يفهم ويُفسّر ويُسائل

مقارنة بمعظم المؤسسات الإعلامية العربية والشرق أوسطية، فإن قناة “الجزيرة” تُمثّل نوعاً من الميديا المختلفة نسبياً. ومن المعروف أن النظم الإعلامية في معظم أنحاء العالم العربي، هي جزء من النظام السياسي، وأن المناصب الأساسية فيها هي في أغلب الأحيان مناصب سياسية. غير أن ذلك لا يعني أن مؤسسة “الجزيرة” الواسعة الانتشار، لا تقيم صلات بالنظام السياسي، كون هذه الوسيلة الإعلامية التي تصل تقاريرها إلى كل أنحاء العالم، تعتمد على تمويل حكومي أو هي مؤسسة خاضعة في التحليل النهائي للسياسة الخارجية لدولة ما.

ومع ذلك، فإن النقطة الأولى التي أريد الوقوف عندها في قضية الصحافية شيرين أبو عاقلة، أن دورها كمراسلة لمكتب “الجزيرة” في فلسطين، هو أساساً دورها في حقل اختصاصها حيث الالتزام الأخلاقي والأدبي يتصل بقضايا شعبها الواقع تحت الاحتلال والتمييز العنصري. ومن السهل أن نتصوّر ماذا يعني الالتزام الصارم بقواعد المهنة الصحافية عندما تكون التغطية اليومية متحركة على جبهات عدة ومن دون توقف أياً تكن الظروف (أعياد، أو جائحة، أو منع تجول)، أو يكون العمل “عادياً” تحت نيران جيش الاحتلال.

وفي هذا الشأن يلاحظ أن شيرين تمكّنت في احترافها المهني المميّز أن تتجنّب التقيّد ببعض الأمور مثل اعتماد رطانة معيّنة، أو استخدام لغة متخصصة لا يمكن لأحد آخر أن يفهمها. والأهم من ذلك إصرارها على “اللمسة الإنسانية” الناتجة من التفاعل مع المعاناة الإنسانية لشعبٍ يقاوم آلة عسكرية هائلة على الخط الفاصل بين الحياة والموت كما رأينا في معركة جنين. وطريقة شيرين تستمد موضوعها الأساسي واللغة من حقلٍ محدّد هو محنة فلسطين وحريتها واستقلالها. وبالفعل لم تكن لغة شيرين في أي وقت بعيدة عن التجربة الفلسطينية، مع السعي إلى نوع من التوازن بين ضرورات العمل المهني وحيوية المجتمع الفلسطيني ومزاجه العام.

النقطة الثانية في طريقة شيرين هي الانتقال من النافذة الضيّقة للحرفة “التلفزيونية” إلى العالم الأوسع، وتذكير المشاهد والمراقب المتأني أنّ ما تحاول تقاريرها إيصاله ليس التبجيل لسلطة أو دولة أو مرجعية، وليس تعظيم ما يقوله خطابها ككاتبة صحافية. بل تحاول أن تُقدّم مادة مفتوحة على الأسئلة وأن تُفسح المجال لما هو مخالف لعنجهية المحتل أو للتشكيك العميق بما تدّعيه سلطات الاحتلال. وهنا يبدو لي، أن النص الواضح والنبرة الساخرة أحياناً، قد يُثيران الاهتمام أكثر من الذهاب إلى التعميم الثقيل الوطأة، أو اعتماد صيغٍ يمكن الاختباء وراءها تجنباً لاتخاذ موقف المشتبك.

النقطة الثالثة تتعلق بالعمل بعكس التيار أو المغامرة بعيداً عن أُطرٍ أو صيغٍ تقليدية متّبعة في الإعلام والصحافة، وهو أمر يقود في أحيان كثيرة إلى المجازفة بمواجهة خطر الموت أو التضحية بمنصب رفيع أو الانسحاب من عملٍ مريح نسبياً في مؤسسة محترمة تُمثّل ضمانة في الحياة المهنية والاجتماعية الخ. وهذا يعيدني قليلاً الى تجربتي الشخصية في صحيفة النهار حيث الأجواء المحافظة السائدة لم تمنعني من تشكيل حالة خاصة، سواء لجهة التحقيقات التي نشرتها حول حركات التحرير الوطني وقضايا نزع الاستعمار، كما مقاربة حركة الإحياء الإسلامية ومنها التغطية الطويلة للثورة الإسلامية في إيران، فضلاً عن ركوب المجازفة في طائرة الإمام الخميني العائدة من باريس إلى طهران، أو التجرؤ على التحقيق في ظروف اغتيال الرئيس سالم ربيع علي في عدن.. وفي هذا المجال أتصوّر أن شيرين التي تنقّلت بين مؤسسات وتجارب عدّة قبل أن تستقر في مكتب “الجزيرة”، كان يمكنها أن تختار حقلاً آخر للعمل غير فلسطين، كما أن حصولها على الجنسية الأميركية كان يمكن أن يساعد موهبتها للقفز إلى مؤسسات إعلامية دولية، لكنها اختارت التحدي والطريق الصعب وكانت تُدرك خطورة المجازفة التي سبق وأودت بحياة عدد كبير من الصحافيين الفلسطينيين.

مؤسسة “الجزيرة” الواسعة الانتشار، لا تقيم صلات بالنظام السياسي، كون هذه الوسيلة الإعلامية التي تصل تقاريرها إلى كل أنحاء العالم، تعتمد على تمويل حكومي أو هي مؤسسة خاضعة في التحليل النهائي للسياسة الخارجية لدولة ما

أمّا النقطة الرابعة والأخيرة فهي فائقة الأهمية لكونها تتعلّق بالوجود والبقاء والاستقلال. في الوسط الصحافي العربي يتلقى الكتّاب البارزون، خصوصاً أولئك الذين يساهمون في صنع اتجاهات الرأي العام والتأثير في هندستها، يتلقّون منحاً مادية تثير الريبة وربما الغضب والإدانة في بعض الحالات. لذا أعتقد أن أهم شيء بالنسبة إلى الصحافي هو ذلك الحس بالاستقلال، والإدراك بأنك تنطق بصوتك حقاً وانطلاقاً من قناعاتك، وأنك في حالة استنفار دائم تجنباً للخضوع لإرادة الكبار أو الأقوياء. أنا أتكلم في الحقيقة على هذه اللحظة القاتلة التي يصعب فيها الخروج من المؤسسة الحاضنة لاعتبارات معنوية ومادية، لكنك قد تختار المجازفة والخروج لأنك ترى أن حريتك في الميزان أو أن التزاماتٍ عميقة تدفعك نحو الخوض في مشروع آخر يستحق المغامرة وإن كان ثمن ذلك التهميش والإنكفاء. وقد لفت انتباهي في حالة شيرين أبو عاقلة أن نجوميتها الإعلامية لم تمنعها من أن تكون هامشية سياسياً بعض الشيء بدلاً من أن تكون وسط مكتب من مكاتب صنع السياسة. من السهل على الصحافي اللامع أن يفيض على الجمهور بالنُصح والتوقعات، بل الأسهل أن يكون في المركز مطلقاً من هناك أحكامه الخطيرة، لكن الدور الأكثر تحدياً أن يميل إلى الجانب البعيد عن القوى المركزية في المجتمع والعالم.

إقرأ على موقع 180  بعد الدونباس.. زيلينسكي يتواضع أو يستدرج "بطرس الأكبر"!

***

في الختام، من المهم أن نتذكر على الدوام أن الصدمة التي أحدثتها طريقة شيرين جديرة بأن يُبنى عليها لتطوير اتجاهٍ عربي يليق بمهنة “الصحافي المثقف” الذي لا يخاف من التضحية لكونه أكثر من مجرّد أستاذ أو خبير يحيط نفسه بهالة المعرفة والتخصص، بل يتجرأ على تجاوز قيود المهنة ليخرج بلغة مختلفة ويضطلع بدور خاص مناوئ للإجماع والسلطة. ذلك أن دور الصحافي المثقف ليس أن يجاري السلطة بل أن يفهم ويُفسّر ويُسائل.

Print Friendly, PDF & Email
ميشال نوفل

كاتب وصحافي لبناني

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  بعد الدونباس.. زيلينسكي يتواضع أو يستدرج "بطرس الأكبر"!