تزامن انتهاء العطلة السياسية الفرنسية في أواخر شهر آب/أغسطس مع بدء مهلة الاستحقاق الدستوري الرئاسي في لبنان، غير أن المعروف عن الدوائر الدبلوماسية والأمنية الفرنسية أنها تتميز بـ”استمرارية” العمل على مدار السنة، فالمعلومات التي تتجمع لديها ليست “بنت ساعتها” بل حصيلة عمل دؤوب متواصل من الاتصالات واللقاءات والمشاورات مع اكثر من فريق داخلي واكثر من جهة خارجية من اجل تكوين نظرة شاملة ومجموعة معطيات تبني باريس على اساسها مواقفها وتنطلق تحركاتها تجاه بلد (لبنان) “لم ينقطع الاهتمام به يوماً برغم خيبات الامل المتكررة والفرص الضائعة العديدة”.
لبنان “الدولة ـ البوابة”
تشدد الاوساط الفرنسية المعنية بالملف اللبناني على أهمية وضعية لبنان في الاستراتيجية الفرنسية في هذه المنطقة من العالم نظراً لموقعه الجغرافي الخاص وتكوينه المميز اضافة الى مجموعة الرموز والقيم التي يحملها. كل ذلك يجعل من هذا البلد بمثابة “المدخل” و”البوابة” بين الشرق والغرب. من هنا جاء دعم فرنسا المتواصل والمستمر من خلال الابقاء على التزاماتها العملية حيال لبنان ولعب دور “قوة دفع” ومحرك التضامن الاوروبي والغربي لانقاذه ومنع انهياره.
وتشدد هذه الاوساط على أهمية شخصية الانسان اللبناني وقدرته على المبادرة والابتكار خصوصاً لدى فئة الشباب ورغبتهم الحقيقية في التغيير. وتؤكد على رفض نظرية “صوملة” لبنان أو القول إنه “بلد مفلس”. لكن التخوف والقلق مصدرهما التراجع الخطير للوضع الاجتماعي نتيجة الانهيار الاقتصادي والمالي مع ما يرافقه من انتشار ظاهرة “الجريمة المنظمة” والتي من شأنها مع تفاقم تردي الوضع المعيشي والحياتي للمواطن اللبناني إندلاع فوضى من شأنها أن تزعزع الاستقرار الداخلي الهش.
من هنا ترى هذه الاوساط ضرورة الاسراع في انجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني الذي سيكون بمثابة “بداية ديناميكية التغيير”. وتسارع هذه الاوساط الى نفي كل ما يشاع ان لفرنسا مرشح وتعمل من اجل ايصاله الى سدة الرئاسة. اما المواصفات المطلوبة فقد باتت معروفة (لجهة الشفافية والخبرة والرؤية والالتفاف حوله) وتبقى ابرزها “من يجمع حول اسمه اقل فيتوات ممكنة”!.
أربع مجموعات من 16 اسماً!
وحول الاسماء المتداولة للرئاسة، يبدو انها تندرج في اطار اربع مجموعات وتضم كل منها اربعة اسماء:
-المجموعة الاولى وهي مجموعة “الوزن الثقيل”، وتضم سليمان فرنجية، جبران باسيل، سمير جعجع وجوزف عون ولكل واحد منهم نقاط قوة ونقاط ضعف والاهم “ظروف داخلية وخارجية”.
-المجموعة الثانية تضم أربعة ممن يُسمون انفسهم بـ”المستقلين”، وهم سياسيون من فئة رجال المال والأعمال او ينتمون الى بعض البيوتات السياسية التقليدية.
-المجموعة الثالثة تضم أربعة من “الوزراء السابقين” الطامحين رئاسياً.
-المجموعة الرابعة تضم أربع شخصيات من اصحاب الخبرة المالية والاقتصادية من داخل لبنان ومن خارجه، ويبدو ان هذه الشخصيات هي مرشحة في الوقت نفسه الى مركز حاكمية مصرف لبنان ورئاسة الجمهورية لذلك فانها تتمنى ألا يصار الى تغيير الحاكم قبل نهاية العهد الحالي، وبذلك تحافظ على حظوظها في الفوز بأحد المركزين!. وتشير هذه الأوساط الى انه حتى الآن ليس هناك من مرشح “فافوري” (مفضل) متقدم على غيره.
تؤكد الاوساط الفرنسية على ابقاء باريس ومعها المجتمع الدولي الضغط لانجاز الاستحقاق الانتخابي الرئاسي كما فعلت حيال الاستحقاق الانتخابي النيابي، محذرة بشكل حازم بانها ستمارس ما لديها من تأثير ونفوذ ووسائل تجاه المعرقلين وملوحة بامكان اللجوء الى “تدابير معينة” للاقتصاص منهم
وتتوقف الاوساط هنا لتشير بالاصبع الى مسؤولية القيادات السياسية المارونية ليس فقط في ضرورة اتمام الاستحقاق الرئاسي في موعده بل ايضاً في لعب دور اساسي في مسيرة انقاذ بلدهم من حال الانهيار الذي يُهدّده. وهي تأخذ على هؤلاء “الاستمرار في حروبهم الداخلية والشخصية في ما بينهم وما فيها من حقد وكراهية ونكد وانانية، والمضي في صراعاتهم على النفوذ والسلطة وتغليب مصالحهم الخاصة على مصلحة وطنهم العليا وحتى على حساب مصلحة المسيحيين الذين يدعون الدفاع عنها”. وتضيف ان هذه القيادات تتصرف وكأنها لم تتعلم شيئاً من تجارب الماضي المريرة ولم تقم بفحص ضمير حيال الويلات والأضرار الجسيمة التي لحقت بالمسيحيين نتيجة نزاعاتهم وتشرذم صفوفهم.
والدعوة الى تحمل المسؤوليات تشمل ايضاً المراجع الكنسية المسيحية والمارونية تحديداً اذ “عليها ان تعي جيداً مضمون الرسالة التي اراد الفاتيكان ايصالها من خلال تأجيل زيارة البابا فرنسيس الى لبنان والعمل بموجبها فعلاً لا الاكتفاء قولاً وخطابة”.
وهذه الدعوة الفرنسية تذهب في اتجاه المعلومات التي رشحت من اوساط قريبة من الكرسي الرسولي والتي تشير من جهة، الى تحفظات حيال بعض المواقف السياسية المتخذة من قبل بعض القيادات الروحية، ومن جهة اخرى الى انتقادات موجهة لسلوكيات بعض رجال الدين ومطالبتهم باجراء مراجعة تجعلهم اقرب الى شعبهم خصوصاً الفئات الشابة منه في معاناته وظروفه الحياتية الصعبة.
وتؤكد الاوساط على ابقاء فرنسا ومعها المجتمع الدولي الضغط لانجاز الاستحقاق الانتخابي الرئاسي كما فعلت حيال الاستحقاق الانتخابي النيابي، محذرة بشكل حازم بانها ستمارس ما لديها من تأثير ونفوذ ووسائل تجاه المعرقلين وملوحة بامكان اللجوء الى “تدابير معينة” للاقتصاص منهم.
وهي تشدد في الوقت نفسه على ضرورة اتمام الاستحقاق الانتخابي البلدي المقبل (في ربيع العام 2023) “نظراً لاهمية البلديات في احداث التغيير على الصعيد المحلي والمناطقي واطلاق عملية التنمية المحلية الحيوية”.
الحاكم يمسك بعصا الساحر
وحول دور حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، فإن الاوساط الفرنسية تصفه بانه “الحاكم الفعلي للبلد والممسك بعصا الساحر”، وترى انه تمكن من الاستمرار في موقعه بفضل “الدعم الكامل له من قبل الكارتيل السياسي والمالي والمصرفي” مع امتداداته الدينية والاعلامية نظرا لأنه يمسك بكل الخيوط المرتبطة بهذه المنظومة”. ولكن هذه الاوساط تشير الى ضرورة تغيير الحاكم الحالي بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية المدخل الى “التغيير الحقيقي والاصلاح المطلوب”.
وترى باريس ان لبنان على مفترق طرق وهو يمر في لحظة تاريخية حرجة وفي ظروف اقليمية مفصلية ينبغي على القيادات فيه التخلي عن سياسة الانكار والتعامي والنظر بواقعية الى الحقائق المرة والصعبة التي تواجه وطنهم. وهذه الدعوة لا تخلو من “التحذير الحازم”، ملمحة الى استخدام “نفوذها وتأثيرها لوضع حد لحال الاهمال والتسيب والتعسف والفساد”، مشددة على ان اعتماد سياسة التسويف والتأجيل لم تعد مقبولة والمطلوب فرنسياً ودولياً سلوكيات جديدة خصوصاً ان لبنان يتراجع في سلم الأولويات الدولية.