يُفصِح هكذا زعم للصحافي أكيول عما أصاب الفكر الإسلامي الحديث من شطط، خصوصاً عند من يزعم أنّه منفتح ومتنوّر، إذ يدلّ على حجم التشبّث بالماضي والحاجة إلى أمثلة قديمة وزائلة لتقليّدها، بدل الإنشداد نحو المستقبل..
ظهر الغرام بالمعتزلة في أواخر القرن التاسع عشر نتيجة الجهد الكبير الذي قام به أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمّد عبده من أجل تحديث الإسلام وجعله ملائماً للفكر الغربي. لكن الولع بالمعتزلة، وللأسف، أكثره هلوسات فكريّة وأمنيات ضيزى ولا أساس تاريخياً له.
لقد تسلّح المولعون بالمعتزلة بالنقد الجارح لهم في الفكر التقليدي السنّي من أجل إعادة تشكيل فكرهم. قُصارى القول إنّ “حزب” المعتزلة الحديث يتصوّر أنّ فكر المعتزلة هو ما يقوله عنهم أعداءهم، ولذلك هو نقيض للفكر السنّي التقليدي. إذاً علينا أن ننظر في الفكر السنّي التقليدي ونستخلص أنّ المعتزلة كانوا ليقولوا عكس ذلك، وهو ما يعني أنّنا نعتبرهم حالة منفصلة عن باقي الحركات الإسلاميّة في وقتهم، وأنّه من غير الضروري أن نقرأ جيّداً كتبهم ونفهم تشعّباتهم وعلاقتهم العضويّة بباقي الفرق الإسلاميّة.
الإهتمام بكتب وفكر المعتزلة ما زال عرضة لمشاكل كثيرة (إن كان في العالم العربي والإسلامي أو في المعاهد الغربيّة). نحن لسنا بحاجة فقط إلى دراسات جيّدة عن المعتزلة، بل هناك ضرورة أكبر وأهمّ للخوض في ما إذا كان الإسم (معتزلة) أو التصنيف (معتزلي) هو أمر مفيد لفهم الحركة التي نسمّيها بالمعتزلة والفكر الذي أنتجته.
***
لكي نفهم المعتزلة، يجب علينا أن نرمي بالخرافات التي نُردّدها عنهم كالببغاوات وأن ننظر في تعقيدات وتشعبات وتناقضات فكرهم مدخلاً لذلك. علينا أن نعي أنّ من نلقّبهم بـ”المعتزلة” هم فقط جزء من المعتزلة وليس كلّ المعتزلة، وأنّ كثيراً من فكر الإعتزال تمّت إعادة قولبته في الفكر السنّي والشيعي الكلاسيكي
نشوء المعتزلة في القرن الإسلامي الثاني هو أمر لا نعرف عنه الكثير وتحيط به ضبابيّة كبيرة. هناك أقوال كثيرة في ذلك، ولكن ليس لدينا أي إثبات أو دليل على صحّة أيّ منها. مثلاً، يقال إن بعض تلامذة الحسن البصري (ت. 728)، يقودهم واصل بن عطاء (ت. 748) وعمرو بن عبيد (ت. 761)، اختلفوا معه في بعض المسائل، فاعتزلوا حلقته وسُمُّوا لذلك بـ”المعتزلة”. إشكاليّة هذه الرواية أن المعتزلة يرفضونها، كونهم يؤكّدون أنّ الحسن البصري كان من مؤسّسي مذهبهم.
ثمة إشكاليّة أخرى أنّ من لقّبوا أو اتّهموا بكونهم معتزلة قبل سنة 850 لا يقدمون لنا فكرة واضحة عن الأساس الذي انطلقوا منه. أضف إلى ذلك، أن ما يقال عن فكرة الأصول الخمسة (التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) كأساس جامع لفكر المعتزلة لا صحّة له. مثلاً، يُزعم أنّ أبا الهذيل العلّاف (ت. 850) كان أوّل من عرّف الأصول الخمسة، لكن لا يُعرف له رأي عن “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. إذاً، هو ليس بأوّل من قال بالأصول الخمسة، ومن سبقه من المعتزلة لم يكن بينهم من يُدرك أنّ الإعتزال يتطلّب أصولاً محدّدة. فكرة الأصول الخمسة ظهرت بعد أبي الهذيل وتمّ إسقاطها على المعتزلة المتقدّمين.
يدل هذا الأمر على أنّنا أمام ضبابيّة كبيرة بخصوص الإعتزال قبل سنة 850. أمّا بعد ذلك، فتتضّح الأمور أكثر لسببين مهمّين. الأوّل؛ أنّ كتب المعتزلة التي لدينا هي من بعد سنة 850، وأكثرها من القرنين العاشر والحادي عشر، وتشير إلى خلافات كبيرة بينهم. الثاني؛ ظهور فكرة الأصول خمسة والتي هدفت لتفريق مجموعة محدّدة من المعتزلة عن غيرهم من المعتزلة. ونجد ذلك، مثلاً، في قول أبي الحسين الخيّاط البغدادي (ت. 913) أنّ من يستحقّ اسم الإعتزال يجب أن “يجمع القول بالأصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإذا كملت في الإنسان هذه الخصال الخمسة فهو معتزلي”.
هذا التعريف، كما ذكرت، يتحدّث عن فئة معيّنة من المعتزلة، وليس عن كلّ المعتزلة لأنّ هناك بعض علماء الشيعة الإثني عشريّة الذين اعتبروا أنفسهم معتزلة فكريّاً ولقّبوا بـ”أهل العدل”، مثل الشيخ المفيد (ت. 1022) والشريف المرتضى (ت. 1044)، وكان لهم دور كبير في إعادة تأسيس الفكر الإثني عشري وفقاً لفكر الإعتزال. إذا قلنا أنّهم لم يكونوا من المعتزلة، يكون هذا رأياً سياسياً لا علميّاً. وهناك أيضاً التأثير الضخم للإعتزال على المذهب الشيعي الزيدي.
لكن “الفيل أمامنا” (كما يقال في اللغة الإنكليزيّة) هم المعتزلة من أهل السنّة. وهنا أعني:
- المعتزلة السنّة الذين قرّروا أن يبقوا على الإسم.
- المعتزلة الذين رفضوا الإسم ولُقّبوا بأسماء أخرى. مثلاً، عندما نتحدّث عن الأشعري، أليس فكره جزءاً من الإعتزال؟ وعندما حصل الخلاف بينه وبين أساتذته، هل رفض كلّ فكر الإعتزال أم بعضه؟ الجواب أنّ هناك الكثير من فكر المعتزلة في المذهب الأشعري، أكثر ممّا نتصوّر. مثلاً، فكرة “الكسب” (وهي تعالج مسؤوليّة الإنسان عن أعماله) هي فكرة أوّل من قال بها هم مشايخ المعتزلة الأوائل أمثال ضرّار بن عمر (ت. نحو 805) وجعفر بن حرب (ت. 850)، ومنهم أخذها الأشعري. وهناك أيضاً حالات كثيرة من التلاقي الفكري بين المعتزلة وبعض مفكّري المذهب الأشعري، خصوصاً من كان يؤمن منهم بالعقل كأساس للفكر الديني مع النصّ (القرآن والسنّة)، أمثال فخر الدين الرازي (ت. 1210).
أمّا الحديث عن أنّ المعتزلة كانوا يقولون بأسبقيّة العقل على النقل، فهو كلام خاطئ. وكذلك الأمر عن رفضهم للحديث النبوي. من أكبر إهتمامات المعتزلة في فترة ما بعد الـ 850 كان تفسير القرآن وتجميع الحديث ودراسته، وكان كثير منهم يعتقد بصواب نسخ القرآن بالسنّة النبويّة.
إذاً، عند القول إنّ المعتزلة اتّبعوا العقل، ما يجب توكيده أنّهم أسّسوا قواعد لغويّة ولاهوتيّة اتّبعوها (بعكس الإعتباطيّة أو الإنتقائيّة) لكي تساعد على فهم معنى الآيات القرآنيّة من باب أنّه الخطاب الذي على أساسه نفهم ما يريده الله من البشر، ولا نعرف لهم رأي أن العقل يمكن أن يأخذ مكان القرآن أو السنّة النبويّة. إذاً العقل بحاجة إلى الدلائل والبراهين التي نجدها في القرآن والسنّة، ولا يمكن له أن يعمل خارجها.
نشوء المعتزلة في القرن الإسلامي الثاني هو أمر لا نعرف عنه الكثير وتحيط به ضبابيّة كبيرة. هناك أقوال كثيرة في ذلك، ولكن ليس لدينا أي إثبات أو دليل على صحّة أيّ منها
أريد أن أعود إلى نقطة مهمّة عن المعتزلة كجزء من النسيج الذي أنتج ما نسمّيه الحالة السنّيّة في الإسلام. كانت لهم من دون شكّ صولات وجولات مع كل الفرق الكلاميّة (إسلاميّة كانت أو غير إسلاميّة). لكنّ الكثير من علمائهم كانوا أيضاً من كبار فقهاء الإسلام في وقتهم. القاضي عبد الجبّار (ت. 1024) مثلاً، كان قاضي قضاة مدينة الريّ، وكان يمارس الفقه على المذهب الشافعي. وكان هناك عدد كبير من المعتزلة على المذهب الشافعي. وكان هناك أيضاً عدد كبير على المذهب الحنفي، أمثال الحاكم الجِشُمي (ت. 1101) وجارالله الزمخشري (ت. 1144). وإذا أضفنا معتزلة الشيعة الإثني عشريّة، نكون بالحقيقة أمام صورة عن المعتزلة مختلفة تماماً عن الصورة النمطيّة التي ردّدها ويردّدها الكثيرون. بمعنى آخر، كان متكلّمو المعتزلة جزءاً لا يتجزّأ من النسيج العلمي والفكري والفقهي في وقتهم، وإن اختلفوا عن الآخرين داخل فرقهم في بعض مواضيع الكلام. وهذه الحقيقة نجدها داخل مذاهب فقهيّة أخرى. فالشوافعة مثلاً، انقسموا في موضوع الكلام بين من هو أشعري أو معتزلي أو غير ذلك، وهناك إنقسامات داخل كل هذه الفرق الكلاميّة.
في الخلاصة، لكي نفهم المعتزلة، يجب علينا أن نرمي بالخرافات التي نُردّدها عنهم كالببغاوات وأن ننظر في تعقيدات وتشعبات وتناقضات فكرهم مدخلاً لذلك. علينا أن نعي أنّ من نلقّبهم بـ”المعتزلة” هم فقط جزء من المعتزلة وليس كلّ المعتزلة، وأنّ كثيراً من فكر الإعتزال تمّت إعادة قولبته في الفكر السنّي والشيعي الكلاسيكي. وعلينا أيضاً أن نتوقّف عن التلاعب بالتاريخ حلّاً وهمياً لمشاكلنا، لأن هكذا تلاعب يمنعنا من فهم التاريخ كما هو..