مخيبر يخسر الإنتخابات والحلفاء والطعون.. ولا ينهزم (8)

بعد عشرين عامًا متواصلة من العمل النيابي (1972-1992)، خرج ألبير مخيبر، أو أخرج نفسه، من الندوة البرلمانية طوعًا، مستجيبًا لخيارٍ شعبي جارف مؤيِّد لمقاطعة انتخابات إكراهية وكيف لشيخ المعارضة أن يعترض على خيارٍ كهذا سنتئذٍ وهو من يحمل سمة «نائب الشعب» بامتياز؟

فشل ألبير مخيبر في إقناع البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير وأركان المعارضة، بـ«تثمير» نجاح المقاطعة واستكماله بعصيانٍ مدني، لكنه لم يُحبط بل تابع عمله السياسي والوطني بإطار جديد، وهو المفتون بالسياسة من رأسه حتى قدمَيه. اِستفاقت في بال «الحكيم» فكرة «الحزب الجمهوري» الذي أسّسه بعد «اتّفاق الطائف» فضاعت أوراقه المُرسلة إلى وزارة الداخلية فلا علِمت به ولا سمعت بخبر إنشائه، ثم ارتأى أن «التجمّع» أفضل من «الحزب» كإطار مرن، فكان «التجمّع للجمهورية» الذي جمع نوابًا سابقين من كلّ الطوائف وشخصيات مستقلّة، ليتوسّط مخيبر الأرثوذكسي، في اجتماعات «التجمّع»، عثمان الدنا السنّي وشفيق بدر الماروني ومحمود عمّار الشيعي وبعض من كانوا على نفس الخطى والخطّ سائرين، وهم من المعترضين على التدخّل السوري في لبنان ومصادرة قراره السيادي والسياسي والعسكري.

«كان مخيبر يكتب البيان الذي يصدر عقب الاجتماعات مسبقًا، وإن شعر أن فيه ما قد يحرج أعضاء «التجمّع» يطلّع البيان كموقف خاص به لا يلزم الآخرين به»([1]).

ويروي مخيبر في مقابلةٍ صحافية أنه أنشأ التجمّع بعدما وجد عناصر طيبّة تنتمي إلى تيّارات وطوائف عدّة فجمعها في «إطارٍ معيّن بعدما أفلست الأحزاب يجب ألّا نبقى في إطار الأحزاب الطائفية، لذلك ضمّ التجمّع وجوهًا من الطوائف كلّها”، وكشف عن محاولة توسيع الإطار إلى الاغتراب اللبناني ضمن إطار العولمة الحاصلة، “لأن في الاغتراب قوّة تتجاهلها الدولة، وهذه العولمة تقود العالم نحو إلغاء الانقسامات والحدود المكرّسة دوليًا. الانتشار اللبناني رأسمال للبنان».

أصدر «التجمّع للجمهورية» على مدى أعوام مواقف شجاعة في كلّ قضية وطنية، وكلّ مسألة متّصلة بالسيادة والقرار الحرّ، وفي كلّ خرق للقواعد الدستورية، كالتمديد للرئيس الياس الهراوي برفع الأيدي، في خريف العام 1995، بإشارةٍ من الرئيس السوري حافظ الأسد الذي أعلن نيابةً عن أصحاب العلاقة تأييده «لرغبة الإخوة في لبنان في تمديد ولاية السيّد الهراوي» فتحقّقت «الرغبة» الجامحة ولم تكن المعارضة في مجلس النواب وخارجه لتغيّر شيئًا.

اِنتظمت اجتماعات «التجمّع» لكنه بقي في ذهن «الحكيم» إطارًا موّقتًا، فالعمل السياسي الفعلي والمنازلات الكبرى إنما تحصل تحت «قبّة البرلمان» وليست في مكانٍ آخر.

اِقترب موعد انتخابات 1996. شجّع الفرنسيون والأميركيون وضمنًا الفاتيكان، المسيحيين على المشاركة في الانتخابات. ولم يكن الدكتور ألبير مخيبر بحاجة إلى من يشجّعه، فقد أعلن صراحةً، وفي غير مناسبة عزمه على خوض الانتخابات، علمًا أنه كان في طليعة الداعين إلى تجديد المقاطعة في الانتخابات الفرعية التي أعقبت وفاة نائب بيروت جوزف مغيزل، متناغمًا وقتئذِ مع موقف الأحزاب المسيحية وتيّار العماد ميشال عون.

اِقترب الصيف الانتخابي، آب على الباب، فماذا في بال العميد؟

«أبدت «الكتلة الوطنية» استعدادها الكامل لاستحقاق الـ1996 الانتخابي بإيحاءٍ من العميد، مع شعورنا أننا متّجهون أيضًا صوب المقاطعة ولم نستطع فرملة مخيبر الذي دعا إلى الترشّح رغم كلّ الظروف»، يقول الدكتور سليم سلهب، ويذهب أمين عام الكتلة الوطنية المحامي جان حوّاط إلى أبعد من ذلك، حيث تبلّغ، كما بعض مسؤولي «الكتلة» من العميد ريمون إدّه «أن الحزب لن يُقاطع، لكن عندما نصل إلى الانتخابات نتكلّم».

اِنتهت المعركة الانتخابية بفوزٍ شبه كامل للائحة الوزير المرّ، ولم تنفع الأصوات التي ناهزت الـ26 ألفًا في إعادة «الأسد» إلى عرينه. والخرق المتني الوحيد في انتخابات تلك الدورة أحدثه نسيب لحّود، الذي اتّهم بصياغة تحالفات جانبية ولجأ إلى عملية تبادل أصوات «تحت الطاولة» تأمينًا لمصلحته و..فوزه. وفي تقويمٍ متأخّر قال مخيبر «خسرتُ لخروج العملية عن النمط القانوني فنجح نسيب لحّود وحده بتدخّلٍ خارجي

قبل أسابيع من موعد الانتخاب، كلّف العميد إدّه جان حوّاط ترؤس وفد كتلوي وزيارة بعض المسؤولين، وقد شملت جولته رئيس الحكومة رفيق الحريري، ورئيس الحزب التقدّمي الاشتراكي وليد جنبلاط والنائب سليمان فرنجيه وغيرهم، وكان مطلب إدّه، أو اقتراحه، تأجيل موعد الانتخابات، وهذا ما لم يلقَ قبولًا من أحد. ويبدو أن العميد، على الرغم من حراكه المحدود، كان ذاهبًا إلى المقاطعة، وحجّته الثابتة عدم جواز إجراء الانتخابات في ظلّ الوجود السوري والاحتلال الإسرائيلي لبنان. ويروي حوّاط آخر محاولة لإقناع العميد. «قلتُ له، يا عميد خسرنا كلّ أوراقنا بموضوع المقاطعة. خسرنا أوراق نجاح وهذا النضال السلمي الذي قمنا فيه طوال أعوام الحرب. نتحدّث عن 17 سنة. نجحنا بمواقفنا وتريد أن تخسّرنا إياها بـ«دوبلة» المقاطعة.

قال: يا جان ما بقا بدّي.

قلت: عدّ إلى لبنان وشارك في الانتخابات.

قال: ما بجي بسلّم حالي للسوريين.

قلت: نحن قاعدين تحت يد السوريين. يعني لازم نفل؟.

كان في آخر العمر غير راغب بتغيير أي شيء. لم يعد هناك ما يكسبه. كما لم يعد هناك ما يخسره. زعلت وقلت له: أنا ما رح إقدر قاطع. قدّمت استقالتي من الحزب وباشرت التحضير لخوض الانتخابات، وفي تلك الفترة حصلت أيضًا استقالات في صفوف حزبَي «الكتلة» و«الوطنيون الأحرار» على خلفية الموقف من المقاطعة غير المبرّرة برأي المستقيلين.

توافق حوّاط ومخيبر، في الرأي، في العام 1992 على المقاطعة، وتوافقا في العام 1996 على ضرورة المشاركة في العملية الإنتخابية، التي وصفها رئيس حزب «الوطنيون الأحرار» دوري شمعون بأنها «عزيمة عالهزيمة». وأخذ مخيبر على العميد تفرّده بقرار المقاطعة من دون استشارته نظرًا للصداقة التي تربط بينهما كما لم يستشر، بحسب مخيبر، حتى أركان الكتلة الوطنية. ورأى في بيان ريمون إدّه الداعي إلى المقاطعة «محاولة للهروب إلى الأمام» آخذًا عليه إطلاق موقفه «قبل أن يتشاور مع المعارضة ويقف على رأيها في شأن ما يتمّ تداوله في قانون الانتخاب». لم يرق لمخيبر موقف معارضة الخارج الباريسية ووجده مفيدًا للسلطة التي تحاول إبعاد المعارضة عن الانتخابات.

إقرأ على موقع 180  لودريان في بيروت.. مهمة أبعد من إسم رئيس الجمهورية!

أما البطريرك مار نصرالله بطرس صفير، الذي احتضن موقف المعارضة في العام 1992 فنقل عنه المحامي كلود عازوري قوله «من يريد أن يقاطع فليقاطع ومن يريد المشاركة فليشارك» رافضًا طلب ريمون إدّه والجنرال عون منه قيادة المقاطعة، على الرغم من اعتراضه على القانون الذي صدر قبل شهر من موعد الانتخابات منتقدًا عدم المساواة في القانون، وعدم تشكيل حكومة حيادية تشرف على الانتخابات، وعدم إيجاد بطاقة انتخابية للمهجّرين تتيح لهم ممارسة حقهم خارج أماكن تهجيرهم…». بكلامه هذا سجّل البطريرك الماروني موقفًا مبدئيًا من دون أن ينحاز إلى خيار الأحزاب المسيحية الداعية إلى المقاطعة.

اِستمرّ التواصل بين ألبير مخيبر والبطريرك صفير، وفي 18 تموز من العام 1996 زار مخيبر الصرح البطريركي في بكركي وأبلغ صفير عزمه على ترشيح نفسه للانتخابات موضحًا أنه يتمنّى الدخول إلى المجلس مع ثلاثين أو أربعين نائبًا معارضًا فيتمكّنوا من تبديل الوضع وهو دعا إلى اجتماعٍ في منزله في اليوم التالي ولم يكن من رأي عون ـ الجميّل  ـ شمعون الداعي إلى المقاطعة وقال «لن نقاطع. الشعب لا يستقيل”، مميّزًا نفسه عن المعارضة الباريسية على الرغم من حرصه على سماع رأي ريمون إدّه بكل شأن. وفي الليلة نفسها، طُلي منزل مخيبر بشعارات كما سواه من المعارضين الذين قرّروا خوض الانتخابات تتّهمهم بالخيانة.

وبالعودة إلى القانون، فقد أقرّ مجلس الوزراء في 25 حزيران 1996 مشروع قانون الانتخابات الجديد، باعتماد المحافظات الأربع في الشمال، بيروت، الجنوب، والبقاع  دوائر انتخابية، والأقضية الستة في جبل لبنان، ثم صوّت عليه مجلس النواب في 13 آب بصيغته النهائية بعد الطعن في بعض بنوده، أي قبل خمسة أيام فقط من موعد إجراء الإنتخابات.

تشكّلت في دائرة المتن الشمالي لائحتان: لائحة الاعتدال الوطني ورأسها وزير الداخلية النائب ميشال المرّ، ولائحة الشعب ورأسها الدكتور ألبير مخيبر. ضمّت الأولى، إلى المرّ راجي أبو حيدر وأنطوان حدّاد وشاكر أبو سليمان وغسّان الأشقر وحبيب حكيم، وأوغست باخوس وسيبوه هوفنانيان. وضمّت الثانية، إلى مخيبر، نسيب لحّود وميشال عقل وميشال سماحة وفريد زرد أبو جودة ووليد الخوري وإميل كنعان.

قيل إن مخيبر أراد إسقاط هيمنة المرّ، أحد أركان السلطة، على المتن وتجديد زعامته الأرثوذكسية، فيما أراد لحّود تثبيت موقعه النيابي، فانتخابات رئاسة الجمهورية على الباب!

في يوم الانتخاب، بدا مخيبر شابًا في العقد التاسع، ممتلئًا حيوية، جال على المراكز الانتخابية وفي طريقه من بيت مري إلى برمّانا وبعد إدلائه بصوته أوقفه أحد الحواجز فعرّف عن نفسه فردّ العنصر معنا أوامر نفتّش الكلّ فأجابه مخيبر مبتسمًا «وحياتك وقت يمرق الوزير المرّ فتشو عم يرشي».

كما شابت العملية الانتخابية توقيفات وممارسات طاولت أنصار مخيبر في الديشونية وعين سعادة لم ينجُ منها المحامي غسّان مخيبر الذي أوقِف ولم يطلق إلّا بعد اتّصالات مع قائد الجيش العماد إميل لحّود ونقيب المحامين شكيب قرطباوي.

في يوم الانتخاب حثّ مخيبر أهل المتن على المشاركة لأن هناك صراعًا بين المواطنين والسلطة، والانكفاء يشكّل ضررًا كبيرًا على لبنان كما لام المقاطعين واعتبرهم بطريقة ما «شركاء الدولة باستثناء ريمون إدّه وبمقاطعتهم كأنهم يصوّتون للائحة الثانية».

دائمًا يجد مخيبر للعميد أسبابًا تخفيفية. ودائمًا تنتصر الصداقة الراسخة بينهما على خلافهما والحرد المتبادل. ولعل أطرف ما طاول مخيبر في يوم الانتخاب اتّهامه بشراء الأصوات فقال لمن وجّه إليه هذا الاتّهام السخيف «أنا ما معي مصاري وليس في جيبي أكثر من عشرة آلاف ليرة» وهو المعروف أن اعتماده الأول في الانتخابات على مقدّمي البوسطات والخدمات اللوجستية من دون مقابل. يوم الانتخاب، في كلّ دورة، هو يوم وفاء من ناخبي المتن تجاه «حكيمهم».

اِنتهت المعركة الانتخابية بفوزٍ شبه كامل للائحة الوزير المرّ، ولم تنفع الأصوات التي ناهزت الـ26 ألفًا في إعادة «الأسد» إلى عرينه. والخرق المتني الوحيد في انتخابات تلك الدورة أحدثه نسيب لحّود، الذي اتّهم بصياغة تحالفات جانبية ولجأ إلى عملية تبادل أصوات «تحت الطاولة» تأمينًا لمصلحته و..فوزه. وفي تقويمٍ متأخّر قال مخيبر «خسرتُ لخروج العملية عن النمط القانوني فنجح نسيب لحّود وحده بتدخّلٍ خارجي. ندمت على التعاون معه».([2])

عقب صدور النتائج المخيّبة، اتّصل العميد ريمون إدّه بصديقه ألبير مطيّبًا خاطره بعد أشهر من التباعد فأعاد المياه إلى مجاريها الصافية. كان الحكيم في ذاك اليوم في قمّة غضبه، فطالب باستقالة الياس الهراوي ووصف حكومة رفيق الحريري بحكومة مخابرات معلنًا عن تقديم طعن بمسار العملية، وهذا ما فعله في 16 أيلول لكن عدوى التزوير انتقلت من الانتخابات إلى المجلس الدستوري، الذي تباطأ في بتّ الطعون ومورست ضغوط كبيرة على رئيسه وجدي الملّاط الذي استقال بعد 8 أشهر على بدء النظر في الطعون. وفي النهاية رُدّ الطعن، وأبقى على نيابة أبي حيدر.

خسر مخيبر معركة الطعون، خسر فرصة استعادة موقعه النيابي، خسر معركة وخسر حلفاء ولم يخسر أصدقاء.

تُرى هل يعتزل العمل السياسي؟ من طرح هذا السؤال في العام 1996 لا يعرف ألبير مخيبر حق المعرفة!

[1]– من لقاءٍ مع غسّان مخيبر.

[2]– من مقابلةٍ مع موناليزا فريحة النهار 22 آب 2000.

Print Friendly, PDF & Email
ملحم الرياشي

صحافي وكاتب؛ نائب في البرلمان اللبناني

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  الرئاسة الثالثة.. كهولةٌ مبكرةٌ