سأكون صريحاً الى ابعد الحدود. شكّل تحالف حزب الله والجنرال ميشال عون قبل 14 عاماً، بالنسبة إليَّ وإلى كثيرين من أمثالي، معقد الآمال الأخير لبناء دولة توصف بالشفافية والنظافة والفعالية والازدهار والحداثة. الآن، أستطيع القول إن هذا التحالف قد خيّب الآمال. لماذا؟
الوضع الراهن في لبنان هو الأسوأ منذ تأسيس لبنان الكبير قبل قرن من الزمن، مالياً واقتصادياً واجتماعياً.
لم يحلم لبناني، الى ايّ مكون انتمى، ان لبنانه سيكون معزولا وليس بامكانه السفر للخارج وانه سيأتي يوم يحل فيه الجوع والفقر في بلده وهو ما زال على قيد الحياة.
لنكن واقعيين: لو كان السيد نصرالله يحلم بـ”سلطة نموذجية” في لبنان، هل كان ليجد أفضل من السلطة الحالية اليوم؟ رئاسة جمهورية هو الذي يتحمل مسؤولية وصولها، فلولاه لما كان “الجنرال” رئيساً. مجلس نيابي بأكثرية لحزب الله وحلفائه. رئاسة مجلس نيابي معقودة لحليفه الرئيس نبيه بري بإرادة “الثنائي الشيعي” وتحديداً السيد نصرالله. حكومة لم يكن ليحلم رئيسها حسان دياب ومعظم الوزراء فيها بأن يكونوا حيث هم، لولا قرار حزب الله، ثم يأتي الأمين العام للحزب ويقول لنا إنه لا بد من التوجه في هذا الإتجاه أو ذاك وإعتماد هذا الخيار أو ذاك.
ها هم الأميركيون والفرنسيون والأوروبيون والعرب ومعهم صندوق النقد الدولي يقولون لنا بالحرف الواحد: ساعدوا أنفسكم حتى نستطيع مساعدتكم. إبدأوا بالإصلاحات التي تتحدثون عنها منذ سنوات وأقله منذ وصول عهد “التغيير والإصلاح” إلى سدة الرئاسة الأولى. فماذا كانت النتيجة؟ حزب الله لا يمون على هذه التركيبة السلطوية كلها بأي خطوة من الخطوات الإصلاحية التي ينبغي القيام بها، وفي طليعتها إصلاح قطاع الكهرباء بما يشكله من عبء على الخزينة وعلى كاهل كل اللبنانيين.
ليصارحنا السيد نصرالله وليعلن إنسحابه من هذه التركيبة أو برءاته منها، وعندها لن نلومه، لكن أن يضع خطوطا حمراء فوق الجميع ويقول لنا ممنوع المس بهذا الموقع أو الحليف أو ذاك الموقع والحليف، ماذا ستكون النتيجة؟ ستُرمى بوجه حزب الله وأمينه العام كل موبقات هذه السلطة وكل إرتكابات السلطات المتعاقبة منذ الطائف حتى يومنا هذا، طالما هو يوفر الغطاء السياسي للجميع بعناوين مختلفة.
هذا التحرك الغربي والعربي والتركي هو نتيجة للوضع المزري الذي وصل اليه لبنان. ان ذلك علامة ضعف لأولياء السلطة الحاكمة وليس تعبيراً عن خوف منهم ومن استمرارهم
في ظل هذا المناخ، من الطبيعي أن يحتدم الصراع على لبنان، طالما أننا نفتقد للجهة الناظمة والحاسمة محلياً. قال السيد نصرالله ما يريد قوله، فإستعاد الأميركيون حضورهم، وهم الذين لم يغيبوا لحظة عن المشهد اللبناني. شهدنا حيوية في حركة السفراء الخليجيين وكذلك سفير تركيا في بيروت. هذا التحرك الغربي والعربي والتركي هو نتيجة للوضع المزري الذي وصل اليه لبنان. ان ذلك علامة ضعف لأولياء السلطة الحاكمة وليس تعبيراً عن خوف منهم ومن استمرارهم.
من هنا كانت صرخة البطريرك الماروني بشاره الراعي الداعية إلى تحييد لبنان عن صراعات الأمم والسفراء والقناصل. أصلاً، هذا هو دور رئاسة الجمهورية بان تكون حكماً بين كل اللبنانيين تقربهم من بعضهم البعض، ولا تكون مع فريق ضد الاخر، الأمر الذي يفسح أمام الخارج للعب في ملعب اللبنانيين الداخلي.
هناك ملاحظات قديمة ـ جديدة تتعلق بالظروف التي يعيشها اللبنانيون، سأعيد التذكير بها:
- قد يكون كلام السفيرة الاميركية في لبنان دوروثي شيه غير دبلوماسي، لكن هذا النوع من كلام السفراء لم يبدأ مع السفيرة الحالية. بدأ منذ القرن التاسع عشر ويستمر حتى يومنا هذا، وكل الذين يرون كلام سعادتها مهيناً، كانوا يباركون جهود السفير الاميركي (جيفري فلتمان) عندما كان شريكاً في العام 2005 في تأسيس “الحلف الرباعي” ويحضر لاستقبال وزير حزب الله في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي في الخارجية الاميركية. ومن المؤسف في الوضع اللبناني ان لكل حزب او تكتل او تيار في لبنان.. سفيره وقنصله، ولا بد من إستشارته في كل شاردة وواردة.
- ليس في مطالب المجتمع الدولي وصندوق النقد، من الحكومات السابقة والحكومة الحالية اي مطلب سياسي او كياني، الا اذا اعتبرنا ان “الفساد” مطلب سيادي ووقفه يقلل من كرامتنا. ثم كيف يكون وقف الهدر عدوا للبنان؟ الهدر والفساد اوصلا لبنان الى هذه الحالة المزرية. وكيف يكون اصلاح قطاع الكهرباء وتوفير الكهرباء 24 ساعة مطلبا غير سيادي؟ وكيف يكون تحديث قطاع الاتصالات والحاقه بالعصرنة مطلبا امبرياليا؟ وكيف يمكن أن يخدم ضبط الواردات والجمارك ووقف التهريب أجندة العدو؟ وكيف يكون حل مشكلة النفايات غير صحي؟ وكيف يكون مطلب اجراء مناقصات لكل مشتريات الدولة بشفافية واقامة مؤسسة فاعلة ونظيفة للمناقصات مطلبا طائفياً؟ واخيراً وليس اخرا، كيف يكون وجود قضاء عادل ونزيه وغير مسييس هيمنة للمؤسسات الدولية؟
- ان تنفيذ ما يدعى بالاصلاحات ينعش الاقتصاد، كما يبعد شبح التدخل الخارجي، عربياً كان أم غربياً أم اسلامياً (تركياً وإيرانياً). لذلك، حريٌ بالقوى الحاكمة، وأولها حزب الله المتهم بتغطية الفشل الحكومي، ان تبدأ باصلاح سلسلة من الامور عددتها شخصيا في مقالة سابقة في هذا الموقع، وأعيد التذكير بها:
- معالجة ضرورية وفورية وبشفافية مطلقة لقطاع الكهرباء.
- اصدار قانون استقلالية القضاء.
- إلتزام الشفافية والمعايير والشروط القانوينة في المناقصات العمومية لكل مشتريات الدولة.
- تحرير سعر صرف الليرة، اي العودة بالسياسة النقدية الى ما كانت عليه قبل العام 1997، مهما كانت الكلفة في المدى القصير.
- ضبط الجمارك ووقف التهريب.
لنتذكر دائما ان لبنان عصي على الانصياع وما علينا الا ان نتذكر ما حل بالاجتياحات الاسرائيلية، والهيمنة الفلسطينية والوصاية السورية من دون ان ننسى المارونية السياسية والسنية السياسية
ان تنفيذ هذه المطالب اللبنانية الداخلية البحتة، بمساعدة مؤسسات دولية كان لبنان من اوائل الدول الموقعة على تاسيسها ويشترك مع حوالي 190 دولة في ملكيتها، يغنينا عن الاتجاه غربا أو شرقا او الانتقال الى مجتمع زراعي او إلى مجتمع مقاوم.
- ان استمرار الوضع الحالي يبعد الناس عن التكتل الحاكم حاليا مهما كانت مواقف الولايات المتحدة ودول الخليج العربية وتركيا. كما ان الانطباع الشائع هو ان ليس لايّ من الاحزاب والتيارات والشخصيات الحاكمة اليوم دعم شعبي، باستثناء النواة الصلبة لكل منها.. وربما باستطاعتي ان اجزم ان اكثرية اللبنانيين، مناطقيا او طائفيا، هم ضد اهل الحكم والحكومة ومن يدعمهم من احزاب وتكتلات. إذا كانت القوى الحاكمة مطمئنة لتأييد اللبنانيين ولا تخاف منهم، لماذا لا تدعو الى انتخابات نيابية مبكرة وفق القانون الحالي؟
- يعتبر خبراء الاقتصاد ان انتقال اي بلد من مجتمع زراعي الى مجتمع صناعي او خدماتي او علمي او تقني هو التقدم بعينه. لذلك اذا كانت المقاومة تعني عودة لبنان الى مجتمع زراعي (يختلف هذا عن اعطاء اهتمام متزايد للزراعة أو التركيز على أن نكون مجتمعا منتجا بدل أن نكون إستهلاكيين وحسب) فهذا غير مقبول لبنانياً.
ان استمرار تجاهل الحكومة والاحزاب والتكتلات الداعمة لها القيام بالاصلاحات المطلوبة لبنانيا يعني استمرار الانهيار وازدياد تطلع اللبنانيين الى خارج يخلصهم من “مافيا” الحكم التي يحميها حزب الله. لا يدّعي احدٌ ان الخارج – واعني هنا كل الدول المعنية بما يجري في لبنان – لا يتدخل بشؤوننا او لا يريد الاستفادة من خلافاتنا المزمنة. معاناتنا هي دائما في استغاثتنا بالخارج لنهزم اخصامنا في الداخل. لكن لماذا نتهرب من تحمل مسؤولياتنا؟ هل مشاكلنا الداخلية المستمرة دائما هي مسؤولية الخارج؟ هل صحيح ان الثورات والحروب والاحداث التي وقعت في لبنان هي دائما من صنع الاخرين على ارضنا؟
ان معظم اللبنانيين ينشدون ويتمنون دولة مركزية واحدة تدير شؤونهم وامنهم واستقرارهم وحياتهم واعمالهم، وبعضنا يتفهم ويتسامح مع وجود مقاومة عسكرية تتعاطى بشؤون اقليمية، على قاعدة ان وجود المقاومة ليس مفروضا على اللبنانيين، انما هو بمحض موافقتهم وتسامحهم، لكن عندما تصبح المقاومة ركيزة للتسلط وغطاءً للفساد والهدر تصبح شكلا من اشكال الميليشيات المافيوية.
لقد اتفقنا على ان لبنان وطن نهائي لكل اللبنانيين، مكونات ومواطنين. لكن ما لم نتفق بعد اي لبنان نريد؟ هل نستطيع ان نتفق على ماهية لبنان؟
لا اعتقد ان الوضع الراهن يسمح بالوصول الى اتفاق يريحنا جميعا. لذلك من الافضل العودة به الى الوضع السابق المستقر نسبيا.
ان وقف الفساد والهدر واجراء الاصلاحات اللازمة كفيلان بعودة لبنان الى عافيته.
لنتذكر دائما ان لبنان عصي على الانصياع وما علينا الا ان نتذكر ما حل بالاجتياحات الاسرائيلية، والهيمنة الفلسطينية والوصاية السورية من دون ان ننسى المارونية السياسية والسنية السياسية.