صحيح أن الحرب تجري على أرض أوكرانيا بين جيشين روسي وأوكراني، إلا أن تداعيات تلك الحرب بات يشعر بها كل مواطن أوروبي، ولكن أبعد من أسعار الطاقة وموجة التضخم والغلاء، ثمة صدى سياسي لتلك الحرب، يُجسده صعود أحزاب اليمين الأوروبي المتطرف بخطابه الإنعزالي النقيض للخطاب الوحدوي للاتحاد الأوروبي، إلى حد يدفع للاعتقاد بأننا على أبواب مرحلة يعاد فيها تشكيل هوية أوروبا، لا بل يؤشر تصاعد الخطاب المتطرف إلى أن الاتحاد الأوروبي سيكون مُهدداً بالتفكك في السنوات المقبلة.
الحدث الأوكراني هو الشرارة، لكنه مسار تراكمي من الأحداث والتحولات والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية، شكّل فرصة للخطاب اليميني المتطرف لنشر معتقداته مستفيداً من تطور عالم الاتصالات. ربما يصح ما قاله صامويل هانتنغتون من أن “مشكلة السياسة الأولية هي التباطؤ في تطور المؤسسات السياسية بحيث تتخلف عن التغير الاجتماعي والاقتصادي”([1])، حيث فشلت مؤسسات الاتحاد الأوروبي في وضع حلول سريعة للأزمة الاقتصادية التي تعيشها أوروبا منذ الأزمة العالمية 2008 وصولاً الى الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها الاقتصادية والامنية وخاصة أمن الطاقة، الأمر الذي ساعد في تعزيز ظاهرة تقدَّم الأحزاب اليمينية التي ينادي بعضها بتفكيك الاتحاد الأوروبي.
لم تصبح الأحزاب اليمينية ذات اغلبية لتتمكن من قيادة الاتحاد الأوروبي، إنما اكدت النتائج استمرار صعود اليمين المتطرف وتمدده في الفضاء السياسي الأوروبي، الأمر الذي سيفتح الباب واسعاً أمام بناء تحالفات جديدة مع أحزاب اليمين
رحلة 2008 مستمرة
بدأت رحلة الصعود للحضور اليميني في اوروبا منذ الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، حيث لجأت الحكومات لاتباع سياسات التقشف في ظل ارتفاع معدلات البطالة مما شكل أرضية خصبة للخطاب الشعبوي المناهض للسياسات الحكومية المتبعة وخاصة موضوع المهاجرين.
تشخيص الواقع الأوروبي يؤكد تنامي العصبية القومية والخطاب العنصري ضد المهاجرين الذي تحدثت عنه المفوضية الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب (ECRI) ([2])، في تقريرها السنوي ([3]) للعام 2020 وحذرت من “تأثير متزايد للسياسات القومية المتطرفة وكراهية الأجانب في جميع أنحاء أوروبا”، داعية الى “وقف نشر الخطاب السام من المتطرفين العنصريين الذي يضرب قلب ديمقراطياتنا”. لم تقتصر المؤشرات القياسية لنمو الخطاب المتطرف في أوروبا على مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي المشبعة بهذا النوع من الخطاب، أو رصد الاحداث الأمنية المصنفة أرهابية أو أعمال ناتجة عن كراهية وعنصرية ضد المهاجرين، بل تخطت هذه الأمور لتصل الى نتائج الانتخابات في دول أوروبا التي سجلت تقدماً في تمثيل الأحزاب اليمينية، ومنها أحزاب تدعو لتفكيك الإتحاد أو في افضل الصيغ الابقاء عليه كإطار للتنسيق الاقتصادي دون فعالية سياسية أو أمنية ([4]).
هذا الخطاب اليميني تُرجم في صناديق الانتخابات الأوروبية حيث أظهرت النتائج تراجع أحزاب الوسط واليمين الوسط لمصلحة أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب المدافعة عن قضايا البيئة.
بالنظر الى الأرقام التي حازتها الأحزاب اليمينية المتطرفة في الانتخابات التي جرت عام 2019 بالمقارنة مع نتائج انتخابات عام 2014: مثلاً جناح اليمين القومي حصل على 37 مقعداً في العام 2014 وتقدم لينال 58 مقعداً في العام 2019. لم تصبح الأحزاب اليمينية ذات اغلبية لتتمكن من قيادة الاتحاد الأوروبي، إنما اكدت النتائج استمرار صعود اليمين المتطرف وتمدده في الفضاء السياسي الأوروبي، الأمر الذي سيفتح الباب واسعاً أمام بناء تحالفات جديدة مع أحزاب اليمين.
ومؤخراً جاءت نتائج الانتخابات في ايطاليا، ثالث أكبر إقتصاد في منطقة اليورو، لتؤكد الى أي مدى وصلت قوة اليمين المتطرف حيث تمكن إئتلاف حزب “أخوة ايطاليا” اليميني وحزب “فورزا ايطاليا” وحزب الرابطة (ليغا) المعروف بعدائه للمهاجرين من الحصول على الأكثرية بقيادة جورجيا ميلونى ـ زعيمة حزب أخوة إيطاليا ـ وذلك بنسبة 44% من المقاعد. ما حصل في ايطاليا سيكون له ارتداداته في أرجاء أوروبا وسيُعزز فرص الأحزاب اليمينية في اي انتخابات أوروبية مقبلة.
ماذا عن المخاطر الاقتصادية؟
بدأت الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008 وأزمة مديونية اليونان عام 2010، وعلى أثرهما بدأت حكومات دول الاتحاد الأوروبي باتباع سياسات تقشفية كأحد الأدوات الرئيسة في مواجهة الازمة. شكّلت سياسات التقشف أداة فعالة في توسيع الفجوة بين الفئة الاجتماعية صاحبة الامتيازات وبين الفئات الشعبية الأكثر اتساعاً، ما أدى إلى زيادة سخط الاخيرة، مما يشكل فرصة لنمو الخطاب الرافض للسياسات الرسمية. هذا ما شكّل فرصة للأحزاب اليمينية لإستثمار الاستياء الشعبي وقيادة جمهور الغاضبين لاسقاط الأحزاب الحاكمة لمصلحة الأحزاب اليمينية وأجندتها السياسية والإقتصادية.
يواجه الاقتصاد الأوروبي الذي يمثل ما يقرب من خمس الناتج الإجمالي العالمي، أصعب اختبار له منذ اندلاع وباء كورونا قبل حوالي الثلاثة أعوام..
ويحذر الاقتصاديون من دخول أوروبا في مرحلة من الركود الاقتصادي مع نهاية هذا العام بسبب تراكم الأزمات، انطلاقاً من أزمة 2008 وصولا الى الحرب الروسية الأوكرانية مروراً بتداعيات جائحة كورونا.
وكان البنك المركزي الأوروبي قام للمرة الأولى منذ عام 2011 برفع معدلات الفائدة 50 نقطة. وسجل معدل التضخم السنوي في السوق الأوروبية ارتفاعاً كبيراُ بنسبة 8.6 % في يونيو/حزيران الماضي واستمر بالارتفاع الى 8.9% في يوليو/تموز الماضي، حسب مكتب الإحصاءات الأوروبي يوروستات (Eurostat)، وفاقت النسبة المرتفعة للتضخم توقعات المركزي الأوروبي بأكثر من 4 أضعاف.
روسيا توحد أوروبا.. وتقسمها!
في استطلاع للرأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في أواخر كانون الثاني/يناير 2022 أي قبل شهر من موعد بدء العملية العسكرية الروسية في اوكرانيا، أظهرت نتائجه إجماعاً مفاجئاً بين الناخبين الأوروبيين على أن الدفاع عن اوكرانيا من واجب دولهم. الا أن الإستطلاع بيّن إنقسام الأوروبيين حول التهديدات الأكثر إلحاحاً المرتبطة بالأزمة وحول الثمن الذي يجب أن تدفعه بلدانهم دفاعاً عن أوكرانيا: فالناس في بولندا ورومانيا والسويد أكثر استعداداً لتقديم تضحيات من أولئك الموجودين في فرنسا وألمانيا([5]).
ومن تداعيات هذه الحرب نشوء أزمة الطاقة التي كشفت السياسات الاوروبية في مجال تأمين مصادر الطاقة، حيث استحوذت روسيا منفردة على نسبة 40 % من الغاز الطبيعي المستهلك في أوروبا، يأتيها معظمه عبر خطوط أنابيب يامال-أوروبا الذي يعبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا، ونورد ستريم 1 الذي يذهب مباشرة إلى ألمانيا، أكبر مستهلك للغاز الروسي (30% من إمداداتها من روسيا)، مروراً بأوكرانيا.. وهذا ما يثير الأسئلة إزاء السياسات التي تؤمن الحماية الاستراتيجية للاتحاد ولا تضعه في لحظة سياسية كالتي يعيشها اليوم تحت رحمة القرار الروسي في تزويد أوروبا بحاجتها من مصادر الطاقة أو عدمه وتأثير ذلك على أمن واستقرار دول الاتحاد.
في الخلاصة، إذا عُدنا الى هانتنغتون، نجد أن المؤسسة السياسية الأوروبية تخلفت عن مواكبة المتغيرات الاجتماعية، الأمر الذي إستفادت منه الأحزاب الشعبوية اليمينية حتى أصبحت شريكاً مؤثراً في صنع السياسات الأوروبية، وهذا ما يُشكل امتحاناً أساسياً لهذه الأحزاب ومدى قدرتها على تقديم حلول حقيقية للمواطن الأوروبي، وبالتالي هل يساهم خطابها القومي في حماية الإتحاد الأوروبي أم تهديد وجوده؟
المصادر والمراجع:
([1]) صموئيل هانتنغتون، النظام السياسي لمجتمعات متغيرة، ترجمة سمية عبود، دار الساقي، بيروت، 1993، ص 12.
([2]) المفوضية الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب (ECRI) هي هيئة مستقلة لرصد حقوق الإنسان متخصصة في المسائل المتعلقة بالعنصرية والتمييز (على أساس “العرق” أو الأصل القومي أو الإثني واللون والجنسية والدين واللغة والتوجه الجنسي و الهوية الجنسية) وكراهية الأجانب ومعاداة السامية والتعصب. تعد التقارير وتصدر التوصيات للدول الأعضاء.
([3]) Councile of Europe, ttps://www.coe.int/en/web/portal/-/ultra-nationalism-anti-semitism-anti-muslim-hatred-anti-racism-commission-raises-alarm-over-situation-in-europe
([4]) Causes of the Rise of the Far Right, https://www.iemed.org/publication/the-rise-of-the-far-right-in-europe/
([5]) European Council on Foreign Relations – https://ecfr.eu/publication/the-crisis-of-european-security-what-europeans-think-about-the-war-in-ukraine/#conclusion