الترسيم البحري.. طائف إقتصادي بنتائج سياسية!

بغضّ النظر عن الموقف المبدئي من كون دولة فلسطين ملك لشعبها وكون "إسرائيل" قوة احتلال، لكن لا بدّ من إجراء قراءة تحليلية للواقع الجديد الذي فرضه الترسيم البحري لناحية تأثيره على المشهد السياسي.

بدايةً، لقد تخبَّط مسار توقيع اتفاق ترسيم الحدود البحرية​ الجنوبية بين لبنان “وإسرائيل” في بحر من المدّ والجزر، مقترباً تارةً من شاطئ التوقيع ومبتعداً عنه طوراً حتى رسا المسار على برّ أمانه​، وقد بلغ الملف الشائك خواتيمه مع موافقة لبنان و”إسرائيل” على المقترح الأميركي بعد جولات مكوكية لوسيط الولايات المتحدة آموس هوكشتاين بين بيروت وتل أبيب، على قاعدة “Tout le monde a gagné”.

على الخط اللبناني، تحقّق اتفاق حلّ “النزاع الحدودي” البحري بين لبنان و”إسرائيل” في مرحلة مفصلية وحرجة، وهو اتفاق يعلّق عليه البعض آمالاً لإخراج لبنان من عنق الزجاجة وتشريع الأبواب أمام حلول للأزمات اللبنانية المتشعّبة، وتوفير مساحة للبنان ليبدأ باستغلال موارد الطاقة على أمل أن يدخل في المستقبل القريب أو البعيد نادي الدول النفطية.

على الخطّ الاسرائيلي، يُساهم الاتفاق في حماية المصالح الأمنية والاقتصادية لـ”إسرائيل” ذات الأهمية الحاسمة لتعزيز انخراطها الإقليمي الذي تنشده، إلا أنّ الرابح الأكبر في هذه اللعبة السياسية قد يكون الولايات المتحدة الأميركية.

وعلى الرغم من العنتريات السياسية والمزايدات الانتخابية “الإسرائيلية” التي كادت تطيح باتفاق الترسيم، إلا أنه ثمة شبه إجماع بأنّ الولايات المتحدة مارست ضغطاً غير مسبوق على تل أبيب لإنجاز ملف ترسيم الحدود البحرية مع لبنان وبأنّ الاتفاق صيغَ بأنامل أميركية، أنامل ناعمة تارةً وخشنة طوراً. وبسحر ساحر، تكلّلت مفاوضات الترسيم البحرية بالنجاح بعد سنوات من السبات والمماطلة وشدّ الحبال والحصار، مُحدثةً خرقاً سياسياً، وقد لعبت المصلحة الاستراتيجية الأميركية دوراً رئيسياً في صياغة بنوده.

وفي هذا السياق، أُثيرت تساؤلات عن السرّ وراء استفاقة أميركا مستعجلةً لإنجاز اتفاق ترسيم الحدود وإصرارها على توقيعه قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون وقبيل موعد الانتخابات “الإسرائيلية” التشريعية والانتخابات النصفية الأميركية، علماً أنّ هذا الملف كان قد طُبخَ لسنوات مديدة على نار هادئة وقد تعاقب على متابعته أكثر من وسيط أميركي، من فريدريك هوف إلى آموس هوكشتاين ثمّ ديفيد ساترفيلد وديفيد شينكر ليعود إلى يدي هوكشتاين من جديد. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق “لماذا إنجاز اتفاق الترسيم في عهد ميشال عون”؟

يكون لبنان أمام اتفاق إقليمي دولي هو أقرب ما يكون إلى طائف اقتصادي بنتائج وتبعات سياسية، اتفاق سيسعى الكثيرون لتحصينه بضمانات أمنية في منطقة شرق أوسطية ساخنة ومحفوفة بالمخاطر. وسيتلقّف حزب الله هذا الاتفاق ليستثمره استثماراً سياسياً في المستقبل، إن عبر سلاحه واستراتيجيته، أو في السياسة الداخلية عبر انخراطه في تسويات أو اتفاقيات

في الواقع، لقد سارعت الولايات المتحدة إلى تحقيق هذا الإنجاز قبل انتهاء ولاية الرئيس في 31 تشرين الأول/أكتوبر في ظلّ المخاوف المتزايدة من وقوع شغور رئاسي قد يطول أمده ممّا يؤجل البتّ بهذا الملف الذي نضج واستوى، حتى أنه إذا بقي معلّقاً إلى ما بعد موعد الانتخابات “الإسرائيلية”، لاحترق على أيدي رئيس “الليكود” بنيامين نتانياهو الذي هدّد بوضوح قائلاً إنه في حال فوزه في الانتخابات التشريعية، فلن يكون مُلزماً بهذا الاتفاق حتى بعد توقيعه.

في الواقع، إنّ الاستقرار هو الكلمة الجوهريّة التي حثّت الولايات المتحدة على إرخاء ثقلها الدبلوماسي على إسرائيل والضغط عليها للمضي قُدماً بالاتفاق. فالدافع الأميركي وراء استعجال التنقيب في حقول الغاز الإسرائيلية هدفه التعويض عن أزمة الطاقة المستجدّة واختناق السوق العالمي بسبب النقص في إنتاج النفط وحجم توريد الغاز الروسي نتيجة العقوبات الدولية المفروضة على موسكو لمعاقبتها على الحرب التي تخوضها ضدّ أوكرانيا وبسبب قرار “أوبك +” تقليص إنتاج النفط بمعدل مليوني برميل يومياً. إنّ واشنطن التي استعجلت السير بهذا الاتفاق أرادت بذلك تحجيم الدبّ الروسي والاستغناء عن سيطرة موسكو الغازية على الأسواق الأوروبية.

فليس من سرّ على أحد أنّ العرّاب الأميركي يرى في اتفاق الترسيم مصلحةً لتعزيز مصالح الولايات المتحدة في منطقة شرق أوسطية ملتهبة تتهدّدها من كل حدب وصوب مخاطر نشوب نزاعات جديدة. لقد شكّلت مصلحة أميركا العامل الأساس المحرّك لإنجاز الاتفاقية، ناهيك عن أنّ الولايات المتحدة تحرص على تحقيق الاستقرار في المنطقة بهدف التفرّغ لحربيها التوأمتين ضد روسيا في أوكرانيا والصين في تايوان.

هل سيشكّل اتفاق الترسيم البحري فاتحة تغيير؟

من المؤكد أنّ هذا الاتفاق سيُحدث تغييرات في توازنات المنطقة واتجاهاتها، إلا أنّ انعكاساته التي ستترتّب على لبنان قد تستغرق وقتاً قبل بلورتها. لكنّ المؤكد أنّ لبنان بعد اتفاق الترسيم لن يكون كما قبله.

من المرحج أن يُضيف توقيع اتفاق الترسيم إلى قوة حزب الله السياسية، وهو اللاعب الأساسي على الساحة اللبنانيّة الذي واكب ملف الترسيم بكل خباياه. ومَن راقب نشاطات حزب الله الأخيرة أثناء التفاوض، من إطلاق المسيّرات إلى نشاطه المتزايد على الأرض في الجنوب، لأدرك مدى اهتمام الحزب بهذا الملف الذي قاربه خير مقاربة، فهو العالِم من أين تُؤكَل الكتف. فقد استطاع أن يُربك واشنطن ودول حلف شمال الأطلسي التي تخوّفت من فقدان ثروات الطاقة الخاصّة بالمتوسّط، من خلال معادلة الإتّفاق على الترسيم أو خوض الحرب.

إقرأ على موقع 180  مذكرات مبارك المحجوبة.. إنحيازات بغير أساس

إنّ الولايات المتحدة التي سعت بكل ما أوتيت من قوة إلى تذليل العقبات التي كانت تحول دون إنجاز اتفاق الترسيم الحدودي البحري طيلة سنوات ستجد نفسها مضطرّةً للتعامل مع قوة حزب الله من الآن فصاعداً لتقديم ضمانات بالتزامه بمعادلة الاستقرار التي تحمي استخراج الغاز لأنّ مصلحتها تقضي بألا يُطلق الحزب مسيّراته أو صواريخه باتجاه منصات الغاز البحرية الإسرائيلية أو حتى باتجاه الداخل الإسرائيلي، مما يؤجج فتيل النزاعات الحدودية ويزعزع استقرار المنطقة الهش أصلاً.

وبذلك، يكون لبنان أمام اتفاق إقليمي دولي هو أقرب ما يكون إلى طائف اقتصادي بنتائج وتبعات سياسية، اتفاق سيسعى الكثيرون لتحصينه بضمانات أمنية في منطقة شرق أوسطية ساخنة ومحفوفة بالمخاطر. وسيتلقّف حزب الله هذا الاتفاق ليستثمره استثماراً سياسياً في المستقبل، إن عبر سلاحه واستراتيجيته، أو في السياسة الداخلية عبر انخراطه في تسويات أو اتفاقيات، أو من خلال تعزيز موقعه ودوره في مفاوضات الاستحقاق الرئاسي، والاستحقاق الحكومي العالق، ممّا يعطي جرعةً سياسيةً وشعبيةً لحلفائه. وقد تكون الدعوة إلى مأدبة العشاء التي وجهتها مؤخراً السفارة السويسرية لممثلي القوى السياسية، إحدى المؤشرات التي توحي بأنّ حزب الله قد يضطلع بدور أكبر في المعادلة اللبنانية، إن كان عبر عقد اجتماعي سياسي جديد في لبنان يمنحه وحلفاءه دوراً سياسياً ودستورياً أبرز، أو من خلال استكمال تطبيق اتفاق الطائف وإدخال تعديلات عليه “لسدّ الثغرات” من جهة، ولمواكبة المعادلات السياسية الجديدة الناشئة من جهة أخرى.

إنّ غداً لناظره قريب، ومن يعش سيشهد على التحوّلات التي ستطرأ والنتائج التي ستتحقّق خلال مرحلة ما بعد الترسيم؛ تحوّلات قد تكون إنجازات للبعض وإخفاقات أو خيبات أمل للبعض الآخر، الأمر رهن على أي ضفة من النهر يقفون!.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  من غزة إلى بعبدا.. الفرصة مفتوحة حتى الانتخابات الأميركية