لم تنتسب جماعة «عرين الأسود»، التى أنشئت أخيرا، إلى طلب تحرير الأرض المحتلة بقوة السلاح، كأغلب التنظيمات المسلحة التى أنشئت بعد هزيمة (1967) مثل «فتح» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، أو التى ولدت تاليا فى مجرى الصراع مثل «حماس» و«الجهاد».
أهدافها محدودة ومحددة بالقياس على ما طلبته المنظمات السابقة من تحرير كامل الأراضى المحتلة، لكنها تكتسب شرعيتها وشعبيتها من أوضاع الفلسطينيين تحت الاحتلال من قمع وإذلال وقتل بدم بارد دون رادع.
«العرين» هنا: مدن الضفة الغربية المنتهكة.. و«الأسود» هم: شبابها الذين نذروا حياتهم للحياة بكرامة ورد الصاع صاعين.
تضم بنيتها التنظيمية عناصر من تنظيمات مختلفة تنتمى لأيديولوجيات متباينة.
هذا يوحى بما قد يحدث مستقبلا فى بنية وتوجهات العمل الفلسطينى.
نشأت فى مواجهات الشوارع مع قوات الاحتلال لا فى الغرف المغلقة، باحتياجات اللحظة الحالية لا باعتبارات الأيديولوجيا.
كانت المقاومة الشعبية ـ التى تصدر مشاهدها الشباب الفلسطينى فى باحات المسجد الأقصى ـ لاقتحامات جماعات المستوطنين نقطة تبلور الفكرة.
فى تجربة جنين تأكدت ملحمية المقاومة والاستعداد لمواجهة آلة الحرب الإسرائيلية بأبسط الإمكانات.
كانت صور استشهاد «عدى التميمى»، وهو يقاتل حتى النفس الأخير، تعبيرا عن الروح الجديدة التى تعترى أجيال الشباب.
وفى تجربة نابلس، حيث أعلنت جماعة «عرين الأسود» تأكدت الروح نفسها والمعانى عرضت على العالم أن هناك شعبا يطلب حقه فى الحرية والاستقلال ومستعد أن يدفع الثمن مضاعفا.
هناك شىء جديد يولد فى الضفة الغربية المحتلة، أن القضية فوق الفصائل.
الانقسام استنزف الفلسطينيين، ونال من سمعة القضية، كأننا فى صراع على سلطة لا أمام قضية تحرر وطنى.
الفكرة الرئيسية لـ«عرين الأسود» نبذ الفرز الفصائلى وتغليب القضية على ما عداها.
هذه هى الرسالة الرئيسية.
بصورة أو أخرى أعادت جماعة «عرين الأسود» إنتاج ما يعرف بغرفة التنسيق بين الفصائل المتناحرة على ما يجمع ويوحد دون أن يستبين حتى الآن مدى التداخل التنظيمى.
تنسيق جديد داخل الأطر والهياكل المعتادة أم بناء مختلف يحاول تجاوز أوضاع الانقسام الحالية؟
فيما هو جديد ومختلف ويؤشر على اهتزاز عميق فى معادلات التعاون الأمنى بين السلطة والاحتلال، أن الأمن الفلسطينى هو الذى بادر بالاشتباك مع المفرزة الإسرائيلية لاقتحام نابلس عندما اكتشف وجودها.
هناك ما يؤكد أن الضفة الغربية على وشك إعلان انتفاضة شعبية جديدة. وهناك ما يوحى باحتمال انفجار آخر يشمل الأراضى الفلسطينية التاريخية كلها، الضفة وغزة وخلف الجدار. إذا ما تفاقمت الأمور فليس من المستبعد أن تدخل غزة فى عمل عسكرى لإسناد المقاومة فى الضفة الغربية. هكذا بدا الأمن الإسرائيلى مجددا فى أحوال انكشاف
كان ذلك تطورا جوهريا يناقض الدور الذى صمم وفق «اتفاقية أوسلو» للأمن الفلسطينى، أن يتولى بالنيابة حماية الأمن الإسرائيلى، يعتقل بالنيابة نشطاء ومقاومين، ويبلغ بما يتوافر لديه من معلومات حتى يمكن تصفيتهم.
هذه المرة هو الذى تصدى واشتبك قبل أن تنتبه قيادات «عرين الأسود» المتمركزة فى البلدة القديمة إلى عملية التصفية التى توشك أن تبدأ.
أفضى ذلك التطور الجوهرى لانزعاج بالغ فى دوائر الأجهزة الأمنية الإسرائيلية دعت رئيس الوزراء «يائير لابيد» إلى إنذار رئيس السلطة الفلسطينية «محمود عباس».. إما أن يضبط أدوار الأمن الفلسطينى على مسارها السابق أو تتهدد سلطته فى وجودها.
لم يكن هناك أمام رئيس السلطة سوى طلب التدخل الدولى العاجل لوقف التصعيد الإسرائيلى.
وكان أقصى ما فعلته الإدارة الأمريكية أن تصدر تصريحا باهتا ومعتادا على لسان المتحدث باسم خارجيتها يدعو إلى عدم التصعيد.
لم تكن معركة نابلس حدثا عابرا فى وقائعه ورسائله وتداعياته.
استخدمت قوات الاحتلال قذائف تخترق الدروع ومسيرات صغيرة لكنها بالغة التقدم تقنيا قادرة على اختراق الأبنية والغرف قبل إطلاق الرصاص.
فى اليوم التالى تأكدت إرادة المقاومة بجنازة حاشدة اخترقت شوارع نابلس تودع الشهداء بالسلاح.
شاعت عبارة وردت فى بيان المجموعة المسلحة الجديدة: «جاء وقت خروج الأسود من عرينها».
هناك ما يؤكد أن الضفة الغربية على وشك إعلان انتفاضة شعبية جديدة.
وهناك ما يوحى باحتمال انفجار آخر يشمل الأراضى الفلسطينية التاريخية كلها، الضفة وغزة وخلف الجدار.
إذا ما تفاقمت الأمور فليس من المستبعد أن تدخل غزة فى عمل عسكرى لإسناد المقاومة فى الضفة الغربية.
هكذا بدا الأمن الإسرائيلى مجددا فى أحوال انكشاف.
الأرض المحتلة تهتز من تحت أقدامه والمقاومة المسلحة تنبئ بتصعيد يصعب تحمله.
فى الانتخابات الأمريكية والإسرائيلية، اللتين على وشك البدء، الميل العام يتجه يمينا، مزيد من التنكيل بالقضية الفلسطينية رغم ما يبديه شبابها من مقاومة باسلة بظروف شبه مستحيلة.
قد تتقوض قوة الرئيس الحالى «جو بايدن» إذا ما خسر حزبه الديمقراطى انتخابات التجديد النصفى لمجلسى الكونجرس.
وقد يزاح التشكيل الوزارى الإسرائيلى الحالى لصالح الليكود وأقصى اليمين مجددا.
أقوى ما يمتلكه الفلسطينيون فى ظروف معاكسة: القوة الأخلاقية والعادلة لقضيتهم، التى دعت استراليا إلى التراجع عن الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل استعدادا لنقل سفارتها إليها.
التراجع الأسترالى يعود الفضل الأول فيه إلى بطولة الشعب الفلسطينى فى الدفاع عن المسجد الأقصى، وعن حقه الأصيل أن تكون القدس عاصمة له.
فى جنازة الصحفية الفلسطينية «شيرين أبو عاقلة» تبددت الدعايات الإسرائيلية عن أن القدس عاصمتهم الأبدية، الاعلام الفلسطينية التى رفعت والمسيرة التى جرت فى البلدة القديمة أكدت فلسطينيتها رغم ما تعرضت له من قمع.
المفارقة الكبرى فى كل ما يحدث حولنا أن إسرائيل المأزومة فى أمنها التى تعانى من تراجع صورتها فى العالم ولا توجد لديها أية تصورات لمستقبلها غير ضم الأراضى بالقوة وممارسة الفصل العنصرى ضد كل ما هو فلسطينى تستشعر القدرة على الضغط والتداخل فى ملفات عديدة استثمارا فى العجز العربى الفادح.
من غير المتوقع أن تسند القمة العربية المقبلة القضية الفلسطينية على أى نحو مؤثر، باستثناء عبارات عامة لا تعنى شيئا ولا توقف شيئا من التدهور الحادث والتنازلات المجانية.
إذا ما أردنا أن نتصارح بالحقائق فإن مصير القضية الفلسطينية بيد الفلسطينيين وحدهم دون إسناد عربى له قيمة وأثر حتى يأتى يوم يدركون فيه من جديد أنها قضيتهم بقدر ما هى قضية الفلسطينيين وأنهم يدافعون أولا وقبل كل شىء عن أمنهم نفسه. (مصدر الصورة موقع “ماركسيزم“).
(*) بالتزامن مع “الشروق“