البعدُ “الصّوفي-العِرفاني” للدّين: مستقبلُ الإسلام.. والإنسان؟ (1)

إنّ الفكرة الأساسيّة لهذا المقال تقوم على نقاط ثلاثة رئيسيّة. الأولى، وهي أنّ البُعد الصّوفي-العِرفاني (بالفرنسيّة: La Dimension Mystique) - النّظري والعملي - للإسلام وللأديان والمدارس الرّوحيّة كلّها: كان ولم يزل البُعدَ الأهمّ والأرقى لهذه الأديان والمدارس (بما فيها الإسلام طبعاً)، والحجرَ الأساسَ لما تقدّمه للإنسان-الفرد وللبشريّة من أجوبة ومن طُرُق.

أمّا النّقطة الثّانية، فهي تكمن في اعتبار أنّ هذا البُعدَ الصّوفي-العرفاني للأديان هو الذي سوف يسمحُ لها، حسب قناعتنا العميقة، بالاستمرار ضمن الحياة البشريّة، مهما كان نوعُ أو كمُّ أو اتّجاهُ التطوّرات المادّيّة والاجتماعيّة والفكريّة الذي عرفته البشريّة أو سوف تعرفُهُ في السّنين والقرون القادمة.

أمّا النّقطة الثّالثة، فهي تعتبرُ أنّ هذا البُعدَ (وهو المبنيُّ بشكل رئيس على مسائل مثل “وحدة الوجود”، و”الحبّ الإلهي غير المشروط”، و”تزكية النّفس”، و”الباطن في علاقته مع الظّاهر والعكس” و”التأمّل” و”الحدس” و”الذّكر” و”التذوّق” و”المكاشفة” إلخ.) هو الذي يمكنه أن يؤسّس للتّقارب وللوحدة الحقيقيّين – لا الشّكلِيَّين – بين المذاهب الإسلاميّة، بل وبين الأديان والمدارس الرّوحيّة والفكريّة للإنسانيّة جمعاء.

وقبل الولوج في عمق مناقشة هذه النقاط الثّلاث، من المهمّ الإشارة إلى أنّ كاتب هذا المقال يؤمن إيماناً عميقاً بثلاثيّة: الشّريعة والطّريقة والحقيقة. أو على حدّ تعبير شيخ الصّوفيّة الإسلاميّة الأكبر، محي الدّين بن عربي الأندلسي (ت. ١٢٤٠ م)، وبتصرّف طفيف: “الباطنُ الذي ليس له ظاهرٌ: لا يعوّلُ عليه”، أي أنّ المدرسة الرّوحيّة التي لا تأخذ بالشّريعة (على اختلاف أشكالها ورموزها وطقوسها، ودرجات تقدّمها أو تخلّفها)، وبعلوم الأخلاق، وبقواعد السّير والسّلوك (أي قواعد الطّريق المعني بتهذيب النّفس وتزكيتها ضمن الأطُر المعتبرة، والمستنبطة مثلاً من النّصوص المقدّسة وسيَر الأنبياء والصّالحين والحكماء – من كلّ الثّقافات) هي مدرسة لا يُعوّل عليها، حسب اعتقاد صاحب هذا المقال.

وبرغم انتماء هذا الأخير إلى الدّين الإسلامي، والتزامه بالشّريعة الإلهيّة المقدّسة كما وصلت إليه، وضمن مدرسة أهل البيت عليهم السّلام تحديداً، فإنّه لا ينفي بشكل كلّي صحّة الشّرائع والطّرق الرّوحيّة الأخرى من إبراهيميّة وهندوسيّة وبوذيّة وطاويّة وما إلى ذلك. فهو يعتقد أيضا أنّ الكثرة والتّعدّد مقبولان بلا أدنى شكّ في بُعدَي الشّريعة والطّريقة، أمّا بُعدُ الحقيقة فهو الذي يتّجه بالبشريّة جمعاء إلى درجات فكريّة وروحيّة قريبة من الوحدة (أو “الواحديّة” على حدّ تعبير بعض عرفاء الإسلام). ولذلك، يمكن اعتبار انطلاقنا من التّراث الإسلامي واستعمالنا لمصطلحات إسلاميّة غيرَ منافٍ لإمكانية الوصول إلى نفس الحقائق، لكن من خلال ثقافات وديانات ومدارس أخرى (عن تعدّد الطّرق إلى الله سبحانه: راجع بداية كتاب “الأربعون حديثاً للسّيد الإمام روح اللّه الخميني، وهو كتاب عرفانيّ بامتياز طبعاً).

فهل يُمكن أن يصل العارف-الحكيم الهندوسي إلى مشاهدة “نورٍ إلهيّ”، وأن يصل العارف المسلمُ إلى مشاهدة “نورٍ إلهيّ آخر” في حقيقته؟ نعم، على حدّ تعبير المدرسة الأكبريّة (نسبةً إلى الشيخ الأكبر محي الدّين)، قد يظهر “النّور” للهندوسي بمَظهرٍ مختلفٍ (ولو جزئيّا) عن المظهَر الذي يظهر به للمُسلِم، لكنّ العارفَ من المدرستين يُدركُ جيّداً أنّ الحقيقة الكامنة خلف هذه التّجلّيات هي واحدة (سنعود بالطّبع إلى بعض هذه المصطلحات التي ترِدُ عادةً ضمن مباحث نظريّة وحدة الوجود الصّوفيّة-العرفانيّة). فآية النّور (“الله نور السّموات والأرض”) مثلاً، تدلّ بوضوح على أنّ النّور هو نور السّماوات والأرض، لا نور المسلمين، أو نور الشّيعة، أو نور السّنّة (إلخ..)، ولا داعيَ هنا للولوج أكثر في هذه القضيّة التي نتركها لمناسبات أخرى.

إذن، ومع الاختصار والتّبسيط الشّديدَين، فمن الأفكار التي يستند إليها هذا المقال هي أنّ: تعدّد الشّرائع والطّرق لا ينفي كَوْنيّة ووحدة عالم الحقائق؛ وإلّا كان في نظرتنا للتّوحيد ضعفٌ أكيد (وهذا بحث آخر أيضاً). وبالإضافة إلى التّشديد على نقطة الإيمان بثلاثيّة الشّريعة-الطّريقة-الحقيقة، مع الاعتقاد بكونيّة عالم الحقائق وميله نحو الواحديّة، فمن المهم التّنويه بأنّنا سوف نعرض دفاعنا عن النّقاط الثلاث الأساسيّة لهذا المقال مع تبسيطٍ للمصطلحات ولكيفيّة عرض المفاهيم، قدر المستطاع، وذلك لإيماننا أيضاً بأنّ الأفكار الأكثر قربا من الحقيقة هي الأفكار التي يمكن عرضها بطريقة أبسط. وأخيراً، أحبّ أن أشدّد على أنّ القناعات التي أعرضها في هذه الورقة منطلقةٌ من نتائج قراءات وأبحاث قمت بها طبعاً.. ولكنّها تنطلقُ أيضاً من نتائج تجارب شخصيّة، متعدّدة الزوايا الثّقافيّة، وقد نرجع إليها – هي أيضاً – في موضع آخر.

وبعد هذه المقدّمات الضّروريّة في نظرنا، فلنعدْ في ما يلي إلى الدّفاع عن أفكارنا الأساسيّة الثلاثة، متأمّلين أن نواجَهَ بحوارٍ منفتحٍ وحضاريّ، ومتقبّلين – كالعادة، وبلا عُقد نفسيّة – أنّنا قد نكون على خطأ في كثير من الأحيان (برغم إيماننا العميق والمتين بما ندافع عنه طبعاً):

السّؤال الأوّل: لماذا يشكّل البُعدُ الصّوفيّ-العرفانيّ للأديان (بما فيها الإسلام) البعدَ الأهمّ والأرقى لها؟

يمكن اختصار وتبسيط الإجابة على هذا السؤال الأوّل كما يلي: لأنّ البُعد الصّوفيّ[1] هو بامتياز “بُعد الباطِن”، أي أنّه، بامتياز، البُعد الذي يهتمّ – قبل أي شيء – بمضمون هذه الأديان والمدارس، وليس فقط بشكلها. والتّشديد على الشّكل مع الابتعاد عن المضمون، كما يعرف عزيزنا القارئ، هو من الأمراض المستعصِية عند أغلب المتديّنين وأغلب المؤسّسات الدّينيّة (من اليابان شرقاً إلى أقصى أقاصي أميركا الجنوبيّة غرباً). والاهتمام بالمضمون يعني هنا الاهتمام على السّواء: بالمضمون العمَلي (“العرفان العملي” في الاصطلاح الشّيعي المعاصر) وبالمضمون النّظري (“العرفان النّظري” في نفس الاصطلاح).

يدعو التصوّف إلى السّير في الطّريق نحو “المعرفة”، لكن ضمن “المحبّة”، حتّى ذهب بعضهم إلى أنّ المعرفة (أي معرفة الله) هي عينُ محبّته، ومحبّته هي عينُ معرفته!

فعلى المستوى النّظري، تؤمن الصّوفيّة بأنّنا في هذه النشأة “مسجونون” في عالم الحُجُب. سألتُ أحد الصّوفيّة المغارِبة يوماً في باريس أنْ: هل يجب لعنُ الشّيطان من قِبل المُريد (أي لنقُل: من قبل “التّلميذ”)؟ فهزّني هزّاً شديداً بجوابه قائلاً: كيف تلعنُ مُضيفَكَ سيّدي؟ نحن هنا “عندَه” (بالفرنسيّة: !On est chez lui). وهو يقصدُ طبعاً، بطريقة ليست شديدة الكاريكاتوريّة في نهاية الأمر، أنّنا نعيش في عالمِ الحُجُب، إذ أنّ الشّيطان في مفهومهم هو أمير هذه الحُجُب (وأوّلها الأنانيّة كما سيلي). باختصار، يعتقد أهل التّصوّف والعرفان أنّ إزالة الحجب هذه لا يمكن تحقيقُها: إلا من خلال العمل الجاهد والمضني على تزكية النّفس وتخليصها من أهوائها، ومن حجابها الأكبر كما أشرنا وهو: وهمُ “الإنّيّة” (Ego) ومرضُ الأنانيّة (Egoisme). ولذلك كان الصّوفيّ المعروف الحسين بن المنصور الحلّاج (ت. ٩٢٢ م)، من العصر العبّاسي، يردّد أقوالاً كإنشاده مثلا فيما يُنسَب إليه (وهو يتوجّه إلى الله سبحانه طبعاً):

بينيْ وبينكَ “إنّيِّي” يُنازعني/  فارفعْ بلُطفك “إنّيِّي” من البَيْنِ

يتوجّب على الصّوفي (أو المتصوّف في اصطلاحهم)، في سبيل رفع الحجُبِ عن القلب (لا عن “العين” فقط)، أن يسلك الطّريق لكي يصل في النّهاية إلى الحقيقة (راجع كلامنا فيما سبق عن ثلاثيّة الشّريعة-الطّريقة-الحقيقة). وفي طريق السّير والسّلوك، عليه أن يمرّ بمقامات واقعيّة وليس فقط مفاهِميّة ونظريّة. فيبدأ عادةً بمقام الزّهد، ولا يصل إلى مقام آخر إلا بعد أن ينحت نفسه نحتاً في هذا المقام. ثمّ ينتقل مثلاً إلى مقامات أخرى كالتّقوى والورع والصّبر والتوكّل والرّضا والمحبّة والمعرفة (مع اختلاف التّسميات والتّرتيب). هذه النّظرة تجعل عمل المؤمن على تهذيب نفسه وتنقيتها وتزكيتها عملاً واقعيّا وملموساً. في العرفان والتّصوّف: الأمور تحصل بالمجاهدة والتذوّق، لا بالكلام والتفكّر فقط (للشيخ الأكبر عبارة ساخرة عجيبة في هذا المجال: “كلّ تفكّر لا يعوّل عليه!” – وهو قول رمزي طبعا، لكنّ الرّسالة من ورائه واضحة لمن اعتاد على هذا السّياق[2]).

ومن الصّور الجميلة في هذا المجال، والتي يتناقلها الصّوفيّة فيما بينهم، قصّة العارف الفارسي الحكيم أبي يزيد البسطامي (ت. ٨٧٤ م)، والذي كاد يفوته وقت الصّلاة في يومٍ من الأيّام، فلم يصلّ حتّى يجد مكانا طاهراً (على ما تقوله الحكاية، بتصرّف طبعاً).. إلى أن وصل إلى أحد الأديرة، ففتحت له بابَه راهبةٌ. فقال لها: هل عندكم مكان طاهرٌ نصلّي فيه؟ فقالت الرّاهبة: يا بسطامي، طهّر قلبكَ وصلِّ حيثُ شئت! بالطّبع، ليس المقصد من هذه القصّة أن يترك المسلم الوضوء قبل إقامة الصّلاة (تخيّل أن يصلّي البسطامي بلا وضوء، أو في مكان لا تجتمع فيه شروط الطّهارة الشّرعيّة!)، لكنّ المقصد أن نتذكّر “باطن” الصّلاة ما هو، إذ أنّ “ظاهرها” ينسينا إيّاه أحياناً كثيرة. فكم من النّاس حولنا يقضون أزمنة طويلة في الوضوء وإقامة الصّلاة ظاهريّا، ثمّ يتصرّفون مع أنفسهم وفي مجتمعاتهم بما لا ينسجم بتاتاً مع باطن هذه الصّلاة (“اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ”، القرآن الكريم، العنكبوت: ٤٥).

إنّ القول هذا، “فَيَا حَجَرَ الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ؟”، مع أنّه موجّه أوّلاً إلى الوعّاظ والمرشِدين، غير أنّه يختصر العقليّة التي نحاول وصفها، وهي التي تجعلنا نعتبر أنّ البُعد الصّوفي-العملي هو بعدُ الباطن والمضمون بامتياز داخل الدّين

وأيضاً، من الصّور الجميلة جدّاً، ما تحكيه القصصُ الصّوفيّة عن إمام السُّنّة الأشاعرة الأعظم، صاحب “تهافت الفلاسفة وإحياء علوم الدّين، أبي حامد الطّوسي الغزّالي (فارسي أيضا بالمناسبة[3]، ت. ١١١١ م)، عندما كان يعلّم في “هارفرد” زمانه، وهي مدرسة “النّظاميّة” (التي أنشأها الحكم العبّاسي-السّلجوقي في بغداد، بالأخص لمواجهة التّشيّع الفاطمي-الإسماعيلي فكريّاً ودينيّاً وسياسيّاً).. فدخل عليه أخوه المتصوّف الزّاهد (أبو الفتوح) أحمد، فوجده يخطبُ في الزّهد أمام جمع من الطّلبة، وهو يلبس لباس البذخ، ويجلس جلوس المعجب بنفسه وبإنّيّته والملتفتِ إلى أنانيّته (كم من مشايخ هذا الزّمان، ورجال دينه، ينطبق عليهم هذا الوصف!). فصاحَ به منشداً (يقال إنّ هذه الأبيات هي التي هزّت أبا حامد في الصّميم، ودفعت به دفعاً نحو الطّريق الصّوفي):

إقرأ على موقع 180  حراك العراق: قوة عبد المهدي في ضعفه.. أين المرجعية؟

أخَذْتَ بِأَعْضَادِهِمْ إِذْ وَنُوا/ وَخَلَّفَكَ الْجهْدُ إِذْ أَسْرَعُوا

وَأَصْبَحْتَ تَهْدِي وَلاَ تَهْتَدِي/ وتُسْمِعُ وَعْظًا وَلاَ تَسْمَعُ

فَيَا حَجَرَ الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى/ تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ؟[4]

إنّ القول هذا، “فَيَا حَجَرَ الشَّحْذِ حَتَّى مَتَى * تَسُنُّ الْحَدِيدَ وَلاَ تَقْطَعُ؟“، مع أنّه موجّه أوّلاً إلى الوعّاظ والمرشِدين، غير أنّه يختصر العقليّة التي نحاول وصفها، وهي التي تجعلنا نعتبر أنّ البُعد الصّوفي-العملي هو بعدُ الباطن والمضمون بامتياز داخل الدّين. ولذلك – من خلال مسائل كتزكية النّفس، ومقامات السّير والسّلوك، ومحاربة الأنانيّة، وكذلك من خلال التشديد على البعد عن النّفاق والرّياء والعُجُب وما إلى ذلك من حجب وأمراض وعلل – يشكّل هذا البُعدُ حجر الأساس لما يقدّمه الدّين للإنسان على المستوى السّلوكي والأخلاقي (والعملي بشكل أعم).

غير أنّ هذا الجانبَ العمليَّ من التصوّف مرتبط ارتباطا وجوديّا بجانب آخر، هو برزخٌ بين العرفان العملي والعرفان النّظري حقيقةً. أتحدّث هنا عن جانبِ أو بُعدِ: المحبّة. لأنّ الصّوفي لا يسمح لـ”أناه” بالطّغيان على قلبه، ولأنّه لا يؤمن – في باطن الباطن – بوجود حقيقيّ لغير الله سبحانه، فهو يعيش في حالة محبّة دائمة.. محبّةٌ هي من النّوع غير المشروط بشرط ولا المحدود بحدّ (بالفرنسيّة: L’Amour Inconditionnel et Infini).. محبّةٌ قائمة بذاتها، تماماً كالمحبّة الإلهيّة: هل يحبّ الحقّ سبحانه عبادَه بشرط أو ضمن حدّ؟ وهي محبّة تغطّي العلاقة مع الله من جهة، وتغطّي العلاقة مع الموجودات أيضا من جهة أخرى، لأنّ هذه الموجودات – كما سنرى – ما هي إلّا مظاهر لظهور الوجود الحقّ (أي الله). يدعو التصوّف إلى السّير في الطّريق نحو “المعرفة”، لكن ضمن “المحبّة”، حتّى ذهب بعضهم إلى أنّ المعرفة (أي معرفة الله) هي عينُ محبّته، ومحبّته هي عينُ معرفته!

وقد يكون يسوع المسيح – عليه أفضلُ الصّلاة والسّلام – هو الرّمز الكوني لهذه المحبّة الإلهيّة غير المشروطة، عند كثير من العرفاء والسّالكين من كلّ الثقافات. وقد تكون هذه المحبّة هي “باطنُ-باطنِ” ما يقدّمه الدّين للإنسان-الفرد وللبشريّة جمعاء، وهو طريق نجاته في الآخرة، وطريق شفائه وسعادته في الدّنيا. لذلك يقول الكثيرون إنّ المحبّة هي أصل أصول الدّين. وقد تحدّث عن هذه المحبّة عرفاء وحكماء[5] كثيرون، منهم الحكيمة الهنديّة المعاصرة الملقّبة بـ”ما أنندامايي” أو Ma Anandamayi (المتوفّاة عام ١٩٨٢ م). قصّة “ما” مع المحبّة والمعرفة طويلة وعميقة، وأنصح الجميع بالاطلاع على سيرة هذه العارفة وأفكارها. غير أنّي، ولأسباب سبق وذكرتها، أترك التّعبير العربيّ الأجمل لشيخ التصوّف الإسلامي الأكبر، و”كبريتِه الأحمر”، محي الدّين بن عربي:

لقد صار قلبي قابلاً كلَّ صورةٍ/ فمرعىً لغزلانٍ، وديرٌ لرُهبانِ

وبيتٌ لأوثانٍ، وكعبةُ طائفٍ/ وألواحُ توراةٍ، ومصحف قرآنِ

أدينُ بدِينِ الحبِّ أنَّى توجهتْ/ ركائبهُ، فالحبُّ ديني وإيماني!

بالطّبع، إنّ “دين الحبّ[6]” الذي يتحدّث عنه ابن عربي، وكما يتبيّن من هذه الأبيات الشّهيرة (أنصح بالاستماع إلى غناء الفنّانة السورية، سارة فرح، لها..)، لا يمكن فصلهُ عن الإيمان بوحدة الوجود، وهو الذي نضعه ضمن أهم ما يقدّمه البُعد الصّوفي للبشريّة جمعاء. فالشّيخُ الأكبرُ يتحدّث هنا عن أنّه قد بلغَ مقاماً روحيّا جعله قادرا على تقبّل كلّ “الصّور”. لماذا؟ لأنّه يؤمن بأنّ الموجودات جميعها، بما فيها الأفراد البشريّة والأفكار والأديان والرّموز (إلخ..)، هي تجلّيات للحقّ سبحانه. فالوجود الحقّ هو الله (“ما ثمّ شيء إلّاك أنت!”، كما يقول الشّاعر المصري المعاصر أحمد الشّهاوي)، وما الموجودات إلّا تجلٍّ له (بمعنى Manifestations). أو بتعبير هو أقرب إلى تعبير الشيخ محي الدّين: إنّ الذّات الإلهيّة “أرادت” أن “تَظهر”، فظهرتْ.. وكانت الموجودات من “مَظاهِرها”. فالظّاهرُ واحدٌ وهو الحقّ، وما الموجودات المتكثّرة إلّا مظاهر لهذا الظّهور. تصبح الكثرة هنا أقرب إلى الوهم، والوحدة هي الحقيقة. بل يرفض بعض العرفاء حقيقة الكثرة من أساسها!

في العرفان والتّصوّف: الأمور تحصل بالمجاهدة والتذوّق، لا بالكلام والتفكّر فقط (للشيخ الأكبر عبارة ساخرة عجيبة في هذا المجال: “كلّ تفكّر لا يعوّل عليه!”) – وهو قول رمزي طبعا، لكنّ الرّسالة من ورائه واضحة لمن اعتاد على هذا السّياق

وبالطّبع أيضاً، فإنّ ابن عربي يفصل بشكل ذهنيّ راديكالي بين “الذّات الإلهيّة” من جهة، وبين مختلف مستويات وعوالم “ظهورها بنفسها على نفسها” من جهة أخرى، ممّا يبعدنا معهُ، في هذا المقال، عن أيّ ادّعاء بالحلول والإتّحاد. ولكي نختصر فكرتنا، فلنقل إنّ هذه النّظريّة، التي هي في قلبِ البُعد الصّوفي، إن لم تكن ببساطة قلبَه: هي برأيي النّظريّة الأقوى والأمتن في سبيل الإجابة على الأسئلة الفلسفيّة الكبرى (وهذا رأي يتبنّاه فلاسفة كبار لسنا هنا في معرض تفصيل آرائهم، لكنّنا ننصح بالاطّلاع مثلاً – غرباً – على أعمال شوبنهاور (ت. ١٨٦٠ م) وسبينوزا (ت. ١٦٧٧ م) بالإضافة إلى الفيلسوف الفرنسي الوجودي-المسيحي المعاصر غابرييل مارسيل (ت. ١٩٧٣ م)، وعلى التناقضات الكبرى التي تواجه الفكر الإنساني منذ بلغ الوعي الفلسفي (والتي يختصرها ربّما النّقاش بين صاحب “التّهافت وصاحب “تهافت التّهافت، أي النّقاش بين الغزّالي وابن رشد القرطبي[7]). وهي أيضاً برأيي: النّظريّة الأكثر قرباً وانسجاماً مع ما يكتشفه الإنسانُ، يوماً بعد يوم، عن الكون الذي يعيش فيه. ومن الأمثلة الجديرة بالذّكر ما اكتشفناه عن وحدة القوانين الفيزيائية الكوسمولوجيّة التي تتحكّم بعالمنا الظّاهر، بل وعن التّرابط العجيب بين جزئيّات المادّة اللّا-متناهية الصّغر أينما كان موضعها من الكون (ضمن مكتشفات “فيزياء الكمّ” الأساسيّة مثلاً) وما إلى ذلك من محطّات علميّة كبرى.

أخيراً وليس آخراً، فلا رَيب في أنّ نظرة إلى الوجود كهذه تغيّر جذريّا طبيعةَ العلاقة بين العَبد والمَعبود، فنخرج عن إطار العلاقة “الإثنينيّة” (وكأنّ الله في “مكان” ونحن في “مكان” آخر منفصل).. عداك عن تغييرها الجذري للعلاقة بين العَبدِ والعَبد وباقي الخلق، ممّا ينقلنا إلى النقّطة الثّانية.

(يتبع)

المصادر والمراجع:

[1]  لم أقتنع يوما بالمحاولة التي يقوم بها أغلب منظّري العرفان الشّيعي، من المعاصرين خصوصاً، للتّمييز بين مدرستهم وبين مدرسة التّصوّف السّنّي (على الأقل فيما يخصّ المدارس المتولّدة من مدرسة الشيخ محي الدّين بن عربي، أو ما يسمّيه بعض الصّوفيّة بالتّصوّف الإشراقي-الأكبري). قناعتي المتجذّرة هي أنّ المدرسَة واحدة (عمليّا ونظريّا، وفي الأعم الأغلب)، وهي ما يمكن تسميته “بالمدرسة الصّوفيّة في الإسلام”. لذلك، سوف أسمح لنفسي باستعمال مصطلح “البُعد الصّوفي للإسلام” فيما سيلي، مع ترك الدّفاع عن هذا الادّعاء إلى مواضع أخرى إن شاء الله تعالى.

[2]  ولها أيضاً بعدٌ معرفيّ، إذ أنّ الصّوفيّة تؤمن بتفوّق “القلب” بما هو مرتبة عليا للعقل، على مرتبة العقل المفكّر، وهذا أيضاً بحث آخر.

[3]  أعجب أحيانا من أصحاب نظريّة مواجهة الفُرس في زماننا هذا: هل يعلمون أن شيخ مشايخ الأشاعرة كان فارسيّاً؟

[4]  كم نتمنّى في أحيانٍ كثيرة أن نصيح في هذا الواعظ أو ذاك: فيا حجر الشّحذ حتّى متى، تسنّ الحديدَ ولا تقطعُ؟ ما أقوى وأعظم هذا البيت، فعلا…

[5]  نلاحظ أنّ استعمالنا لكلمة “حكيم” في هذا المقال يأتي بمعنى الحكيم-العارف لا الحكيم-الفيلسوف كما في التّراث الفلسفي الإسلامي عادةً.

[6]  نستعمل في هذا المقال مصطلح الحبّ بمعنى المحبّة كما يلاحظ عزيزنا القارئ، مع أنّ “الحبّ” عادة أقرب إلى معنى “العشق”، وهو عندي أفضل وأجمل وأدنى من معنى المحبّة غير المشروطة. لكنّنا نترك هذا النّقاش إلى مناسبة أخرى مكتفين باستعمال كلمتي الحبّ والمحبّة كليهما لإيصال المقصد عينه.

[7]  ببساطة، عندما يصبح الله سبحانه هو الوجود الحقّ، مع الفصل بين “الذّات” الأزليّة والكاملة والغنيّة عن العالمين من جهة، وبين عوالم تجلّياتها من جهة أخرى (مع التّبسيط): تصيرُ الأجوبة على أسئلة كبرى كقدَم العالم، و”السبب الأوّل”، وخلق القرآن، والخيار والجبر (إلخ.) واضحة أكثر بكثير مقارنةً بما يتكبّده العقل الفلسفيّ التّقليديّ من عناء شديد أمام تناقضاته المتولّدة من “الإثنينيّة” على حدّ تعبير السّيد الإمام (قد) وغيره. ولذلك، يُحكى أنّ ابن عربي الفتى، عندما التقى بالفيلسوف ابن رشد في قرطبة، وسأله هذا الأخير – وكان في أواخر عمره – ما معناه: “هل وصلتم بالتذوّق والمكاشفة إلى ما وصلنا إليه بالتفكّر والنّظر؟” فأجابه ابن عربي حسبما يروي هو عن هذا اللّقاء: “نعم ولا!”. لأنّك لو أخذت مثلا سؤال “هل العالم أزليّ أم لا”؟ لأجابك العرفاء: هو أزليّ من زاوية الذّات الإلهيّة طبعا، وهو غير أزليّ من جهة التجلّيات أيضا وبالطّبع! وهذه أبحاث طويلة قد نعود إليها لاحقا.

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  وصفة الديموقراطية الفوقية.. إنفجار مجتمعي دائم!