في عددها الصادر في الأول من آذار/مارس 1883 عدّدت مجلة “المقتطف“ المصرية المطابع الموجودة في بيروت، و”أولها مطبعة الأميركان حيث يوجد فيها من الكتب الدينية والعلمية ما يقدر بالألوف، ويُطبع فيها أربع جرائد، وفيها ثلاث مطابع تشتغل بالبخار، وخمس على اليد، ومطبعة حجر ومكبس وطُبع فيها سنة 1881 نحو 57500 مجلد، والثانية مطبعة الآباء اليسوعيين ويُطبع فيها جرنال البشير، والثالثة المطبعة السورية ويُطبع فيها جريدة حديقة الأخبار، والرابعة المطبعة الشرقية، والخامسة المطبعة العمومية وتطبع جريدة المصباح، والسادسة المطبعة الوطنية، والسابعة مطبعة المعارف، والثامنة مطبعة الفنون وتطبع جريدة ثمرات الفنوان، والتاسعة المطبعة الأدبية، والعاشرة المطبعة الكلية، والحادية عشرة مطبعة القديس جاورجيوس ويُطبع فيها جرنال التقدم“.
وفي كتاب “القول الحق في بيروت ودمشق“ للرحالة المصري عبد الرحمن بك سامي “وصلنا إلى بيروت صباح الثامن والعشرين من حزيران/يونيو 1890 وهي كما وصفها صاحب اللطائف في المجلد السابع من المقتطف حيث قال بيروت زهرة سوريا ومركز علومها، كانت قديما مدينة الفقه وهي الآن مدينة العلم والطب ويُعرف علو منزلتها من كثرة مدارسها وعظيم فوائدها من جرائدها ومطبوعاتها ، وقد أعجبني فيها شوارعها الواسعة وجمال أبنيتها وتنظيمها وكثرة الجنائن فيها“.
وأوجزت مجلة “الهلال“ المصرية في الأول من تشرين الأول/اكتوبر 1903 الواقع الثقافي والعمراني لبيروت فقالت “بعد حوادث 1860 أخذت بيروت بالنزوع إلى المدنية واتسعت عمارتها وتعددت فيها الأبنية الفخيمة ونبغ فيها العلماء والأدباء، وأنشئت المطابع والجرائد وانتشرت روح النهضة منها إلى ما جاورها من مدن الشام وغيرها، وهي لا تزال زهرة مدائن الشرق ومبعث نور النهضة العربية الأخيرة“.
على النسق ذاته، نشرت “المقتطف“ في عددها المؤرخ في الأول من تشرين الثاني/نوفمبر 1903 مقالة عن “بيروت وحوادثها“ قدمت لها بالقول “بيروت ثغر الشام وزهرة المدائن العثمانية، كانت دار المدارس ومرضعة العلوم في عهد اليونان والرومان، ثم تعاونت القوى الطبيعية والمشاكل السياسية على تخريبها، وعادت الأيام وبسمت لها ونشأت فيها خمس مدارس عالية ومدرستان كليتان ومطابع كثيرة لا تفوقها مطبعة في الشرق حتى الآن“.
الشيخ محمد رشيد رضا الذي كان يصدر مجلة “المنار“ في القاهرة كتب في السابع من تموز/يوليو 1910 أن “البلاد السورية من أرقى البلاد العثمانية استعدادا للعلم والعمران، وبيروت أرقى هذه البلاد بل هي من أثمن درر آل عثمان، وزادت قيمة بيروت في نفوسنا بعد الدستور ـ الإصلاحات العثمانية عام 1909 ـ أضعافا مضاعفة وصرنا نباهي بها ونفاخر“.
في عام 1910 يصدر رئيس تحرير صحيفة “الإقبال“ عبد الباسط الأنسي كتابا تعريفيا شاملا عن بيروت بعنوان “دليل بيروت“ ورد فيه “هي في الطبقة الأولى بين المدن العثمانية من جهة الإتساع والعمران والتجارة وفيها 19 مطبعة”، وفي العام المذكور سيزور بيروت الأمير محمد حفيد القائد العسكري المصري محمد علي باشا فيكتب مذكراته في “الرحلة الشامية“ ويعطي هذه الصورة الجمالية والثقافية عن بيروت:
“إن هذه المدينة من المراسي الشهيرة والمدن التجارية الكبيرة التي عُني بشأنها قديما وحديثا أرباب المحابر من الكتّاب وعلماء التاريخ، بيروت قديمة التاريخ من أشهر وأهم مدن سوريا وهي أكبر ميناء في بلاد الشام، ومركزها الطبيعي غاية في الجمال، وأكثر ما رأيناه من الحدائق والبساتين مغروسا بشجر التوت والبرتقال الذي يرسل مع عليل النسيم عبير زهره فيُشفي الجسم السقيم، أما مدارس المدينة فكثيرة إذ تبلغ نحو مئة مدرسة، والتعليم في بيروت مما يُسِر أنصار وعشاق المعارف ومحبي التقدم والرقي، وأما مطابعها فإنها ليست أقل أهمية من مدارسها، وسمعتُ أن ما يُطبع في تلك المطابع من الكتب العلمية والفنية شيء يفوق الحصر، كما يُطبع فيها عدة جرائد يومية وأسبوعية وشهرية سياسية وتجارية وطبية، ومما امتازت به هذه المدينة عن سائر مدن الشام أنها تصدّر كثيرا من مطبوعاتها إلى البلاد الشامية وغيرها من البلاد الأجنبية“.
هذه الصورة الزاهية لبيروت ستظهر في مجلة “العرفان“ اللبنانية (23 ـ 7 ـ 1923) في مقالة “بين بيروت وصيدا“ للشيخ أحمد عارف الزين، فبيروت “بلغت المستوى الراقي من العلوم والآداب في زمن أغسطس قيصر واشتهرت مدرستها الفقهية في أنحاء العالم فأمّها الطلاب من جميع الأقطار حتى من البلاد العربية، فكانت آنذاك غرة في جبين الشرق، وفي سنة 1898 زارها أمبراطور ألمانيا فقال عنها إنها درة في تاج آل عثمان، وأخذت تنمو سريعاً، والمرفأ الذي بُني عام 1894 كان من أسباب تقدمها، ونشأت فيها المدارس الفخمة والمطابع والجرائد، وفيها زهاء ثلاثين مطبعة وخمسين جريدة ومجلة“.
ولأمير البيان شكيب إرسلان رأيه أيضا، ففي محاضرة “النهضة العربية في العصر الحديث“ التي ألقاها في تشرين الأول/اكتوبر 1937) بدعوة من “المجمع العلمي العربي“ في مدينة دمشق، قال “في بيروت والحق يقال، ابتزغ زرع العلم العصري، ثم انبث في جميع الشامات، ثم في ما جاورها، وبين 1860 و1880 وُجدت في بيروت عدة مطابع، وإلى حد سنة 1880 كانت الجرائد منحصرة في بيروت لا تتعداها إلى غيرها من مدن سوريا، وقد كان في بيروت بضع عشرة مطبعة، فتضاعف هذا العدد مرتين وثلاث“.
ومن دمشق إلى القاهرة، ففي عام 1954 ألقى الشاعر اللبناني صلاح لبكي سلسلة محاضرات “التيارات الأدبية الحديثة في لبنان“ دعا في إحداها إلى عدم نسيان “أن صحيفة الأخبار ـ اللبنانية ـ هي أول صحيفة إخبارية في الشرق العربي، وأن مطبعة عبد الله زاخر طبعت منذ 150 سنة ـ أوائل القرن التاسع عشر ـ أول كتاب عربي لبناني بالحرف العربي، ولا أن لبنان كان له يد السباق في نقل الفكر الغربي إلى الشرق وفي نقل الفكر العربي إلى الغرب“.
في الأول من نيسان/ابريل 1967، كتب الشاعر اللبناني يوسف غصوب في مجلة “حوار“ التي كان يصدرها الشاعر الفلسطيني ـ السوري توفيق صايغ في العاصمة اللبنانية “بيروت مدينة علم وثقافة فيها أربع جامعات يؤمها الطلاب من لبنان وسائر الدول العربية، وإلى جانب الجامعات كليات ومعاهد عديدة وما يقرب من مئة وخمسين مدرسة ابتدائية وثانوية عدا المدارس المنتشرة في ضواحيها، وفيها أندية وروابط وجمعيات أدبية واجتماعية تكاد لا تُحصى، وفي بيروت نحو ستين مكتبة وفيها من دور النشر والمطابع ما يربو عن المئة والعشرين“.
وعلى مساحة 27 صفحة نشرت مجلة “العربي“ الكويتية تحقيقا (حزيران/يونيو 1972) عن مدينة بيروت تطرقت فيه الى علاقة مطابعها بجرائدها، فقالت “على أرض ساحة البرج ـ وسط المدينة ـ يعرض باعة الصحف الجرائد والمجلات بصورة جذابة تلفت النظر، وقفنا مع الواقفين نتطلع إلى العناوين، إنها مكتبة عامة على قارعة الطريقة، ففي صباح كل يوم ومع صياح الديك تخرج إلى أسواق بيروت 49 جريدة يومية“.
وهذه الصلة بين بيروت ومطابعها كتب حولها المؤرخ اللبناني المعروف يوسف ابراهيم يزبك في “الهلال“ القاهرية بتاريخ الأول من أيلول/سبتمبر1974 وربط بين المطابع البيروتية وانبعاث الفكرة القومية العربية بقوله “في النصف الثاني من القرن الماضي (يقصد التاسع عشر)، أسّست في بيروت المعاهد العلمية وزخرت بالمطابع والمطبوعات والأندية الأدبية التي نفخت في العرب نهضة أيقظت قوميتهم“.
ومثل هذه الصلة بين بيروت والفكرة القومية العربية سيتحدث عنها السياسي أحد قادة “ثورةالعشرين“ العراقي محسن أبو طبيخ في مذكراته حين يقول “إن استعراض وشرح أوضاع الحركة القومية العربية آواخر الحكم العثماني يقودنا إلى التساؤل عمن هم أولئك الرواد الحقيقيون؟ إن أول من نطق بفكرة القومية العربية هم الأحرار السوريون واللبنانيون الذين شنقهم جمال باشا السفاح في بيروت ودمشق وعاليه أثناء الحرب العالمية الأولى”.
القيادي والسياسي السوري نبيل شويري يبوح للزميل صقر أبو فخر في الحوار الطويل “حطام المراكب المبعثرة“ انه لما جاء إلى العاصمة اللبنانية في عقد الستينيات الماضي “بهرتني بيروت، عالم متقدم كثيرا على العالم الذي كنت أعيش فيه، اكتشفت أهمية النهضة الثقافية والعلمية إلى جانب الحرية، ورأيت قيمة حرية الصحافة والكتابة وحرية الرأي والفكر، أنا لم أمارس شهوة المعرفة من أجل المعرفة إلا في بيروت“.
وفي تلك الفترة، أي في الستينيات الماضية، كانت بيروت “منتدى للحياة العربية العامة“ كما يقول القيادي الفلسطيني ـ اللبناني شفيق الحوت في كتابه “عشرون عاما في منظمة التحرير الفلسطينية“، ويرسم المحقق والناقد الفلسطيني إحسان عباس في سيرته “غربة الراعي“ واقع بيروت وتفاصيلها الثقافية، فقد “كانت مركزا ثقافيا يصل إليها أحدث ما يصدر من كتب، وتصدر فيها نسبة كبيرة من أحدث المؤلفات والمحققات والمترجمات بالعربية، وكانت تضم نخبة من المثقفين من مختلف الأقطار العربية ودور نشر تُعد بالعشرات ومجلات وصحفا أدبية وفكرية ومقاهي يلتقي فيها المفكرون والنقاد والمبدعون“.
وبشهامة جليلة يعترف صاحب موسوعة “تاريخ الوزارات العراقية“ التي لا غنى عنها للإطلاع على تاريخ العراق المعاصر المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في مذكراته “أحداث عاصرتها“ بدور مطابع بيروت ولبنان بتكوينه وتكريسه “وإني مدين لمجلة العرفان التي نشرت لي عشرات المقالات كما أن مطبعة العرفان تولت طبع كتبي كلها تقريبا، فلولا العرفان لما كنتُ ولا كان إسمي، وما أبصرت مؤلفاتي النور، وهذه حقيقة أذكرها“.
الشاعر المصري عبد المعطي حجازي كتب عن بيروت ودورها الثقافي في مجلة “إبداع“ القاهرية (1 ـ 12ـ 1994) بأصالة ووفاء مشهودين “إذا قلنا ثقافة مصرية حديثة فدماء اللبنانيين ومهجهم ونبضات قلوبهم ممتزجة بدماء المصريين ومهجهم ونبضات قلوبهم، وأبسط من ذلك وأدق أن نقول إن الثقافة العربية الحديثة تدين لهذين العنصرين أول ما تدين، ومجلة الآداب لعبت في الخمسينيات والستينيات أعظم دور لعبته مجلة أدبية ـ إن ـ بيروت توأم القاهرة“، وهذه التوأمة كادت تشكل نظرية بحد ذاتها لدى الرئيس جمال عبد الناصر، إذ كان يعتبر أنه لو تفاعلت بيروت والقاهرة يمكن أن يحدث معجزة كما ينقل الروائي المصري يوسف القعيد (180post) في كتابه “عبد الناصر والمثقفون والثقافة“ عن الكاتب الصحافي الأكثر شهرة في العالم العربي محمد حسنين هيكل.
لا يمكن إحصاء عدد المبدعين المصريين الذين كتبوا عن بيروت من أحمد شوقي في أول القرن العشرين إلى عبد الرحمن الأبنودي في آخره وما بينهما العشرات وأكثر، وكذلك الأمر مع العراقيين والفلسطينيين، وأما السوريون فهم حالة أخرى، فبيروت هي قصيدتهم ومدينتهم وزينتهم ودمعتهم، وما قصائد نزار قباني وخصوصا رائعته “يا ست الدنيا يا بيروت“ سوى تعبير عن ذاك الفيض العاطفي لبيروت، يقول الشاعر محمد الماغوط:
بيروت
يا أمي وطفلتي ومعبودتي!
تذكرت ساحة البرج في “سرير تحت المطر”
وساحة الدبّاس في “الغجري المعلب“
وصخرة الروشة في “أمير من المطر وحاشية من الغبار”
بك جعتُ وشبعتُ
قاومتُ واستسلمتُ
تألقتُ وانطفأتُ
عريتُ واكتسيتُ
وحاورتُ وناقشتُ وصرختُ:
لم لا تكون بيروت وحدها الهلال الخصيب؟
وكفى الله المؤمنين شر القتال!
أحد كبار أساتذة الصحافة العربية الناشر والكاتب الصحافي “السوري ـ البيروتي“ رياض نجيب الريس، كتب في شهرية “الناقد“ في الأول من حزيران/يونيو 1992 “على الرغم من وحشية وظلم وظلام الحروب، ما زالت بيروت العاصمة العربية الوحيدة التي تستطيع أن تتنفس فيها ولو برئة واحدة، أو بنصف رئة، في وقت لم تعد هناك رئات في أية مدينة عربية أخرى صالحة للتنفس“.
كتب رياض نجيب الريس ذلك قبل ثلاثين عاما، وعلى ما يظهر أن بيروت ستبقى ثلاثين سنة أخرى وربما ثلاثمئة سنة الرئة العربية الوحيدة التي يتنفس فيها الحبر والقلم والكتاب والإعلام وما تبقى من مثقفين عرب.
يبقى سؤال أخير: إذا زلزلت الأرض زلزالها في بيروت كيف يتنفس العرب؟