تطرق “هنرى كيسنجر” موسعا إلى الرئيس «أنور السادات» ضمن ست شخصيات بلورت رؤيته لمفهوم القيادة، خصائصها وسماتها، هم: «كونراد أديناور» أول مستشار ألمانى بعد الحرب العالمية الثانية، «شارل ديجول» قائد المقاومة الفرنسية أثناء تلك الحرب، «ريتشارد نيكسون» ودوره فى إنهاء حرب فيتنام والانفتاح على الصين، «لى كوان يو» زعيم سنغافورة، و«مارجريت تاتشر» التى كانت توصف بالمرأة الحديدية فى بريطانيا.
اختار «السادات» شريكه الرئيسى فيما أطلق عليها «عملية السلام» ضمن النماذج الستة لصناع الاستراتيجيات للحديث عن دوره هو فى تغيير معادلات المنطقة.
كما اختار «نيكسون» ليتحدث عن دوره هو فى إنهاء حرب فيتنام وسياسة الوفاق والانفتاح على الصين.
أراد أن يقول إن «السادات» شريكه فى عملية السلام صاحب نظرة استراتيجية أطلق عليها «التجاوز»، أى تعديل الأوضاع الاستراتيجية التى كانت عليها مصر إلى أوضاع جديدة فى السياسات والتحالفات الإقليمية والدولية أفضت عمليا إلى طرد الاتحاد السوفييتى، الذى حاربنا بسلاحه فى أكتوبر والانتقال إلى المعسكر الآخر الذى حاربت إسرائيل بسلاحه.
هناك اعترافان جوهريان فى الكتاب الجديد لرجل يستقبل فى مايو/أيار المقبل عامه المائة دون أن تؤثر وطأة السنين على همته وذاكرته.
الأول، أن أجهزة المعلومات والاستخبارات الأمريكية فشلت تماما فى توقع أن تبادر مصر بأى أعمال عسكرية لتحرير الأراضى المحتلة، فموازين القوة لا تسمح بذلك والهزيمة مؤكدة. الفشل الاستخباراتى امتد إلى مجموعات المتابعة فى وزارة الخارجية الأمريكية.
الأسوأ أن البيت الأبيض لم يكن على علم، لا من استخباراته ولا من اتصالاته بالإسرائيليين، بمن بدأ الحرب.
ساد اعتقاد راسخ أن إسرائيل سوف تستعيد الموقف سريعا وتلحق بالمصريين والسوريين هزيمة جديدة حتى تبدد تماما فى اليوم السادس من الحرب.
فى ذلك اليوم الثلاثاء (11) أكتوبر/تشرين الأول تأكد فى البيت الأبيض أن إسرائيل على شفا هزيمة كاملة على طول قناة السويس.
كان ذلك هو الاعتراف الثانى.
فى الصفحة رقم (358) كتب كيسنجر أن البيت الأبيض أبلغه أن مئات الدبابات وعشرات الطائرات خسرتها إسرائيل فى المعارك الأولى التى اندلعت منذ يوم (6) أكتوبر، وأن هناك طلبا ملحا لإمدادها فورا بأسلحة تعوض خسائرها وأن تزور رئيسة الوزراء «جولدا مائير» واشنطن لـ«عرض قضيتها» بنفسها.
«نيكسون» استجاب لطلبات السلاح و«كيسنجر» أشرف على الجسر الجوى مستعينا بالطيران المدنى لإزالة أى معوقات تؤجل إرسال المساعدات المطلوبة لإنقاذ إسرائيل، وكان رفضه صريحا وحاسما لفكرة الزيارة قائلا للسفير الإسرائيلى فى واشنطن «سيمحا دينتز»، إذا ما غادرت فى حالة الحرب فإنها تعطى رسالة سيئة للغاية.
هزمت إسرائيل فى الخمسة الأيام الأولى من الحرب.
فى الصفحة رقم (358) كتب كيسنجر أن البيت الأبيض أبلغه أن مئات الدبابات وعشرات الطائرات خسرتها إسرائيل فى المعارك الأولى التى اندلعت منذ يوم (6) أكتوبر، وأن هناك طلبا ملحا لإمدادها فورا بأسلحة تعوض خسائرها وأن تزور رئيسة الوزراء «جولدا مائير» واشنطن لـ«عرض قضيتها» بنفسها.
هذه حقيقة نهائية باعتراف «كيسنجر» نفسه، قبل أن يتكفل بتعديل دفة الحوادث وحرمان مصر من جنى ثمار بطولة السلاح.
فيما اعترف به أنه تلقى من السفير «دينتز» الذى زاره برفقة الملحق العسكرى «رسالة دراماتيكية» تقول حرفيا إن وزير الدفاع «موشى ديان» ورئيس هيئة الأركان «ديفيد إليعازر» تمكنا من إقناع رئيسة الوزراء «مائير» أنه إذا ما أقدمت إسرائيل على هجوم مضاد بطول قناة السويس فإن التكاليف سوف تكون باهظة للغاية، فصواريخ «سام» السوفييتية تغطى من (15) إلى (20) ميلا غرب قناة السويس.
بدأ مسار الحوادث يتغير، بالجسر الجوى أولا، وبأخطاء السياسة ثانيا.
أخذ دور «كيسنجر» يتمدد كمهندس للتسوية السياسية بالطريقة التى جرت والنتائج التى أفضت إليها.
جرى الاتصال بوزير الخارجية البريطانى «إليك دوجلاس هيوم» لأخذ زمام المبادرة على ما جرت العادة فى إسناد مثل تلك المهام إلى الدبلوماسية البريطانية، كما حدث عند وقف إطلاق النار عام (1967) حيث تساعدها خبرتها على الصياغات الملغمة.
على الجانب الآخر من الصورة، تلقت حجرة العمليات الملحقة بمكتب وزير الخارجية المصرى برقية من الخارجية الأمريكية تطلب البحث فى وقف فورى لإطلاق النار.
فى ظروف الحرب لم يكن ممكنا إيصال البرقية إلى رئيس الجمهورية بالسرعة الواجبة، تبادل الدبلوماسيون المصريون الذين اطلعوا على البرقية الرأى فيما يجب أن يكون عليه الرد.
كان الملحق الشاب، السفير فيما بعد «محمد اسماعيل»، نجل القائد العام للقوات المسلحة فى حرب أكتوبر المشير «أحمد اسماعيل على» متواجدا فى غرفة العمليات بحكم عمله بمكتب الوزير.
سئل إذا ما كان ممكنا إيصال البرقية إلى والدك؟.. أجاب: مستحيل.
كان وزير الخارجية «محمد حسن الزيات» فى نيويورك ولم يمكن الاتصال بالقائم بالأعمال «اسماعيل فهمى».
اقترح د. «أسامة الباز» إرسال البرقية بالغة الأهمية إلى الأستاذ «محمد حسنين هيكل» ثقة أنه سوف يصل للرئيس بأسرع وقت ممكن ويسدى النصيحة المناسبة فى ضوء التطورات العسكرية والسياسية.
كان مثيرا للالتفات أن وزيرى الدفاع والخارجية التقيا قبل فترة وجيزة فى نادى القوات المسلحة بالزمالك، وتبادلا الرأى فيما قد يعرض على مصر من مقترحات.
«الزيات» رفض وهو فى نيويورك اقتراحا أمريكيا بوقف إطلاق النار وعودة القوات إلى ما كانت عليه، دون عودة للقاهرة.
لم يكن ممكنا أن يقبل «السادات» عرضا ثانيا أن تنسحب القوات المصرية إلى غرب القناة على أن تظل القوات الإسرائيلية فى أماكنها الحالية دون تقدم إلى مواقعها التى انسحبت منها! فذلك يفرغ النصر العسكرى من أية قيمة!
ثم جاء العرض الثالث الذى جرى إقراره فيما يعرف بقرار مجلس الأمن (338) ويقضى بوقف إطلاق النار بصورة كاملة وإنهاء جميع الأعمال العسكرية فورا من لحظة اتخاذ هذا القرار وفى المواقع التى تحتلها الآن.
كانت تلك شهادة أخرى من داخل وزارة الخارجية المصرية.
بعد خمسين سنة من الحرب تحتاج مصر إلى توثيق ما جرى فعلا، أن ترفع الحظر عن الوثائق التى فى عهدتها حتى يمكن قراءة التاريخ بعيوننا نحن لا بعيون الآخرين.
(*) بالتزامن مع “الشروق“