الهروي في الأرض المقدّسة.. الحقائق والمعتقدات!

كتاب "الإشارات إلى معرفة الزيارات" لعلي بن أبي بكر الهروي (ت. 1215م.) هو من أغنى الكتب التي تُعرفنا على المعتقدات الشعبية ممزوجة بروايات المزارات الدينية، ويأخذنا كاتبه إلى الأماكن التي زارها خلال ترحاله في بلاد الشام ومصر وشمال إفريقيا وبلاد الروم والجزيرة والحجاز واليمن والعراق وإيران في النصف الثاني من القرن الثاني عشر.

وُلد الهروي في مدينة الموصل وانتقل بين كثير من المدن حبّاً بالعلم والسياسة. وبعد الإنتهاء من رحلاته، استقرّ في مدينة حلب حيث بنى له حاكمها الملك الظاهر (ابن صلاح الدين الأيّوبي) مدرسة، درّس فيها الهروي حتّى وفاته.

يفتح لنا كتاب “الإشارات” نافذة جميلة على الماضي الذي لا نعرف عنه إلاّ القليل من المصادر الأخرى، خصوصاً ما يتعلق بهويّة الكثير من المزارات وأهميّتها الدينيّة. ولا يتردّد الهروي في إبراز الأخطاء التي وردت في بعض المرويات الشعبية ومن ثم تصحيحها. يقول مثلاً عن قرية بلاطة في فلسطين:

“قرية من أعمال نابلس يزعمون أنّ النمرود رمى إبراهيم عليه السلام في النار بهذه القرية، وبها عين الخضر، وبها حقل يوسف الصدّيق وقبر يوسف بهذا الموضع عند الشجرة، وهو الأصح. وأما النمرود فالصحيح أنّه كان بالعراق، والموضع الذي رمى فيه إبراهيم هناك، وسيأتى ذكره إن شاء الله تعالى“.

وعن مدينة طبريّة، يقول الهروي:

“من شرقي بحيرتها قبر سليمان بن داود عليه السلام، والصحيح أن سليمان دفن إلى جانب أبيه داود فى بيت لحم وهما فى المغارة التى بها مولد عيسى عليه السلام. ومن شرقي بحيرة طبرية قبر لقمان الحكيم وابنه، وقبره أيضا باليمن بجبل يقال له لاعة عدن، وسيأتى ذكره. وبطبرية قبر أبي عبيدة بن الجرّاح وزوجته، وقد زرناه فيما تقدم (في قرية عمتا)، والله أعلم بالصحيح. وقيل قبره بالأردن، وقيل قبره في بيسان، ومات في طاعون عمواس، والله أعلم”.

بغضّ النظر عمّا إذا كان ما يعتقده العامّة صحيحاً أم لا، يعرّفنا كتاب الهروي على كيفيّة تفاعل عامّة الناس مع محيطهم الجغرافي وربطه بتاريخهم ومعتقداتهم الدينيّة.

ولعل أهمّ ما ورد في كتاب “الإشارات” هو المتعلّق بمدينة القدس في زمن الحكم الصليبي. زيارة الهروي للقدس كانت في سنة 1173 في زمن الملك الصليبي أمَرْلِك (Amalric أو Amaury كما كان يُلفَظ في ذلك الوقت). ماذا يقول الهروي عن قبّة الصخرة؟

 “وهو موضع عُرج بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، وبه الصخرة التى عُرج به من عليها وقدمه فيها. وهذه الصخرة رأيتها فى زمان الفرنج شمالي هذه القبّة ودائرها درابزين من الحديد كالبيت وهي الآن من الجانب القبلي وتحتها دكّة وهي عليها مبنيّة. والصخرة شبر واف وعلوّها مقدار ذراعين ودائرها يزيد على أربعة أذرع. وتحت قبّة الصخرة مغارة الأرواح، ذكروا أن أرواح المؤمنين يجمعها الله بها، وينزل إلى هذه المغارة فى أربع عشرة درجة. ويقال أنّ قبر زكرياء عليه السلام بهذه المغارة، والله أعلم. وقرأت كتابة في سقف هذه القبّة ما هذا صورتها: “بسم الله الرحمن الرحيم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ… الآية (سورة البقرة 255)، والكتابة بالفصّ المذهّب. وهذه القبّة لها أربعة أبواب ودخلتها فى زمان الفرنج سنة تسع وستين وخمسمائة، وكان قبالة الباب الذي إلى مغارة الأرواح صورة سليمان بن داود عليه السلام عند التأزير الحديد. وغربيّه باب من الرصاص عليه صورة المسيح ذهباً وهو مرصّع بالجوهر. الباب الشرقى إلى جانب قبّة السلسلة وعليه عقد عليه مكتوب اسم القائم بأمر الله أمير المؤمنين وسورة الإخلاص وتحميد وتمجيد، وعلى سائر الأبواب كذلك لم تغيّره الفرنج. وإلى جانب هذه القبّة من الشرق قبّة السلسلة التي كان يحكم بها سليمان بن داود، عليه السلام، وشمالي هذه القبة دار القسوس بها من العمد وعجائب الصنعة ما أذكره عند ذكر الأبنية والآثار إن شاء الله تعالى”.

وعن المسجد الأقصى، يقول الهروي:

“به محراب عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، ولم تغيّره الفرنج. وقرأت في سقف قبّة الأقصى ما هذه صورته: “بسم الله الرحمن الرحيم سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ (سورة الإسراء 1)، نصر من الله لعبد الله ووليّه أبي الحسن علي الإمام الظاهر لإعزاز دين الله أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، أمر بعمل هذه القبة وإذهابها سيّدنا الوزير الأجلّ صفي أمير المؤمنين وخالصته أبو القاسم علي بن أحمد أيّده الله ونصره وكمّل جميع ذلك إلى سلخ ذي القعدة سنة ست وعشرين وأربعمائة، صنعة عبد الله بن الحسن المصري المزوّق”. وجميع الكتابة والأوراق بالفصّ المذهّب، وجميع ما على الأبواب من آيات القرآن العزيز وأسامي الخلفاء لم تغيّره الفرنج”.

تستوقفنا عبارة “لم تغيّره الفرنج” التي يكرّرها الهروي عند وصفه للكتابات القرآنيّة والإسلاميّة داخل قبّة الصخرة والمسجد الأقصى (وفي أماكن أخرى زارها). لا يمكن تقبّل فكرة أنّ الصليبيين لم يفهموا ماهية العبارات، بوجود الكثيرين مِمَن يتكلّمون العربية أو يعرفونها بينهم. إذاً، ما نستخلصه من كلام الهروي أنّ الفرنجة لم يعيروا أي أهميّة لهذه الكتابات وتركوها على حالها. ويمكن أن نضيف أنّ الفرنجة لم تشوّه هذه المباني كما تزعم بعض المصادر الإسلاميّة الأخرى لمؤلّفين لم يعرفوا القدس إلاّ عن بعد!

إقرأ على موقع 180  إذاعة الرعب

ويذكر الهروي في وصفه لمزار الأنبياء (إبراهيم وإسحاق ويعقوب) في الخليل:

“يقول مؤلّف هذا الكتاب علي بن أبي بكر الهروى، غفر الله له ولجميع المسلمين: دخلت القدس سنة تسع وستين وخمسمائة واجتمعت فيها وفي مدينة الخليل عليه السلام بمشائخ حدثوني أنّه لمّا كان في زمان الملك بردويل انخسف الموضع فى هذه المغارة، فدخل جماعة من الفرنج إليها بإذن الملك، فوجدوا فيها إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام قد بليت أكفانهم وهم مستندون إلى حائط وعلى رؤوسهم مناديل ورؤوسهم مكشوفة، فجدّد الملك أكفانهم ثم سدّ الموضع، وذلك سنة ثلاث عشرة وخمسمائة هجرية.

وحدثني الفارس بَيْرُن – كان مقيماً في بيت لحم معروفاً عند الفرنج لرحلته وكبر سنّه – أنّه دخل مع أبيه إلى هذه المغارة ورأى إبراهيم الخليل وإسحاق ويعقوب ورؤوسهم مكشوفة. فقلت: كم كان عمرك؟ فقال: ثلاث عشرة سنة. وقال لي أنّ الفارس جِفْري بن جُرْج كان ممّن تقدّم الملك إليه ليجدّد أكفانهم ويعمّر ما انخسف من المغارة وهو في الحياة. فسألت عنه فقيل مات منذ أيام. يقول مؤلف هذا الكتاب: إن صحّ ذلك رأيت من رأى إبراهيم وإسحاق ويعقوب عليهم السلام يقظةً لا مناماً”.

يفتح لنا هذا الكلام باباً على التراث الديني المشترك بين المسلمين والصليبيّين وأنّهم كانوا واعين له ولأهمّيته لكلّ منهم، والذي على أساسه يجب إعادة دراسة البعد الديني في الصراع بين المسلمين والفرنجة في ذلك الوقت. وأضيف ملاحظة مهمّة عن كلام الهروي عن اجتماعه في القدس والخليل بـ”مشايخ”، وهو دليل على وجود مسلمين في هذه المدن التي كانت تحت الحكم الصليبي.

وأختم بخبر طريف يرويه الهروي عن مسجد عين البقر في عكّا:

“بها عين البقر، ذكروا أن البقر خرجت منها لآدم فحرث عليها، وعلى هذه العين مشهد ينسب إلى علي بن أبي طالب، رضي الله عنه. وذلك أنّ الفرنج عملته كنيسة وقعد بها قيّم برسم عمارتها وخدمتها فلما أصبح قال: رأيت شخصاً يقول لي: أنا علي بن أبي طالب، قل لهم يعيدوا هذا الموضع مسجداً وإلا من أقام به يهلك. فلم يقبلوا كلامه وأقاموا غيره. فلما أصبح وجدوه ميتاً، فتركتها الفرنج مسجداً إلى الآن”.

هنا أيضاً، يقودنا هذا الخبر إلى فهم أكبر للتراث الديني المشترك بين المسلمين والصليبيّين، وللمعتقدات الشعبيّة التي تفسّر أو تعطي أهميّة دينيّة لأماكن معيّنة تصبح مع الوقت جزءاً لا يتجزّأ من هذا التراث الذي يقود في بعض الحالات إلى صراع وفي حالات أخرى إلى تعايش ومشاركة.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الفرق الإسلامية.. بين الجهل والحقائق التاريخية (1)