استدعت مخرجته «ميلا تورا جلك» أرشيفا مهجورا فى رحلة البحث المضنى عن المجد الذى كان قبل أن تضمحل الأدوار وتتفكك يوغوسلافيا بعد ثلاثين عاما من انعقاد قمة عدم الانحياز الأولى فى عاصمتها.
فى كل استدعاء للوثائق المصورة كادت أن تسأل: هل نسينا تاريخنا حين كانت بلجراد مركزا للعالم الثالث مطلع ستينيات القرن الماضى.. تتحدى القوى العظمى.. تلهم وتقرر؟
إذا ما طرحنا السؤال نفسه على الذاكرة الوطنية فى مصر، التى قادت مع يوغوسلافيا والهند حركة عدم الانحياز، وتحملت أكثر من غيرها مسئولية دعم وإسناد حركات التحرر الوطنى، فإن الإجابة لن تختلف كثيرا.. «نعم نسينا!».
إذا ما طرح على الذاكرة المعتلة سؤالا بديهيا: «من يستحق أن يوصف بالبطل الأول فى معركة تصفية الاستعمار، التى استدعت تأسيس حركة عدم الانحياز فى سنوات الحرب الباردة، فإن الإجابة التى يصعب أن ينازع فيها أحد.. «إنه جمال عبدالناصر».
بتعبير الزعيم الإفريقى «نيلسون مانديلا» فهو: «زعيم زعماء أفريقيا».
لم تكن مخرجة الفيلم الوثائقى قد ولدت عندما استضافت بلجراد لستة أيام القادة الكبار لحركة التحرر الوطنى ذلك المؤتمر التأسيسى، لكن قوة الحنين إلى سنوات المجد استدعت صورة «تيتو» إلى الذاكرة.
بالوثائق المصورة يروى الفيلم قصة ما جرى فى بلجراد، قبل وبعد، المؤتمر التأسيسى، كيف تدفقت المشاعر فى الشوارع وآلاف المواطنين يحاصرون مقر الاجتماع التاريخى، وأجهزة الراديو تنقل إليهم ما يحدث داخله، من مداخلات وكلمات لأبطال التحرر الوطنى فى العالم الثالث.
فى ذلك المؤتمر جرى الاعتراف لأول مرة بدولة الجزائر الحرة قبل أن تحصل على استقلالها.
كان ذلك تحديا لا يستهان به فى وقته وحينه.
مال الفيلم إلى فرضية رئيسية، لها أدلة وعليها شهود، أن الدور الذى لعبته بلجراد فى تأسيس وقيادة حركة عدم الانحياز وتحدى الغرب فى سنوات الحرب الباردة، بجوار القاهرة ونيودلهى، أحد دواعى تفكيك يوغوسلافيا وجرها إلى مستنقعات الدم.
إنه الانتقام بأثر رجعى من ذلك الدور التاريخى.
باليقين فإن خلل البنية الداخلية السبب الرئيسى لما جرى ليوغسلافيا السابقة من تمزقات واحترابات عرقية دامية، لكن فكرة الانتقام شبه مؤكدة ونالت قيادات ودولا أخرى على رأسها مصر.
لم يكد «عبدالناصر» يعود إلى القاهرة بعد الإنجاز التاريخى لقمة بلجراد حتى ضرب الانفصال الوحدة المصرية السورية فى نفس الشهر (سبتمبر/أيلول 1961). كانت تلك ضربة على العمود الفقرى لمشروع الوحدة العربية.
بعد شهور قليلة كانت ردة الفعل التاريخية مدوية بانتصار الثورة الجزائرية، التى حظت بدعم لا نهائى من «عبدالناصر» و«تيتو» وباقى زعماء حركة عدم الانحياز.
فى عام (1966) جرى التخلص من الزعيم الإندونيسى «أحمد سوكارنو»، أحد القادة الكبار فى حركة عدم الانحياز، بانقلاب عسكرى رعته الاستخبارات الأمريكية، وجرى تخلص مماثل من الزعيم الغانى «كوامى نكروما»، الذى ترجع إليه أكثر من غيره فكرة «الوحدة الأفريقية».
فى ذلك العام المنذر أبلغ وزير الخارجية الباكستانى «ذو الفقار على بوتو» الرئيس «عبدالناصر»: «أرجوك أن تعرف أنهم خارجون لاصطيادك يا سيدى».
كان التخلص من «عبدالناصر» على رأس الأولويات الأمريكية فى إدارة «ليندون جونسون».
كان الوصف الأمريكى لعملية (1967) دالا على أهدافها: «اصطياد الديك الرومى»، الذى يتيه بقيادته لحركات التحرر الوطنى وتصفية الاستعمار.
لم يكد «عبدالناصر» يعود إلى القاهرة بعد الإنجاز التاريخى لقمة بلجراد حتى ضرب الانفصال الوحدة المصرية السورية. كانت تلك ضربة على العمود الفقرى لمشروع الوحدة العربية. بعد شهور قليلة كانت ردة الفعل التاريخية مدوية بانتصار الثورة الجزائرية، التى حظت بدعم لا نهائى من «عبدالناصر» و«تيتو» وباقى زعماء حركة عدم الانحياز
بالمقام الأول فإن الهزيمة العسكرية تعود لأخطاء جوهرية فى بنية النظام الناصرى، لكن استبعاد فرضية الانتقام تجهيل بالتاريخ كما جرى فعلا.
بعد رحيل «عبدالناصر» اشتدت حملات الانتقام لتصفية إرثه التحررى والاجتماعى حتى الآن.
فى سنوات الصعود والمجد احتلت مصر مكانة دولية مؤثرة كأحد المراكز الفاعلة فى النظام الدولى، التى لا يمكن تجاهلها، وكانت قيادتها لحركة عدم الانحياز تعبيرا عن مدى نفوذها فى العالم الثالث.
الشعوب لا تعيش على التاريخ، لكنه قد يلهم فكرة الإرادة والقدرة على التغيير واكتساب المكانة.
وقد كان الانتقام من إرث «تيتو» مروعا، لكنه انتظر حتى رحيله فى (4) مايو/أيار (1980).
كان «تيتو» زعيما استثنائيا، شعبيته ما زالت ماثلة فى يوغوسلافيا السابقة رغم كل ما جرى لها وبها من احترابات أهلية مرعبة أنهت وجودها كدولة موحدة.
قاد المقاومة المسلحة ضد النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وحّد بلاده، انفصل عن الاتحاد السوفييتى ولم يقبل معونات من الغرب، أيّد الثورة الجزائرية بكل ما يملك من قوة ودعم الجيش المصرى أثناء حرب (1973) بمائة دبابة.
الفيلم أقرب إلى بحث فى أرشيف يضم آلاف التسجيلات الفيلمية التى تابعت حركة «تيتو» فى سنوات المجد.
اختير يوم واحد فى التاريخ لبناء الفيلم، ما جرى قبله وبعده.
إنه يوم إعلان حركة عدم الانحياز من بلجراد.
فكرة عدم الانحياز تعود إلى رئيس الوزراء الهندى «جواهر لال نهرو»، «عبدالناصر» أعطاها الديناميكية وعمقها الإفريقى، و«تيتو» أضفى عليها امتدادا أوروبيا له وزنه وتأثيره.
ربطت «عبدالناصر» و«تيتو» علاقة قوية وراسخة، كأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن طويل، كما يقول «ستيفان لابودوفيتش» المصور المفضل للزعيم اليوغوسلافى الراحل، الذى تابعه فى كل مكان ذهب إليه.
هو الراوى الرئيسى لقصة ما جرى، الآن يكاد يقترب عمره من التسعين، ذاكرته تسعفه، ومشاعره حاضرة فى الشرائط التى صورها بنفسه.
لم يكن محض مصور، إنه رجل صاحب حلم ومشروع، يعتقد فى صحة توجهات «تيتو» ويخلص لها.
أرسله «تيتو» لتصوير وتوثيق أعمال المقاومة المسلحة فى الجزائر، قضى فيها ثلاث سنوات، حتى يمكن استخدام المادة الفيلمية فى عرض قضية التحرير على العالم.
فى متحف الثورة الجزائرية قسم خاص لصور منسوبة إليه.
كان لافتا أن قدامى المجاهدين الجزائريين، الذين تحدثوا فى الفيلم الوثائقى، أشادوا بيوغوسلافيا ودورها ووصفوا فريق العمل بـ«اليوغوسلافى»، فيما المخرجة نفسها تقول صراحة: «أنا أفضل أن ينادينى الناس كيوغوسلافية لا كصربية».
بعض ما احتواه الفيلم من صور وتسجيلات لم يسبق لأحد فى مصر وعالمها العربى أن أطل عليها، أو وصل إلى علمه أنها محفوظة بأرشيف فى بلجراد.
بدت تغطية مصور «تيتو» لأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة مطلع الستينيات، التى حضرها «تيتو» و«عبدالناصر» و«نهرو» و«سوكارنو» و«نكروما» و«فيدل كاسترو» وبقية قادة التحرر الوطنى فريدة بصورها النادرة ولمساتها الإنسانية ومعانيها التاريخية.
على مائدة واحدة التأم قادة العالم الثالث فى نيويورك بمقر البعثة الأممية اليوغوسلافية.
بدا العالم كله منتبها لما يحدث، التاريخ يتغير، العالم الثالث ينهض، وحركات التحرير تملى كلمتها.
بذلت المخرجة مجهودا مضنيا حتى يكون ممكنا تركيب الأصوات على الصور.
فى بلجراد حاكم «عبدالناصر» الإرث الاستعمارى الذى بنى نهضته على نزح ثروات البلدان الأفريقية والأسيوية، وأشار «نكروما» إلى «إننا غالبية العالم» وسط تصفيق القادة الآخرين.
لماذا عقد ذلك الاجتماع التاريخى فى مقر البعثة اليوغوسلافية؟
كانت إجابة «بوديمير لونشار» آخر وزير خارجية يوغوسلافى بنصها ورسالتها إلى الذاكرة التى كادت أن تمحى: «تيتو أقدم القادة، الوحيد الذى حارب فى الحرب العالمية الثانية، ومكانة بلاده تخولها أن تحتضن الاجتماع، الذى استبق إعلان حركة عدم الانحياز من بلجراد فى العام التالى».
وثّق الفيلم لعنصرية مقيتة سادت الإعلام الغربى، الأمريكى والفرنسى على وجه الخصوص، فى تغطيته لذلك الاجتماع التاريخى حيث جرى التلاعب بصور «ستيفان لابودوفيتش» لوصف اجتماع قادة العالم الثالث بـ«حديقة الحيوانات»، و«عبدالناصر» نفسه بـ«المتعالى» و«المتغطرس».
بصورة أو أخرى فإن القادة الكبار الذين جلسوا يومها على مائدة اجتماع واحدة فى نيويورك جرت تصفيتهم واحدا إثر آخر.
إنها حرب معلنة امتدت فى الزمن حتى نكفر بفكرة التغيير والثورة ووحدة العالم الثالث وأية قيمة إنسانية استدعت ذات يوم تأسيس حركة عدم الانحياز، التى تحولت اليوم ــ بتعبير الفيلم الوثائقى ــ إلى «بيت أيتام»، غير أن المعانى الكبرى لا تموت والقيم الإنسانية لا تنمحى وذكرى الرجال الكبار لا تغادر المكان مهما امتدت الحرب على الذاكرة الوطنية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“