روسيا البوتينية وحلم العودة.. قوة عظمى

أجاب الكرملين مؤخراً على سؤال ظل يُلّح طيلة سنوات غير قليلة. السؤال يتعلق أساساً بكلمات قليلة سجّلتها أقلام عديد المؤرخين وتعديلات غير طفيفة أدخلها علماء السياسة على خرائط توزيع القوة والنفوذ في القارة الأوروبية.

إنهزمت روسيا هزيمة مدوية عندما انفرطت إمبراطوريتها المسماة الإتحاد السوفييتي بدون إطلاق رصاصة واحدة. تقلّصت المساحات وكانت شاسعة ولكن ـ وهو الأهم، في رأيي أنا وآخرين ـ سقطت نُخبتها الحاكمة، ومع سقوطها تبعثرت الأيديولوجية التي بررت القوة الفائقة والإمبراطورية الشاسعة. تفكّك الحزب اللينيني، إختفت زعاماته وتشتّتت لجانه ومكاتبه ومنظمات شبابه ونسائه. بِيعت بقروش زهيدة أهم أصول الإمبراطورية في الخارج والدولة في الداخل فأثرى من أثرى ثراءً فاحشاً وتكالب على موسكو أهم خبراء الرأسمالية لتفكيك الإقتصاد الإشتراكي. بعد قليل خرج من تحت عباءة أجهزة الدولة من عرف كيف يستفيد من ظروف الإنتقال غير العنيف نسبياً ويستفيد من قوة الكنيسة وشعبيتها ليعيد إلى الحياة الكيان الروسي القديم.

***

عشت سنوات أراقب تطورات الحكم في روسيا وأساليب الكرملين في التعامل مع العالم الخارجي. قابلتُ عدداً غير قليل من رجال السياسة والمفكرين ومن صناع الرأي في عالمنا العربي لم يخفوا قناعتهم بأن فرداً يقف وراء كل إنجاز عظيم في مرحلة أو أخرى من مراحل صعود الأمم. يعتقدون أن وراء كل ثورة يقف فرد، ووراء التوسع الإمبراطوري فرد، ووراء الثورة الدينية في أي مكان وزمان فرد، ووراء كل نصر عسكري فرد، ووراء كل عقيدة سياسية يقف فرد. إختلفنا واتفقنا حول موقع القوى الإجتماعية التي ساهمت مع هذا الفرد أو ذاك  في صنع الإنجاز، هل كانت تقف وراءه تدفعه ليظهر ويقود أم لحقت به بعد أن ظهر وتمكن واختارها ليعتمد عليها فدفعته لينجز. ظل هناك على كل حال من يعتقد أن هذا الفرد لا بد وأن يكون ثمرة ظروف معينة وليس نبتاً في أرض بور.

بهذا المعنى، لم يأتِ الرئيس فلاديمير بوتين من فراغ. ظهر، وكان في داخلها، عندما بدأت أركان النظام السوفييتي تكشف عن ضعفها وعن استحالة أن تستمر في تحمل مسئولية هذا العبء الثقيل، عبء فساد حزب وترهل قادة ولا مبالاة شعب وخسائر دولة دخلت سباق تسلح وهي غير مؤهلة له، عبء عقيدة رفض دعاتها تجديدها  حتى عندما إرتفعت أصوات التجديد في الأحزاب الشيوعية في إيطاليا وفرنسا وغيرهما.

***

ذات صباح يوم قريب جداً استيقظت لأسمع مع آخرين أذهلهم كما أذهلني نبأ إطلاق روسيا لصاروخ بعيد المدى، أو هكذا فهمت، نحو الفضاء ليقصف قمراً إصطناعياً بعينه فيفتته إلى جزيئات شكلت سحابة سرعان ما تناثرت رماداً أو رذاذاً. أمريكا إتهمت روسيا بتهديد سلامة رواد وعلماء الفضاء متعددي الجنسيات المقيمين في محطة فضاء أو أخرى. من ناحيتي، قدّرت خيبة أمل الشركات الخاصة التي أعلنت عن نشأتها مؤخراً بنية تنظيم رحلات تنقل السياح  في جولات بالفضاء. الأهم في نظري هو ما لم يعلن في كل من عاصمتي الولايات المتحدة والصين، وربما لن يعلن. يقف وراء إهتمامي نتف مما تحويه ذاكرتي و”خزنة” أحفظ فيها بعض ما تعلّمت وقرأت عن الحرب العالمية الثانية وظروف نشأة نظام القطبين.

نعرف الآن أن السباق في أوروبا على تحرير القارة من الإحتلال النازي منح الولايات المتحدة والإتحاد السوفييتي شرعية تسمح للأولى، أي لأمريكا، بأن تحتل مكانة “الأول بين متساويين” على قمة النظام الدولي، ولكننا نعرف أيضاً أن تجربة تفجير قنبلة نووية في ألامو جوردو بولاية نيو مكسيكو في 16 يوليو/تموز من عام 1945 ثم إلقاء قنبلتين على هيروشيما وناجازاكي في 6 أغسطس/آب و9 أغسطس/آب من العام نفسه، أكدت جميعها مكانة أمريكا على قمة النظام الدولي وأحقيتها في وضع القواعد اللازمة لضبط السلوكيات كما تراها متسقة مع ثقافتها ومصالحها طويلة الأمد ولتثبيت الهيمنة الأمريكية. مرت سنوات أربع قبل أن يُجرّب الإتحاد السوفييتي قنبلته في 29 أغسطس/آب عام 1949. أعرف أنه في هذا التاريخ أصبح الإتحاد السوفييتي في عرف علماء السياسة الدولية والمجتمع الدولي بصفة عامة قطبا دوليا كامل الأهلية في نظام ثنائي القطبية.

***

نعود إلى السؤال وهو “ماذا تريد روسيا البوتينية”؟ وبمعنى أدق ماذا يريد بوتين لروسيا أن تكون؟. هل يراها في أحلامه كما رآها القياصرة والزعماء الشيوعيون في أحلامهم وسياساتهم قوة بمعالم إمبراطورية؟. كلّهم جرّبوا، وكانت لهم إمبراطورياتهم. دفعت روسيا الثمن غالياً لتوسيع إمبراطوريتها وحمايتها. لم تكن حربها مع قوات نابليون أول الحروب ولا آخرها. بعدها دخلت في سلسلة من التحالفات الأوروبية وحرباً مع اليابان إنهزمت فيها شر هزيمة وحرباً عالمية أولى ثم إنعزال قصير الأمد يليه الإشتراك في حرب عالمية ثانية حماية لثورتها. كانت الحرب فرصة لتتوسع روسيا كما لم تتوسع من قبل.

وما الصاروخ الذي أطلقته موسكو لتدمر به قمراً اصطناعياً في فضاء الكون إلا خطوة سوف تليها خطوات تسعى لتأكيد حق روسيا في موقع على القمة. هكذا تحاول روسيا وتجازف بتكلفة باهظة لتكون طرفاً ثالثاً في المنافسة الإستراتيجية بين الصين وأمريكا

***

إقرأ على موقع 180  مستقبل العالم بيد أمريكا.. استحالة القيادة المنفردة!

أم أنه، وأقصد الرئيس بوتين، يريد، أو يريد أيضاً، أن تعود روسيا لتكون قوة عظمي، وعلى وجه الدقة لتصبح قوة عظمى ثالثة، في نظام جديد للقمة الدولية جاري صنعه أو صياغته، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية الصين الشعبية. بهذه الصياغة نعني بكل الوضوح الممكن أن الرئيس بوتين لا بد ويعلم حق العلم أن هناك فجوة واسعة تفصل بين القطبين الصيني والأمريكي من ناحية والاتحاد الروسي من ناحية أخرى. لا يكفي أن تصعد روسيا في المكانة الدولية مستفيدة من كبوات القطبين الآخرين. هي مثلاً تبدو مستفيدة من الخروج المشين لأمريكا من أفغانستان وهي الآن تسرّع خطوات خروج أمريكا من قواعدها الجوية في دول الجوار الروسي في شمال وسط آسيا. أمريكا فشلت في منع عودة التطرف الإسلامي إلى أفغانستان وإستمرار وجودها في دولة أو أكثر من دول الجوار لا يضمن عدم تكرار الفشل. من ناحية أخرى، تبقى جروح الطرفين الروسي والأفغاني غائرة منذ أيام حرب التحرير الأفغانية ضد القوات السوفييتية المحتلة. وبالتالي بينما يحق للصين الآن الحصول بسهولة على إمتيازات إستراتيجية في بلاد الأفغان لن يحق لروسيا الشيء نفسه قبل أمد طويل. من ناحية ثالثة، خرجت الهند من أفغانستان، كما خرجت أمريكا، خاسرة بينما إستمرت باكستان، حليفة الصين، مستفيدة لمدة أخرى قادمة. من ناحية رابعة، ولا مبالغة في القول، قد تصبح الهند بظروفها الراهنة عبئاً وربما عالة على حلفائها، وبخاصة روسيا تقليدياً وأمريكا حديثاً، ولصالح كل من الصين وباكستان.

***

لاحظنا خلال السنوات الأخيرة أن روسيا عادت تجرّب التوسع بالنفوذ في الشرق الأوسط منذ أن إتضحت لها في أيام الرئيس باراك أوباما نية الأمريكان الخروج من الشرق الأوسط. بعد سنوات تأكدت نية الخروج. تأكدت معها تعديلات في السياسات والتوجهات لا تقل أهمية. منها مثلاً أننا صرنا نعرف أن أمريكا لن تخرج تماماً من الشرق الأوسط وأن روسيا لن تدخل تماماً. أمريكا لن تخرج تماماً إذ وجد في داخلها وفي الشرق الأوسط من يُنبّهها إلى أن خروجها الكامل يعني انتقاصاً من مكانتها كقوة عظمى. وروسيا لن تدخل تماماً بمعنى أنها أصلاً لم تزمع التوسع في كافة أنحائه وفي قواعدها السابقة أفقياً أو رأسياً على الأقل في الأجل المنظور.

من التعديلات الهامة ما طرأ أو تم فرضه على الصراع العربي الإسرائيلي. إذ بالخروج الأمريكي، وإن غير الكامل أو الشامل، تسارعت خطوات التسوية بشروط إسرائيلية. لا تسمح المساحة المتاحة لهذا المقال بالتناول المطول للعلاقة بين الخروج الأمريكي من الشرق الأوسط وتسارع خطوات التسوية بشروط إسرائيلية، أو بالتعليق المفصل على العلاقة غير المباشرة بين نية الخروج الأمريكي وانهيار أو على الأقل إنحدار وتيرة وأفكار وسياسات العمل العربي المشترك. الواضح لنا تماماً أن حالة من التسيب أصابت ما تبقى من علاقات وفاق بين دول المنظومة العربية بالتصادف مع نية  أمريكا في الخروج. هنا يبدو لي أن نفوذ روسيا في الإقليم لم يتضرر كثيراً نتيجة  هذه التطورات الأخيرة وأهمها الزيادة المفاجئة والهائلة في النفوذ الإسرائيلي على صعيد الإقليم. يبدو لي أيضاً أن بين العرب، وبقية أمم الشرق الأوسط من أحس بانحدار قوة أمريكا والأفول المتدرج لنجمها في سماء الشرق الأوسط فراح يبتكر من السياسات الجريئة ما يعوّض به هذا التطور في موازين القوة الإقليمية.

***

أظن، وبعض الظن له دوافع، أننا نعيش في مرحلة فريدة من نوعها. إذ نرى قمة دولية جديدة تتشكل من تراكم أعمال تعاونية قامت بها الأطراف الثلاثة ثنائياً وأحيانا مجتمعة. كنا شهوداً على سنوات عديدة لعب الطرفان الصيني والأمريكي أدواراً أمتعت عديد الأكاديميين المتخصصين، سنوات قدّمت نموذجاً في “التكامل” الإقتصادي بين قوة تصعد، وهي الصين، وقوة تنحدر، وهي الولايات المتحدة. على الناحية الأخرى، قدّمت العلاقة بين أمريكا في عهد دونالد ترامب وروسيا نموذجاً لا يختلف عن النموذج الذي سبق أن قدمته العلاقة بين الصين وأمريكا في مراحلها التأسيسية وقبل أن تنطلق المنافسة الإستراتيجية في صورتها العدوانية. تغيّر الكثير على كل حال سواء نتيجة التخبط السياسي في أمريكا الذي صاحب نهاية عهد ترامب أو نتيجة تسارع الإنحدار الأمريكي الذي صاحب بدايات عهد جو بايدن. بعض هذا التغير يدفع الآن كلاً من روسيا والصين إلى حرص زائد وبذل جهد خاص لتأكيد أحقيتهما في موقع على القمة. وما الصاروخ الذي أطلقته موسكو لتدمر به قمراً اصطناعياً في فضاء الكون إلا خطوة سوف تليها خطوات تسعى لتأكيد حق روسيا في موقع على القمة. هكذا تحاول روسيا وتجازف بتكلفة باهظة لتكون طرفاً ثالثاً في المنافسة الإستراتيجية بين الصين وأمريكا.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  "بروجيكت سانديكيت": روسيا تدفع ثمن إعمار أوكرانيا!