لا يمكن العيش سوية في إطار الدولة اللبنانية الحالية طالما أن الأمور تُدار كما نرى. الإدارة الراهنة، ومنذ تسع سنوات، هي ما يقود الى التقسيم، بالأحرى اهتراء، ليصير البلد هباءً منثوراً، أو يقود الى حرب أهلية. وهي ستكون من طرف واحد، لأن الأفرقاء الآخرين ليس لديهم العديد والعتاد أو أن الواقع يقود الى قمع شديد يُمارسه فريق يملك أسباب القوة والنية.
استحالة العيش سوية يُعبر عنها هذا السيل الجارف من الكره والبغض الذي يتبادله اللبنانيون بواسطة وسائل “التواصل” الاجتماعي. يبدو أن ما يضمره اللبنانيون من مشاعر تجاه بعضهم أسوأ بكثير مما يعلنون. على كل حال ملكة التهذيب مفقودة عندنا. احتقار اللبنانيين للطبقة السياسية، دون استثناء، هو كما يكره المريض داء السرطان عندما يصيبه. العنصرية لا تطال الطوائف الأخرى، بل طائفة صاحب الخطاب. بُغضُ الذات أصبح شائعاً. كيف يعيش الناس سوية إذا كان الواحد منا لا يطيق نفسه؟
انتخب اللبنانيون النواب في كل الأقضية بكل انتظام. لا يستطيع النواب المنتخبين أن يقترعوا بدورهم لانتخاب رئيس الجمهورية. باسم التوافق يمنع فريق فائض القوة وجود الموالاة والمعارضة، حتى ولو أدى ذلك الى أكثرية. من يُتفق عليه سلفاً، بالرضا أو بالعنف، والذي يرضى به أساساً حزب الله، ولا يرضى بغيره، هو من سينتج عن التوافق الذي يتبع “الحوار”. وهو الذي سيكون رئيساً بخضوع الجميع. إخضاع الأكثرية جزء من هذه العملية. وضع حزب الله مواصفات الرئيس المقبول وعلى الآخرين الانصياع. ما يبدو عجزاً عن الانتخاب هو منع منه بكل لياقة. وليت حزب الله يقرر من يريد رئيساً.
الخلاف على الرئيس هو خلاف على السلطة، واختلاف حول طبيعة النظام، وفي النهاية حول الدولة: هل تكون أو لا تكون؟
الدولة هي الإطار الناظم للمجتمع. لا توضع عليها شروط. هي شرط لما عداها. دونها يتحول المجتمع الى كيان فاشل. وقد رأينا ذلك في جميع الجوانب السياسية والاجتماعية والبنى التحتية، وفي كل شيء. حتى الأوراق الرسمية في دوائر النظام مفقودة.
إذا لم نسمّه مجتمعاً فاشلاً في ظل دولة معدومة، فإنه قد تذرر تذرراً شبه كامل. كل حي، بل كل بناية تشكل جمهورية قائمة بذاتها أمنياً، وفيما يتعلّق بالخدمات الضرورية كالماء والكهرباء. كما لا يستطيع اللبنانيون العيش سوية في دولة فاشلة، فهم لا يستطيعون ذلك في مجتمع فاشل. المبادرات المحلية هنا وهناك تعني ذلك.
يعرف اللبنانيون كيف يعيشون سوية بالرغم من، بل بسبب، تعدديتهم الطائفية وغيرها. كل المجتمعات في العالم تعددية. نستطيع العيش سوية وتنتظم حياة الناس في دولة، ذات نظام موحد، إن كان ذلك لناحية امتلاك القوة واحتكارها ومنع تعدد مراكز القوة. نظام فيه موالاة وفيه معارضة، وفيه حوار علني يخرج المضمر الى العلن. يعرف اللبنانيون عن بعضهم الكثير فلا لزوم للمضمرات. المجتمع المفتوح هو المجتمع الديموقراطي الوحيد الممكن. بل هو الممكن الوحيد إذا أريد له الاستمرار بمواصفات تضمن الحريات الفردية وجهاز للنظام يدير المجتمع، بمعنى يؤمن الخدمات من البنى التحتية الى الحاجات الاجتماعية. مجتمع مفتوح تكون فيه الدولة واحدة والمواطن مشاركاً. نحن الآن لسنا دولة مواطنين بل شبه فيدرالية تتشكّل من جماعات هي تجمعات رعايا تذعن ولا تشارك. قال السجين أحد أقرباء ضحايا المرفأ “بلطوا البحر”. الحقيقة أن أصحاب فائض القوة هم من يقولون للمجتمع اللبناني “بلطوا البحر”. منذ تسع سنوات أغلقوا مجلس النواب حتى رضخ الجميع لانتخاب رئيس بعينه. تتكرر التجربة اليوم.
مكتوب على اللبنانيين أن يعيشوا سوية داخل الحدود التي رسمت لهم. وذلك لا يكون إلا بالدولة دون دولة موازية، وبالسياسة إذا كانت مفتوحة الأفق، أولويتها إدارة شؤون المجتمع لا مجرد التسلق من أهل السلطة. سيكون صعباً، بل مستحيلاً، تغيير الحدود. ومن ساورته نفسه بذلك يئس. نعيش سوية ولو على مضض
العيش سوية هو في إطار الدولة، لا النظام وحسب، وضمن القانون لا العشوائية التي نراها في نظام لا يصل أحد الى حقه، ولو معاملة بسيطة، إلا بواسطة أحد أكباش الطوائف. والدولة دستور وقوانين ومجتمع يعيش حسب القانون، فيعرف ما له وما عليه، ويستطيع أن يتعاطى أبناؤه في ما بينهم بسوية. السوية لا تكون إلا بالسياسة، وهي أن يشارك الناس في القرارات التي تتخذها الدولة، وأن يتحاوروا حول هذه القرارات، وأن يكون التهذيب والانضباط أسلوبهم، وأن ينسوا آلام الحروب الأهلية، ويتحوّل الأعداء الذين كانوا يتقاتلون منذ زمن الى خصوم في السياسة، وأن تكون السياسة علاقات أفقية بين مواطنين، لا علاقات عمودية بين أكباش طوائف ووجهاء همهم ممارسة الزعامة والسلطة على الآخرين.
في السياسة الأفقية احترام متبادل، وفي السياسة العمودية احتقار الأكباش والوجهاء لاتباعهم. والسياسة أيضاً تكون بتراكم التسويات، وليس بأن كل من يأتي للسلطة يدين من قبله ويبدأ من جديد. فكأن كل ما سبق فساد وخطايا، وكأن القادمين الجدد ملائكة لا همّ لهم إلا العدل وحسن التأتي. على أهل السياسة في لبنان التخلي عن الدون كيشوتية من ناحية، وعن هدم ما سبق من ناحية أخرى لأنه بنظرهم لا يستحق الوجود. والتراكم بالسياسة يتلازم مع التراكم في الاقتصاد والبنى التحتية. أحد أشكال الهدم هو التعمية حول ما يحصل في قطاع الكهرباء. لولا المضمر الذي بات يعرفه كل الناس، لما كانت الكهرباء هذه حالها. ينعدم التراكم عندما يهدم كل عهد ما قبله ليبدأ من جديد. لا ضير في مسؤولين يعلنون أنهم جاؤوا لتنفيذ أو استكمال خطط من سبقهم. يكون الإصلاح بالبناء على ما سبق لا بالعودة الى نقطة الصفر في كل عهد. والإصلاح عملية دائمة، ولا يكون بضربة واحدة ندخل بعدها باب النعيم.
يمكن العيش سوية إذا انفتحت كل الجماعات المغلقة لتشكّل مجتمعاً مفتوحاً يحسن التواصل بين أجزائه، ويعلن ما يريد ويستمع للآخرين ويأخذ آراءهم بجدية. لا نعيش سوية إذا كنا جماعات مغلقة تنكر على الآخرين أن يكون لهم أسلوب عيش مختلف. نحن نعيش في مجتمع تعددي. ليس المجتمع المفتوح أن يكون الجميع متشابهين في أسلوب عيشهم بل في أن يقبل كل فريق أسلوب عيش الآخرين على اختلافه. لا يكون الأمر كما قال الشاعر:
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعض/ وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما
من الواجب محاربة جميع أنواع الفساد. لكن علينا أن نتذكر أن الفساد أنواع. أسوأ أنواع الفساد هو التعطيل كما يحدث لعدد من مرافق البنى التحتية. وما يشل البلد ويؤدي به الى الانهيار هو فساد الكبار من أهل السياسة، وهؤلاء يجب عدم التسامح معهم. وهم ليسوا فوق القانون.
مكتوب على اللبنانيين أن يعيشوا سوية داخل الحدود التي رسمت لهم. وذلك لا يكون إلا بالدولة دون دولة موازية، وبالسياسة إذا كانت مفتوحة الأفق، أولويتها إدارة شؤون المجتمع لا مجرد التسلق من أهل السلطة. سيكون صعباً، بل مستحيلاً، تغيير الحدود. ومن ساورته نفسه بذلك يئس. نعيش سوية ولو على مضض.