عرف لبنان في حقباته المتعددة حروباً وإجتياحات وأزمات متتالية، ودائماً كانت تبرز إلى الواجهة جهات تتحول إلى “متعهدة لمصائب اللبنانيين”، وبدل السعي في الأزمات إلى التخفيف عن كاهل المواطنين، يحصل العكس من خلال جني المال الحرام وإستغلال حاجة الفقراء إلى تأمين أبسط مقومات الاستمرار بالحد الادنى من العيش الكريم، وهي الحال في يومنا الحاضر، حيث بلغ الانهيار المالي والاقتصادي والسياسي مستويات غير مسبوقة في تاريخ لبنان الحديث، بات يُخشى معها تحوله إلى فوضى مجتمعية تُعرّض الاستقرار الأمني والسلم الأهلي للخطر.
ظنّ اللبنانيون أن الانتهاء من ترسيم الحدود البحرية الجنوبية مع فلسطين المحتلة، سيكون المفتاح السحري لكل أزماتهم، وأن الخارج ـ الشقيق منه أو الصديق ـ سيُخفّف تدريجياً من عملية الخنق التي قيل إنها تستهدف جهة بعينها، أي حزب الله وبيئته الحاضنة، ليتبين أنها أوقعت لبنان كله في حفرة بلا قعر، وكأن المطلوب هو الوصول إلى الإنهيار الشامل بحيث يرفع اللبنانيون الراية البيضاء، ليتقدم من بيدهم المقدرات والقدرات لإعادة البناء وفق أسس جديدة، خصوصاً أن هذا الخارج يعرف أن الطبقة السياسية بكل مكوناتها ومسمياتها غارقة الى ما فوق رأسها في الفساد، ومعتادة على تضييع الفرص التي لو اقتنص الكثير منها لكانت الأحوال تغيّرت إلى غير ما نحن عليه اليوم.
وبعيداً عن الاشتباك السياسي المفتوح وتوزيع المسؤوليات، إلا أن الثابت هو عجز كل الطبقة السياسية عن تحمل مسؤولياتها لجهة وضع حد لهذا الانهيار المريع، بدليل أن لبنان تحول نقدياً إلى رهينة بقبضة عصابة مؤلفة من أربعة عشر رأساً يديرون أربع عشرة منصة مضاربة تتحكم بأعصاب اللبنانيين وترفع سعر صرف الدولار وتُخفّضه ساعة تشاء في عملية مقامرة مكشوفة، غير عابئة بمؤسسات الدولة القضائية والأمنية.
إن ما يشهده لبنان منذ العام 2019 من فوضى عارمة، والذي كان يتباهى بقدراته المميزة في قطاعات متنوعة على رأسها المصارف، حوّله من نظام اقتصادي الى نظام نقدي، بحيث صار النقد يتحكم بالاقتصاد، وصار كل مواطن صرّاف يمضي يومياته بتتبع التطبيقات والغروبات لمعرفة كيفية تحصيل بضع ليرات أو دولارات يومياً!
المسؤولية في وضع حد لاستحواذ هؤلاء على القرار في سعر صرف الدولار، هي مسؤولية قضائية وأمنية، لا سيما بعد أن صدرت استنابة قضائية عن مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات تتضمن أسماء الأربعة عشر مضارباً، وهذه الإستنابة باتت بعهدة المدعي العام المالي، والمطلوب الافراج عنها عبر تحويلها إلى الأجهزة الأمنية حتى تباشر بتوقيفهم
هذا الانسداد السياسي رئاسياً وهذا الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي يُشكلا مصدر خوف متعاظم عند مجموع اللبنانيين، بدليل ما نشهده يومياً من فصول إرتفاع سعر صرف الدولار الذي صار يطلع وينزل بمستويات كبيرة (عشرة آلاف في اليوم الواحد مثلاً)، ومع هذا الارتفاع القياسي في سعر صرف الدولار والانهيار الدراماتيكي للقيمة الاقتصادية لليرة اللبنانية، يتبيّن أن المقامرين بأعصاب ومعيشة اللبنانيين هم أربعة عشر شخصاً يُدمّرون راهناً الاقتصاد والنقد الوطني باعتراف جهات رسمية لبنانية.
في لبنان سوقان للصيرفة؛ السوق الفوري وهو الذي تتم فيه عمليات البيع والشراء وفق العرض والطلب، وهذا هو السوق الطبيعي التقليدي، وهناك سوق الكشف الذي تتم فيه عملية المقامرة من خلال حجز مبالغ ضخمة بالدولار الاميركي على منصات محددة ولفترات زمنية مختلفة، والفرق هو بين الصرافين (الشرعيين وغير الشرعيين) وبين المضاربين، لان من يتلاعب بالسوق هم فئة المضاربين، وبالتالي ليست الازمة بوجود الصرّافين الذين يعملون على قاعدة العرض والطلب تحت سقف ما يسمى “الاقتصاد الحر”، انما الازمة تكمن في المضاربين الذين يزيدون سعر الصرف ويتحكمون بالسعر لفترات متباعدة، مما يجعل التدخل لخفض السعر أمراً صعباً للغاية.
وحسب جهات نقدية ومصرفية، فإن أخطر منصتين هما منصتا “سوق العاصمة” و”البينغو” اللتين تشتركان في منصات أخرى عبر “غروبات” تضم كل الصرافين الشرعيين وغير الشرعيين، وهدفهما أن يبقى سعر صرف الدولار مرتفعاً، وهاتان المنصتان تشتريان الدولار من السوق بسعر منخفض عندما يتدخل مصرف لبنان لضبط الأسواق ومن ثم تبدآن المضاربة عبر البيع بسعر مرتفع يُحدّده القيّمون على المنصتين فيحققون أرباحاً خيالية، وهم يعتمدون أسلوباً ترهيبياً لتكبير حالة الوهم والقلق لدى الناس، ويعمدون أيضاً إلى إشاعة أرقام لسعر الصرف على مجموع “الغروبات” ويذهبون في هذه العملية إلى أبعد حد ممكن، مما يدفع من يمتلكون مبالغ محدودة من الدولار للمسارعة إلى بيعها.
هؤلاء يستفيدون بشكل أساسي من حالة عدم الاستقرار السياسي والإقتصادي والنقدي والمالي للدفع باتجاه رفع سعر صرف الدولار ومراكمة الأرباح على حساب المواطنين، علماً أن أسماء هؤلاء المضاربين معروفة لدى الأجهزة المعنية، وتم توقيف البعض منهم وأُخضعوا للتحقيق ولكن القضاء المختص أخلى سبيلهم.
باختصار، المسؤولية في وضع حد لاستحواذ هؤلاء على القرار في سعر صرف الدولار، هي مسؤولية قضائية وأمنية، لا سيما بعد أن صدرت استنابة قضائية عن مدعي عام التمييز القاضي غسان عويدات تتضمن أسماء الأربعة عشر مضارباً، وهذه الإستنابة باتت بعهدة المدعي العام المالي، والمطلوب الافراج عنها عبر تحويلها إلى الأجهزة الأمنية حتى تباشر بتوقيف هؤلاء المعروفين بالأسماء وأماكن الإقامة والمكاتب التي يديرون منها عملية المضاربة، حتى يتم جلبهم إلى القضاء لإنزال العقوبة المناسبة بحقهم.