هل اخترع الفينيقيون الوطن والوطنية؟ 

في قراءة متجددة لكتاب "نشوء الأمم" للمفكر انطون سعادة مؤسس "الحزب السوري القومي الإجتماعي"، يتوقف القارىء ممعناً بقول سعادة "إن الكنعانيين من بين جميع شعوب التاريخ القديم، كانوا أول شعب تمشى على قاعدة محبة الوطن والإرتباط الإجتماعي وفاقا للوجدان القومي وللشعور بوحدة الحياة ووحدة المصير". 

يتقدم الفيلسوف اليوناني أفلاطون (427 ـ 347 ق .م) على سواه من الفلاسفة والمفكرين السياسيين القدماء والمحدثين الذين تناولوا أصول الفكرة الوطنية وإرجاع جذورها إلى شعب من الشعوب القديمة، كان ثمة (وما تزال) معالجات ونظريات حول فكرة السلطة أو الدولة، وهي التي أتخمها اليونانيون بحثاً وتنظيراً، وسار اللاحقون على أنساقهم الفكرية متخذين من كتاب “الجمهورية” لأفلاطون نموذجاً ارتكازياً لمفهوم الدولة كنسق فكري ـ فلسفي متكامل.

وربما قلة من قارئي كتاب “الجمهورية” للفيلسوف أفلاطون ـ ومن بينهم أنطون سعادة ـ توقفت ودققت بقول أفلاطون بأن الفكرة الوطنية من ابتكارات الفينيقيين، وعلى هذا النحو يكون أفلاطون أول من قال إن مفهوم الوطن والهوية الوطنية من إبداعات الجماعة الفينيقية كما كانت الحال مع حروف الأبجدية التي ابتكرها الفينيقيون وعملوا على نشرها في اليونان والعالم القديم مثلما قال مواطنه المؤرخ هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد.

في القسم الأخير من الجزء الأول (طبعة دمشق ـ 1951) من “نشوء الأمم” يقول أنطون سعادة “ما دمنا قد بلغنا حد الوجدان القومي الذي هو من أبرز الظواهر الإجتماعية العامة العصرية، فقد بلغنا هذا الدين الإجتماعي الخصوصي الذي أعطى الكنعانيون فكرته الأساسية للعالم ونُعت في بعض الظروف بالخديعة الكنعانية أو الإثم الكنعاني، ومن الهام جدا للعلم الإجتماعي أن نستقصي سبب نسبة الرابطة القومية المؤسسة على فكرة الوطن إلى الكنعانيين”.

وأمام ذلك تتجلى فكرتان، فكرة نظرية عنوانها “الخديعة الكنعانية”، وأخرى عملية وجدت تطبيقاتها على الواقع التاريخي في سواحل لبنان بصورة أساسية ونظيراتها السورية والفلسطينية، وعلى ذلك يقول سعادة:

“أنشأ الفينيقيون الكنعانيون الدولة المدنية، فكانت طرازاً جرى عليه الإغريق والرومان، ومع ما نشأ عندهم ـ الفينيقيون ـ من دول، فإنهم لم يتحاربوا وظلوا محافظين على صفة الشعب الواحد، وكانت زعامة فينيقيا تنتقل من مدينة إلى مدينة، من دولة إلى دولة بعامل التقدم والكبر وازدياد المصالح والنفوذ كإنتقال الزعامة من مدينة صيدا إلى مدينة صور، وباكرا أسّس الفينيقيون الملكية الإنتخابية فسبقوا كل الشعوب والدول التاريخية إلى تأسيس الدولة الديموقراطية، وما الدولة الديموقراطية سوى دولة الشعب ودولة الأمة، هي الدولة القومية المنبثقة عن إرادة المجتمع الشاعر بوجوده وكيانه، ومع أن الفينيقين أنشأوا الأمبراطورية البحرية، فإن انتشارهم كان انتشاراً قومياً بإنشاء جاليات استعمارية تظل مرتبطة بالأرض الأم، كان انتشارهم انتشار قوم أكثر منه اتساع دولة”.

ذاك ما يقوله أنطون سعادة عن ابتكار الفينيقيين للفكرة الوطنية، وهي الفكرة التي استلهمها من الفصل الثالث من كتاب “الجمهورية” لأفلاطون، وهذا يقتضي بطبيعة الحال العودة إلى “الجمهورية” وما يقوله أفلاطون عن “الخديعة الكنعانية” أو “الخديعة الفينيقية”، وتفرض ضرورات الكتابة الإطلاع على ثلاث تعريبات لـ”الجمهورية” الأولى للسوري حنا خباز (1929) والثانية للبناني شوقي داوود تمراز (1994) والثالثة للمصري فؤاد زكريا ( 2004).

في سعيه لتكوين دولة وشعب يتحدث أفلاطون (حنا خباز) أولاً عن كيفية بناء طبقة الحُكام والمساعين بلسان أستاذه سقراط “يجب أن ننشد أفضل الحُكّام ذوي الإقتناع الداخلي بأنهم يجب أن يفعلوا ما يحسبونه أفضل لمصلحة الدولة، فمن غلب هواه عوامل ضلاله، إياه نختار للحُكم، ومن لم يكن كذلك نبذناه، وهكذا نمتحن الشُبّان بالمروعات ثم بالمسرّات، ومن جاز الإمتحان المرة بعد المرة نختاره حاكماً ومديراً ويجب إكرامه في حياته ومماته، وتسمية هؤلاء بالحاكمين الكاملين لإتصافهم بالعناية والسهر حتى لا يريد أصحابهم في الوطن ولا يقدر أعداؤهم في الخارج أن يحدثوا أدنى ضرر بالدولة، والشُبّان الذين دعوناهم حكاما نسميهم مساعدين وظيفتهم إنفاذ قرارات الحُكّام”.

كيف يمكن إقناع طبقة الحاكمين والمساعدين ومعهم فئات العامة وتربيتهم ضمن منهج واحد يهدف إلى إيجاد رابطة وطنية وروحية جامعة بينهم؟ هنا يقول أفلاطون:

“نختلق وسيلة حكيمة، قصة فينيقية تداولتها ألسنة الشعراء، والناس موقنون بصحتها، نقدر أن نجعلها خبرية موثوقا بصحتها، إقناع الحُكّام أولا ثم إقناع الجنود وبعدهم سائر الأمة ـ ونقول لهم ـ إن كل ما أمليناه عليهم لتهذيبهم حدث كأمر واقعي، وهُذبوا وثُقفوا في جوف الأرض حيث طبعوا أسلحتهم وأدواتهم وكمُل تهذيبهم وحينذلك ولدتهم أمهم الأرض، أي أنها قذفت بهم إلى سطحها، فيجب أن يهتموا بالمنطقة التي هم فيها فيصدون عنها الغزاة ويحسبون سكانها أخوتهم، وسنخبر شعبنا في لغة ميثولوجية كلكم أخوان في الوطنية”.

أرسطو: “كان لقرطاجة دستور حسن، أوفى من دساتير الدول الأخرى في كثير من النقط، القرطاجيون على الخصوص لهم أنظمة فاضلة، والذي يُثبت حكمة دستورهم هو انه على رغم ما خولت الأمة من نصيب في الحُكم، لم يُرَ البتة في قرطاجة تغيُر في الحُكم ولم يكن بها لا ثورة ولا طاغية، وذلك شيء حقيق بلفت النظر”

ما “القصة الفينيقية” التي تحدث عنها أفلاطون واتخذها أصلا وجذرا لتكوين الهوية الوطنية؟

في نسخة فؤاد زكريا “من الجائز أن أفلاطون يشير إلى أسطورة قدموس الذي قتل أفعوانا ثم غرس أسنانه في الطين، فخرج رجال مسلحون، ولكن هؤلاء تقاتلوا حتى لم يبق منهم إلا خمسة أسّس قدموس معهم مدينة طيبة”، ودلالة ذلك أن التعاون الذي انتهجه قدموس وأصحابه قد أنتج بينهم مشاعر وروابط موحدة افضت إلى بناء مدينة طيبة اليونانية وإعمارها والحفاظ عليها والدفاع عنها، ووردت آراء أفلاطون ـ سقراط في تعريب فؤاد زكريا كما يلي: “كيف نتصرف بحيث نجعل الحكام أنفسهم ثم بقية المواطنين إن استطعنا، يصدقون أكذوية مفيدة”؟

إقرأ على موقع 180  الغاز "أفخم" من رئاسة الجمهورية!

يسأل أفلاطون ويستفهم محاوره “أية أكذوبة تعني”؟ فيجيب أفلاطون ناقلا عن سقراط:

“لا تنتظر مني أن أروي لك شيئاً جديداً، فتلك قصة فينيقية، تروي أمراً يقول الشعراء انه حدث في مناطق كثيرة من العالم، سأحاول أن أقنع الحكام ذاتهم والجنود أولا ثم بقية المواطنين، أنهم في الواقع لم يُعلموا ولم يربوا إلا في باطن الأرض هم وكل أسلحتهم وعتادهم ـ كرجال قدموس ـ وأن أمهم الأرض بعد أن صاغتهم وكونتهم قد بعثت بهم إلى النور، وأن عليهم أن ينظروا إلى الأرض التي يسكنونها وكأنها أمهم ومربيتهم، وأن يذودوا عنها إذا هاجمها أحد، ويعدوا بقية المواطنين أخوة خرجوا من بطن الأرض نفسها”.  

القصة ذاتها جاءت في تعريب شوقي داوود تمراز على هذا الشكل:

ـ سقراط: “كيف سنستنبط تلك الأباطيل الضرورية كالكذبة الملكية التي بإمكانها خداع الحكام إذا كان ممكنا، وخداع بقية أهل المدينة”؟

ـ كلوكون: “وأي نوع من الكذبة”؟.

ـ سقراط: “لا شي جديداً، إنها قصة فينيقية كتلك التي حدثت غالبا في أماكن أخرى كما يقول الشعراء وقد جعلوا العالم يصدقهم”.

ـ كلوكون: “تكلم ولا تخف”.

ـ سقراط: “سأتكلم، ولا أعرف بأية كلمات سأروي القصص الخيالية والتي اقترح أن تتصل بالحكام أولاً وبالجنود بعدئذ وبالشعب أخيراً، سنخبرهم ان التعليم والتدريب الذين تظاهروا أنهم تلقوه منّا في شبابهم لم يكن إلا حلما، غير أنهم كانوا خلال ذلك الزمن مكيفين مقتاتين من رحم الأرض، في المكان الذي صنعوا فيه أنفسهم وسلاحهم ومرافقيهم، وعندما اكتملوا، فالأرض أمهم أرسلتهم عاليا، وهكذا تعهدوا بالعمل لخير بلادهم والدفاع عنها، كونها ـ الأرض ـ أمهم ومربيتهم، وأن يعتبروا المواطنين الآخرين أخوة لهم و كأطفال الأرض”. 

لا يشرح أفلاطون في “الجمهورية” تفاصيل “القصة الفينيقية” ولكن في كتابه “القوانين” الذي نقله إلى العربية محمد حسن ظاظا يتناولها بالقول:

“هذه الأسطورة البالغة المحال والخاصة برجل صيدون، قدموس، الذي قتل التنين، فنشأ من زرع أسنانه في الأرض سكان طيبة الأوئل، أكان من السهل إقناع أي إنسان بذلك؟ إنهم يقولون ما أن زُرعت الأسنان في الأرض حتى انبجس منها رجال مسلحون، ومع ذلك في المثال دليل مفعم يصدم المشروع، يقول إن العقل الشاب يمكن أن يقتنع بأي شيء إذا ما احتمل أحد عناء إقناعه، وإنه يحتاج فقط إلى أن يدفع ضريبة تقدير اختراعه حق قدره، ليكشف أي إقناع هو أفيد للمدينة، ثم يجرب كل أساليب الحيل ليتأكد أن مثل هذه الجماعة ستتفاعل مع الموضوع بنغمة واحدة لا تتغير مدى الحياة”.

بين الشاعر اللبناني أحمد فرحات وكبير أدباء العالم الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس (1899 – 1986) دار هذا الحوار في مدينة باريس عام 1981 ونشرته مؤسسة “الفكر العربي” في الثلاثين من نيسان/إبريل 2021:

ـ فرحات: “هل سبق وقرأتَ للشاعر الفينيقي ملياغر”؟ 

ـ بورخيس: “سمعتُ به من بعض الشعراء والنقّاد في اليونان وإيطاليا وكذلك هنا في باريس، لكنني لم أقرأ له، وذلك بعدما أحبطوني بقولهم إنّ ثمة صعوبة بالغة في العثور على آثار له مطبوعة، والآثار التي طُبعت له سابقا شحيحة ونافدة في الَمكتبات”.

ـ فرحات: “أنا لدي نسخة من أنطولوجيا شعرية لملياغر، ضمَت، فضلا عن قصائده، قصائد لشعراء من زمنه، ومن الزمن الذي سبقه، جَمعها هو، وأصدرها تحت عنوان الإكليل ويُشرّفني أن أهديك إياها في لقائنا المُقبل”؟ 

ـ بورخيس: “شكراً لك مسبقا على هذه الهدية، وشكري لكَ سيتضاعف في ما لو تكرمتَ الآن ووضعتني في أجواء هذا الشاعر، ومساحات قلقه.. ثم ماذا تقول في مَنزلته الإبداعية بوجهٍ عام”؟

ـ فرحات: ملياغر هو أحد أهمّ شعراء فينيقيا في العصر الهيلينستي، كان يُجيد الفينيقية والآرامية واليونانية، وكتب أشعاره باليونانية على شكل قصائد قصيرة، ولا غرو، فهو شاعر المُواطَنة الأول في التاريخ البشري، يقول: إننا جميعا كبشر نسكن وطنا واحدا هو العالم”.

ليس عن طريق التوقد الشعري فحسب، ينظم ملياغر (140 ق. م. – 60 ق. م.) قصيدة عن المواطنة والوطن، فهذا الشاعر ـ الفيلسوف والفينيقي الهوية لا بدً وأن منظومته الفكرية والتخيلية مشبعة بالفكرة الوطنية القائمة على التآخي والتآزر بين الجماعة البشرية التي تعيش على أرض واحدة كما جسدتها “القصة الفينيقية” في كتابي أفلاطون “الجمهورية” و”القوانين” وكما جرى تطبيقها في مدينة قرطاجة على ما يُفهم من قول “المعلم الأول” الفيلسوف أرسطو (384 ق.م ـ 322 ق.م) في كتابه “السياسة ـ تعريب أحمد لطفي السيد” حيث يشيد بدستور قرطاجة لكونه أعطى لـ”الأمة” ـ المواطنون ـ نصيباً في الحُكم، يقول أرسطو:

“كان لقرطاجة دستور حسن، أوفى من دساتير الدول الأخرى في كثير من النقط، القرطاجيون على الخصوص لهم أنظمة فاضلة، والذي يُثبت حكمة دستورهم هو انه على رغم ما خولت الأمة من نصيب في الحُكم، لم يُرَ البتة في قرطاجة تغيُر في الحُكم ولم يكن بها لا ثورة ولا طاغية، وذلك شيء حقيق بلفت النظر”.

هل ما بعد كلام “المعلم الأول” كلام؟

سلام إلى فينيقيا.

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الـ"فوق" يحلّق والـ"تحت" مسحوق.. و"الثورة" مؤجلة