عشية الإنتخابات الرئاسية الجزائرية، يمكن فهم إفتقاد الإجماع الشعبي على تحديد فرس السلطة، علامة مؤزّرة على أنّ السلطة، أي المؤسسة العسكريّة، لا يهمّها كثيراً الرهان على أحد المرشحين دون غيره، ممّا يوحي بوجود احتمالين لا يتّسعان لثالث:
الأول، إمّا أنّ المؤسسة العسكريّة على ثقةٍ تامة، بأنّها تضع يدها على الخمسة؛ المبشّر واحد منهم باعتلاء قصر المراديّة في العاصمة الجزائريّة، فلا شيء على غرار ذلك، يدعوها للتخوّف.
الثاني، وإمّا أنّها فعلاً قد اطمأنّت إلى توافر ضمانات سياسيّة وثيقة الصلة بحاضنتها الشعبيّة، بأنّ الرئيس القادم لن يشذّ على القاعدة التي تقضي باحترام مكانة الجيش ودوره في السياسة العامة، واستحالة أنّ يأخذ موقعاً طرفياً في شؤون البلاد، حتى لو كان غير متوقعٍ نجاحه في الانتخابات.
فلطالما شدّد الجيش خلال أكثر من مناسبة بأنّهُ لن يتدخل في السياسة، وأنّ وظيفتهُ، فضلاً عن حماية البلاد، هي “مرافقة الشعب” في نضاله من أجل الوصول إلى برّ الآمان، لا سيما أنّ المرحلة حسّاسة وتقتضي تكاتف الجهود من أجل تحقيق أهداف الحراك وتطلعاته، التي وللحقّ، كُلّلت بمحاكمة مرئيّة، تجسيداً لمبدإ “علانيّة المحاكمات”، استناداً إلى المادة 285 من قانون الإجراءات الجزائيّة. ومن لطائف الصدف، أنّ هذه المادة التي تكرّس مبدأ متّفقاً عليه في كل القوانين في العالم، هي في صالح المتّهم أكثر ممّا هي في صالح الضحيّة، إذ إنّ الغاية من العلانيّة هي ضمان انتفاء أيّ حالة انتقام أو قمع شُرطي ضد المتهم من قبل المحكمة أولاً، ثم السلطة العامة تالياً، ما خلا قضايا الآداب والأحداث (القُصّر)، التي تجري في سريّة مشروطة، لما فيها من خوض علني في الأعراض صراحةً.
يبدو الحكم على المستقبل السياسي للجيش الجزائري تخمينياً، أكثر ممّا هو منطوياً على شواهد ماديّة، خاصةً أنّ الأحكام التي تتخذُ صفة القطعيّة يجب أن تُراعي قوّة الدليل وضخامة البرهان، فالوسائل التي يتوخّاها أيّ تحليلٍ لإثباتٍ بنيويّ لحالة ما، ينبغي أن لا تتأسّس (الوسائل) على شاهدٍ شفافٍ وهزيل، رغم أهميتهِ، بيد أنّه لا يحقّق الكفاية، ما لم يلتحم بنظائر أخرى في مستواه الدلالي، فدليل الجنايات ما عدا الإعتراف والتلبّس ليس في خفة الأدلة التي تتغذى عليها الجنح والمخالفات.
لكنّ ذلك لا ينفي قطعاً توافر أسباب للشك، قوامها، الاعتقالات التي تجري، رغم أنّ الاحكام التي نُطقت في حقّ بعضهم، كانت مخفّفة، وملحوقة بإمكانيّة ممارسة “الحق في العفو” حال وجود رئيس منتخب للبلاد، يخوّلهُ الدستور ممارسة ذلك بالنظر إلى نص الفقرتين 7 و8 من المادة 91 من الدستور الجزائري.
خيار المقاطعة والمشاركة الإنتخابيّة
رغم هشاشة الأدلة التي يدفع بها المفكر البريطاني هربرت سبنسر في مؤلفه الأشهر “The Man Versus the State” الذي تبنّى فيه تحقيباً ملتوياً لانتقال المجتمعات العسكريّة من طورها هذا، إلى مجتمعات إقطاعيّة فصناعيّة، قادرة على التأطّر ضمن مجتمع مديني، بمقدوره الفصل بين المجتمع الصناعي والزراعي، إلا أنّها تبدو متماسكة، وقابلة للتحيين الحديث، فهذه النسخة، قد جاوزها الزمن في العالم المتقدّم، وصالحة إلى حدّ ما، في عالمنا المتأخر، فبتنا حيالها، في موقف المتفرّج على عمل المؤرّخ، أكثر من الحاجة إلى التحليل السياسي والإسهاب المعرفي، والإستفادة من جوانبها المتفرّقة، رغم أنّ المؤرّخين ينظرون إلى المحليين باعتبارهم منجّمين لا غير.
إنّ المعيار الأقوى في تحكّم أيّ جيش في السلطة، هو ضعف الرئيس المنتخب وهزال شعبيّته، الأمر الذي يُفقدهُ الثقة ويُوعز إلى أيّ جيشٍ وطني شارة البدء في الإنتقال إلى عسكرٍ سياسيّ، في وسعهِ التحكم في مقاليد السلطة وتحريك دواليب الحكم في المنعرج الذي يختاره
ومن هذا المنطلق يمكن تفادي كلاسيكيّة سبنسر، والإعتقاد بإمكانيّة عبور المجتمعات العسكريّة الدفاعيّة إلى مجتمعات سياسيّة ديمقراطيّة، ما توفرت لذلك الإرادة، وتطوّر مفهوم الرقابة الشعبيّة بشكلٍ يفضي إلى قدرة الشعب على المساومة على الحكم والتظاهر في الآن ذاته. وإحدى أشكال هذه المساومة هي الإنتخاب وتأسيس رديف رقابي لهُ، أيّ التأكيد بأنّ للشعب القدرة على صيانة صوته، والوقوف مع خياره، حالَ افتئات المؤسسة العسكريّة في ما لو وقع آجلاً.
هذا الخيار عملي أكثر من الخيارات التخمينيّة حتى لو تماسكت حججها، ذلك أنّ الخيار الرقابي أشد التصاقاً بالواقع وأكثر عملاً على استيعابه، بدلاً من الإستغراق في اختلاق نسخٍ خيالي لشكل الحكم مستقبلاً، دون العمل على تطويب الطريق إليها.
إنّ المعيار الأقوى في تحكّم أيّ جيش في السلطة، هو ضعف الرئيس المنتخب وهزال شعبيّته، الأمر الذي يُفقدهُ الثقة ويُوعز إلى أيّ جيشٍ وطني شارة البدء في الإنتقال إلى عسكرٍ سياسيّ، في وسعهِ التحكم في مقاليد السلطة وتحريك دواليب الحكم في المنعرج الذي يختاره.
في هذا الخضم، ينبغي العمل على برغماتيّة سياسيّة مؤقتة، والإبتعاد عن المثاليّة والتخرّصات الحزبيّة، والدخول الشعبي في لعبة السياسة مع الجيش والسلطة، وتجنّب أيّ شكلٍ من أشكال الإستقالة السياسيّة بعد تنفيذ سائر المطالب.
خطأ الحراك الجزائري
منذ اليوم الأول للحراك طالب الكثير من الناس وأنا واحد منهم، بضرورة تشكيل ممثلين عنه، بدلاً من الإكتفاء بممارسة رياضة التظاهر الأسبوعي على أهميّتها، ولكنّها لا تعدو أن تكون إهداراً للوقت وإيلاء الفرص للركوب على ظهر الإنجاز الثوري، للكثير من الأحزاب والسياسيين، فالحراكات تبقى عائمة بدون وجهة ما لم تستقرّ على إجماعٍ مطلبي، يتمخّض عنهُ ممثلاً أو ممثلين فأكثر، للإنتخابات الرئاسيّة، ولكن وبسبب حداثة السياسة في الجزائر، بقيَّ الحراك متروكاً على عواهنه، انتصرت فيه الصورة أكثر من المعنى، وفاضَ فيه قدر كبير من التشاوف والتباري مع ثورات أخرى، وكانت الوطنيّة الحارّة إيذاناً مزعجاً بالنرجسيّة الثوريّة، حتى أنّ الجيش طالب الحراكيين بتقديم ممثلين عنهم، وفي كل مرة يتشابك الحراكيون حول الأسماء ولا يخلو لهم إسمٌ من مقال، وبقي الأمر على ما هو عليه إلى أن قرّت أعين الكثير منهم برؤية المعتقلين السياسيين في السجن، ورأوا فعل اقتياد مسؤول قضى عمرهُ يأمر وينهى، مصفّداً ومركوناً في سيارة الشرطة، عندها خفّ وهج الحراك، وقلّ تقاطر المواطنون نحوه، وانحصر في مناطق دون أخرى، ذلك أن في الجزائر أكثر من 48 ولاية (محافظة)، اعتادت على حسم الإنتخابات أكثر من العاصمة وبعض المناطق التي عُرف عنها الكسل الإنتخابي في ما سبق.
ورغم أنّ المرشحين كان لهم وجود سياسي أيام حكم “العصابة” إلا أنّهم يجنون ما طالَ الحراك من تسويفٍ غير مسؤول، جعل الأولويّة للمنظمين وأصحاب السوابق في اغتنام الفرص، ولكن يبدو أنّ الجيش يرغب في أن تكون هذه العهدة انتقاليّة وباختيار الجزائريين أنفسهم، فالتغيير السياسي على ما هو ظاهر، منتظرٌ لما بعد خمس سنواتٍ من الآن، حيث أنّ للحراكيين فرصة تنظيم أنفسهم وتقديم مرشحين يتمتعون بالنزاهة والمقدرة والأهلية السياسيّة والحرص كل الحرص على استمرار الرقابة على أعمال السلطة وعدم العودة إلى السبات السياسي الذي يطغى على شعبٍ عاش ردحاً من الزمن بلا داخل سياسي وإيديولوجي.
من المستحيل تحييد الجيش تماماً عن السياسة في الجزائر، ومن يعتقد بذلك فهو واهم، شأنها في ذلك شأن تركيا و”إسرائيل” وسائر الأنظمة التي يلتحم فيها الجيش بالسياسة تماماً، ويأخد الفصل بينهما طابعاً تجريدياً
إزالة الإلتباس بين المقاطعة والتصويت الأبيض
ثمّة فروق منهجيّة ينبغي الإتفاق حولها، هي ضرورة التفرقة بين المقاطعة والتصويت بورقة بيضاء، فالمقاطعة تعني رفضاً جذرياً للنظام بأكمله، وفي الحالة الجزائريّة، لا يوجد جذور للنظام، كون صقوره في المعتقل وتواجه السجن المشدد، ما عدا المؤسسة العسكريّة، وهي مؤسسة قامت عليها الدولة، شأنها في ذلك شأن السياسة الخارجيّة التي تجلّت في بيان أول تشرين الثاني/نوفمبر 1954، أيّ قبل نشوء الدولة واستقلالها، وانتشار “موضة” الإنقلابات العسكريّة فيها، فمن المستحيل تحييد الجيش تماماً عن السياسة في الجزائر، ومن يعتقد بذلك فهو واهم، شأنها في ذلك شأن تركيا و”إسرائيل” وسائر الأنظمة التي يلتحم فيها الجيش بالسياسة تماماً، ويأخد الفصل بينهما طابعاً تجريدياً. ثم الإقتراع بورقة بيضاء، ويعني أنّ المقترع لهُ مشكلة مع المرشحين، ولديه موقفٌ احتجاجي منهم. وفي الحالة الجزائريّة، كما في تركيا و”إسرائيل”، تمنح الشرعيّة المنقوصة لأيّ رئيس أو رئيس وزراء، بغض النظر عن إسمه وتاريخه وكفاءتهِ، فرصةً كاملة للتحكم في السلطة بشكلٍ كلّي، وهو لو وقع مثلاً في تركيا، لكانت مقدّمة لانقلاب عسكري مؤكد.
ثمة حاجة منطقيّة لقراءة التجربة الجزائريّة بناءً على حيزها التاريخي، ونوع الدولة التي حدّدت شكلها منذ ما قبل الإستقلال، فالسياسة بتقدير بسمارك هي “فن التعامل مع الممكن بما هو متاح وممكن”، مع التأكيد على رقابة الشعب على أعمال الجيش والسلطة، وتجنّب الدخول في موتٍ سريري ولو كان مؤقتاً، إذ إنّ هامش الخطأ هُنا، لا يترك أيّ مجالٍ ولو كان ضيّقاً لإلتقاء الصدف وإلتقاط الممكن.
(*) كاتب جزائري