أكثر المراقبين فهموا أن الإدارة الأمريكية قررت تحريك قمم الدبلوماسية الأمريكية لمواجهة تطورات خارجية باتت تهدد في شكل من الأشكال مصالح أمريكية وتعيق أو تعطل تحقيق أهداف للسياسة الخارجية. المعنى الذي نذهب إليه هنا في هذه السطور هو أن الدبلوماسية لم تعد اختصاصا لجهاز أوحد وأقصد جهاز وزارة الخارجية.
نذهب إلى معنى آخر وهو أن الجهة في الحزب الديموقراطي الموكل إليها اختيار المرشح لمنصب رئاسة الجمهورية في حال عودة جو بايدن عن قراره الترشح أو في حال اتضح بما لا يدع مجالا للشك أن صحة الرئيس لن تتحمل سنوات أربع أخرى في البيت الأبيض، هذه الجهة ربما وجدت أن بعض التطورات الأخيرة قد تكون متعمدة لانتهاز فرصة المرحلة الانتقالية في ولاية الرئيس بايدن للحد من نفوذ أمريكا ومكانتها في الخارج. أما هذه التطورات الأخيرة، سواء كانت متعمدة حسب الظن السائد في بعض دوائر نخبة واشنطن السياسية أو بريئة من هذا الظن أو غيره، فتتصدرها العناوين التالية:
أولاً؛ الأزمة في إسرائيل باعتبار أنها مع امتدادها لأسبوع سابع والاتساع المطرد في عدد ضباط وجنود سلاح الطيران المضربين عن حضور برامج التدريب صارت تهدد أمن الدولة العبرية. الأمر الذي يدرك الجميع أنه يحتل مكانة رئيسة في قائمة المصالح الحيوية لأمريكا في الشرق الأوسط وأن المساس به يستدعي التدخل الحاسم والسريع. يحدث هذا التطور الخطير بينما ترى أمريكا، ومعها العالم الغربي إصرار بنيامين نتنياهو وحكومته على تعريض الديموقراطية كما تطبقها إسرائيل للخطر بانجراره وراء العناصر المتطرفة المطالبة بإدخال “إصلاحات” في النظام القضائي تهدف إلى تقييد استقلالية المحكمة العليا، فضلا عن أنه المستفيد شخصيا في النهاية إذا عرف كيف يتخلص من القضايا التي قد تمس الأحكام فيها مستقبله السياسي. هذا المستقبل يراه معادلا أو متجاوزا في أهميته إنجازات بن جوريون وجيل الأوائل.
ثانياً؛ تصاعد حماسة ونضال الفلسطينيين ضد الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس، والتصعيد المستمر للعنف العسكري الصهيوني من جانب الجيش والشرطة الإسرائيلية ومن جانب أعمال إجرامية قامت بها جماعات منظمة من المستوطنين مثل حرق الزراعات وبخاصة حقول الزيتون لما تمثله للفلسطينيين. أدت هذه الأعمال وتصعيد العنف المؤسسي إلى تذمر في الشارع العربي خارج فلسطين مثيرا من جديد قضية جدوى الالتزام الرسمي والشعبي، إن وجد، بالمشروع الإبراهيمي الذي مهدت وخططت له وشاركت في التنفيذ الولايات المتحدة ممثلة بأعلى قمم دبلوماسيتها. بمعنى آخر يكاد يكون مهددا بالسقوط أحد أهم وأحدث “إنجازات” أمريكا الدبلوماسية في الشرق الأوسط.
أميل إلى الرأي القائل بأن جهات في الغرب وقيادات سياسية محدودة العدد كانت على علم بما تقوم به الدبلوماسيات الثلاث وأن الرأي انتهى إلى فائدة ترجى من عدم إجهاضها بل وربما منحها الفرصة كاملة لتصل إلى نهايتها. لا يعني هذا أن أمريكا لن تضغط بكثير من أدواتها الدبلوماسية لإحباط هذا التقارب الثلاثي إن وجدت هذا التدخل من جانبها ضرورياً
ثالثاً؛ ترددت إيحاءات تدفع عن الدبلوماسية الأمريكية شبهة عدم العلم مبكراً بمساعي الصين للتوسط بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران لتحقيق تقارب بينهما ومساعدتهما على إعادة مستوى علاقاتهما الدبلوماسية إلى ما كان عليه قبل سنوات عديدة. أشهد بداية بكفاءة وقدرة الأطراف الثلاثة على التزام الكتمان طوال فترة الاتصالات والمباحثات التي جرت. واضح من الشكل الذي سارت عليه المفاوضات أن الأجهزة الاستخباراتية في طرفين على الأقل نجحت في فرض أستار الكتمان وهو الأمر الذي تحرص عليه الدول الثلاث على كل حال وفي مختلف الظروف انسجاما وتمشيا مع نظم العمل السياسي فيها، ولدبلوماسيات هذه الدول، كما نعرف، تاريخ مشهود في التخطيط “الساكت”. يحسب لها جميعا تحقيق هذا الإنجاز في ظل ظروف دولية وإقليمية غير عادية. لا يفوتنا أن ممثلي الدول الثلاث في هذه المفاوضات يخضعون من دون شك وبحكم وظائفهم لرقابة استثنائية من جانب الدبلوماسيات الغربية وباستخدام إمكانات تكنولوجية بالغة التقدم.
نعلم عما تقوم به أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية من أجل أن تحاط علما يوما بيوم بأنشطة الأجهزة المماثلة لها في إيران وبالتأكيد وبخاصة بمن كلفته القيادة الإيرانية بمتابعة موضوع الوساطة الصينية.
نعلم أيضا أنه في هذه المرحلة المتقدمة من سباق أو صراع المنافسة الاستراتيجية بين أمريكا والصين ما كان ممكنا عقد لقاءات سرية على هذا المستوى تشارك فيها الصين ولا تعلم بها الدبلوماسية الأمريكية.
نعلم من ناحية ثالثة أن الأجهزة الأمنية الأمريكية ضاعفت اهتمامها بتطورات العمل السياسي والدبلوماسي السعودي منذ أن صارت دبلوماسية المملكة تعمل في صمت وتشارك في صنع سياسات وقرارات بعضه بحجم القوة التي أصبحت تحوز عليها والنفوذ الذي صارت تتمتع به وتمارس بعضا منه.
بكلمات أخرى أميل إلى الرأي القائل بأن جهات في الغرب وقيادات سياسية محدودة العدد كانت على علم بما تقوم به الدبلوماسيات الثلاث وأن الرأي انتهى إلى فائدة ترجى من عدم إجهاضها بل وربما منحها الفرصة كاملة لتصل إلى نهايتها. لا يعني هذا أن أمريكا لن تضغط بكثير من أدواتها الدبلوماسية لإحباط هذا التقارب الثلاثي إن وجدت هذا التدخل من جانبها ضرورياً.
رابعاً؛ الأزمة في العراق كما في سوريا مستمرة ومعقدة إلى حد يستدعي حسب رأي واشنطن استمرار وجود القوات الأمريكية في هذين البلدين. الوجود الأمريكي هناك له علاقة بتطور المفاوضات السعودية الإيرانية وله علاقة أهم بتطور سباق النفوذ والقوة في منطقة الشرق الأوسط. بدأ السباق فاترا ويتطور في اتجاه توازن قوة جديد في النظام العربي يعقبه وضع منظومة قواعد عمل لنظام شرق أوسطي يقنن الاختراقات المستمرة من جانب دول الجوار لحدود النظام الإقليمي العربي. على كل حال عادت أمريكا إلى سياسة التوسع في نشر قواعد عسكرية لها في الخارج وتعزيز القائم منها. تدخلت دبلوماسيتها في الفيليبين حتى استعادت واحدة من أكبر قواعدها وأهمها في جنوب شرق آسيا، وتتدخل حالياً في أفريقيا تفاديا لأن يفوتها السباق الجديد على ثروات القارة السمراء وقد بدأ بالفعل حامي الوطيس.
***
بالنسبة لنا يتعين أن تكون المرحلة القادمة مرحلة العمل الدبلوماسي بامتياز ليس فقط لإعادة رسم حدود النظام العربي ووضع قواعد عمل جديدة له ولكن أيضا لابتكار علاقة من نوع خاص تربطه بدول جوار تأهبت بالفعل لمرحلة مختلفة. لا يغيب عن الذهن ولو للحظة المهام الصعبة، ولا أقول المستحيلة، التي تنتظر الدبلوماسية المصرية خلال هذه المرحلة المختلفة تماماً عن كل المراحل السابقة من عمرها المديد.