الحركة الفلسطينية الأسيرة.. سحر السجون والمقاومة

يقدم لنا الأسير الشهيد عدنان خضر نموذجاً جديداً لـ"الفلسطيني الجديد" الحقيقي. الفلسطيني المقاوم في حريته وأسره وحتى في إستشهاده بدليل رفض الإحتلال تسليم جثمانه.. وأن نتضامن معه فنحن نتضامن مع وليد دقة ومع كل الأسرى الصامدين المقاومين.

تضم الحركة الفلسطينية الأسيرة في سجون الاحتلال أساطيرنا الحية وتختزن ذاكرة أجيال من المقاومة أُريدَ لنا أن ننساها، وتكتنز خبرة وتجربة أريدَ لأطفالنا أن يكبروا بعزلة عنها، اذ أن العدو يدرك بحقّ خطورة هذه الذاكرة وهذه التجربة على كيانه. وقد تعود مماطلة العدو في انجاز صفقة التبادل الأخيرة بنسبة كبيرة الى ما تعلمه بالتجربة المرّة من خطورة الأسرى المحررين على واقع المواجهة مع الشعب الفلسطيني، فالعدو لا يعتقل الأسرى كفعل عقابي أو “تأديبي” لمن يريد أن يحذو حذوهم، بل هو يريد عزلهم عن الشارع والمجتمع الفلسطيني لعلمه أن الذاكرة والفكرة التي يمثلونها هي صاعق تفجير للشارع الفلسطيني. يمكننا أن نرى النهج ذاته بخصوص جثامين المقاومين الذين يتم أسر أجسادهم وتُجمّد وذلك أملاً في أن تبرد النار في صدور الشعب المتلهف لتشييعهم ولتجنب دوامة “التجنيد” في المقاومة – ان صح التعبير – التي يخلقها جسد المقاوم الشهيد وهو كامن، فما بالنا بفعل حضور المقاوم الحي بين الجماهير؟

من الصعب حصر قدرات الحركة الأسيرة المقاومة لكثرتها، أو تبويبها لتداخلها، لكن سأحاول تأطيرها بما نراه ونشهده في الانتفاضة المجيدة التي يعيشها الشعب في فلسطين وتحيينا نحن من نتابعها من وراء الحدود.

يمكن القول إن هذه الانتفاضة بدأت ككرة ثلج (أو بالأحرى كرة نار) تتدحرج منذ العام 2014 الذي شهد عدداً من العمليات النوعية في القدس والضفة الغربية بعد سنوات عجاف ظن العدو وبعض الأصدقاء خلالها أن “الفلسطيني الجديد” منزوع المقاومة قد خُلق وتسيّد المشهد. وأن أوسلو على كوارثها أصبحت الواقع الذي لا عودة عنه.

إذا نظرنا إلى عمليات ذلك العام (2014) كمثال مصغر وكنقطة انطلاق لما نشهده اليوم سنجد التالي: الشهيد ابراهيم العكاري أخو أسير محرر ومبعد، الشهيد معتز حجازي أسير محرر، عبد الرحمن الشلودي أسير محرر، غسان وعدي أبو جمل إبنا أخ الأسير المحرر والمُعاد اعتقاله جمال أبو جمل حيث قاما بعمليتهما البطولية بعيد إعادة اعتقاله. وأراهن أن نسبة كبيرة من العمليات المقاومة المتصاعدة من 2014 لليوم لها علاقة بطريقة أو بأخرى بالحركة الأسيرة.

وتالياً هذه محاولة متواضعة لتأطير أوجه مقاومة الحركة الأسيرة التي تشكل القلب النابض لشعبنا:

المستوى الأول: الحركة الأسيرة هي الكل الفلسطيني

الحركة الأسيرة هي حركة عابرة للفصائل وتشمل غير المنتمين للفصائل أيضاً، وهي عابرة للمناطق والخلفيات والطبقات، وهي عابرة للأجيال، كما أنها تمس كل عائلة، مما يجعلها خطراً على الاحتلال اذ استطاعت في مفاصل عديدة أن تحرك الشارع الفلسطيني في وجهه.

يُدرك العدو هذا الخطر، ولهذا استجاب بسرعة في العام الماضي لاضراب الأسرى ويبدو أن عملاء التنسيق الأمني يدركون ذلك جيداً بحسب ما تم تداوله عن تصريح ماجد فرج في مؤتمر شرم الشيخ حول خطورة المس بملف الأسرى المتفجر.

السجون هي ذلك المكان الذي يحشد فيه العدو كل جبروته وسطوته وسيطرته، وهي ذلك المكان الذي تتركز فيه معاناة الشعب الفلسطيني وخصوصاً مقاوميه، ولكنها أيضاً ذلك المكان الساحر الذي تنتصر فيه الارادة والخيال الاسطوري للمقاوم على السجان وجدرانه ومنظوماته الأمنية وعملائه بنطفة هناك، وعملية تحرير هنا، وآلاف الأحاديث واللقاءات اللحظية بين أسير عتيق ومخضرم بطفل حجارة يدخل السجن ثائراً غضاً ويخرج منه بطلاً مكتمل التكوين ينفذ عملية أو يشكل كتيبة

المستوى الثاني: الحركة الأسيرة نموذج للعمل الجماعي

على مدى عقود، عمل العدو الصهيوني على تفتيت البيئة الحاضنة للمقاومة، كما عمل من خلال المنظمات والبرامج بالتعاون مع السلطة على خلق “الفلسطيني الجديد” اللاهث وراء خلاصه الفردي. كما عمل على شل التنظيمات والفصائل المقاومة في الضفة من خلال القتل والاعتقال وأيضاً من خلال زرع العملاء وتكثيف المراقبات الأمر الذي جعل أي انسان ثائر ووطني يشك حتى في خياله.

بدورها، لم تسلم السجون الصهيونية من النهج ذاته خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالعملاء والعصافير وتصوير العدو على أنه مسيطر على كل صغيرة وكبيرة وقادر على اختراق كل تجمع مهما صغر.

ومع ذلك، بقيت الحركة الأسيرة عصية وكانت الملاذ الأخير للعمل الجماعي الفلسطيني، فحتى في أوج السنوات العجاف كانت ناجحة في تنظيم الاضرابات الجماعية، وتذويب الخلافات الفصائلية، كما شهدت السجون هبات وانتفاضات لأسرى يعذبون في سجون أخرى، أو رفضاً لانتهاكات بحق أسيرات.. وهذا يعيدنا الى مخزون الذاكرة وخطورته، فما سبق يدلل على حفاظ الحركة الأسيرة على قيم مهمة للمقاومة كادت أن تعدم خارجه وهي العمل الجماعي والنخوة والاخاء وغيرها من القيم التي أجادل أن أسرانا أعادوها الى الشارع الفلسطيني بالنموذج المشرف لصمودهم في السجون.

المستوى الثالث: المقاومة نهج لا رجعة عنه

كما ذكرت أن الأسر بالنسبة للعدو الصهيوني عملية متعددة الأهداف، وفي جوهرها العقاب والتأديب، وذلك لردع المقاوم والبيئة من تكرار فعل المقاومة، الا أن هناك عدداً غير محدود من الأسرى الذين ما ان نالوا حريتهم حتى سارعوا لتنفيذ عمليات وانخرطوا بالمقاومة من جديد بشكل فوري. وبذلك يبطلون مفعول العقاب والتأديب ويثوّرون البيئة المحيطة معهم.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل بديل الولايات المتحدة الإستراتيجي في المنطقة

المستوى الرابع: الحركة الأسيرة مدرسة المقاومة

أيضاً هنا نعود الى أحد أهم أهداف الاعتقال بالنسبة للعدو، ألا وهو عزل المقاومين عن المجتمع الفلسطيني، فمنذ توقيع إتفاق أوسلو والعدو يعمل على خلق بيئة معقمة من المقاومة ليراهن من خلالها على الوصول لجيل الصغار الذي سينسون. ولكنه بغبائه المعهود عمل على تثقيف جيل كامل من خلال غطرسته وعنجهيته، فاذا نظرنا الى العام 2014 والذي شهد صعوداً في عمليات المقاومة واحياءً لنهجها، نرى أنها مع ذلك كانت قليلة لا تتعدى أصابع اليدين، مع ذلك تجاوزت اعتقالات ذلك العام السبعة الاف حالة، أما حالات الاعتقال من 2014 الى 2022 فقد تجاوزت 98 ألفا وخمسمئة حالة حسب الأرقام الرسمية للسلطة الفلسطينية، جلهم ولد بعد الانتفاضة الثانية. وهكذا بدل أن يعزل الإحتلال المقاومين عن محيطهم، فهو يقوم بادخال الشباب الفتي الى مدارس مقاومة مركزة ويكسبهم خبرة قد لا نعرف نحن تفاصيلها ولكن تصاعد العمليات الهائل وتطورها النوعي السريع قد يعني أن هناك هناك أيدٍ خفية وعدوى تنتشر.

المستوى الخامس: قوة الالهام

قوة الالهام ليست بالمسألة الهينة خصوصاً إن كان الالهام هو تحقيق المستحيل وتحدي الواقع بلا إمكانات.

لا يكل الأسرى عن إثبات حقيقة أن الإرادة تستطيع تغيير مجرى التاريخ، وتحدي الاحتلال والواقع الذي يغرسه في عقولنا بأنه “قضاءٌ مبرمٌ”… من ذلك فكرة أطفال الحرية والعمليات المعقدة لتهريب النطف، أو عمليات الهروب المتعددة التي أنجزتها الحركة الاسيرة عبر تاريخها، وأهمها عملية الاسرى الأبطال الستة وذلك لتعقيدات سجن جلبوع الأمنية ولتوقيتها في خضم الصراع المشتعل في الأراضي المحتلة، ولا خلاف أن هذه العملية ألهمت الأسير المحرر جميل العموري لتأسيس “كتيبة جنين” التي بدورها تشكل نقطة فاصلة تعيد كتابة قواعد الاشتباك والمواجهة مع هذا الكيان المؤقت.

وهنا يجب التوقف عند ما أخذته “كتيبة جنين” من الحركة الأسيرة من جهة، وما أعطته للشارع الفلسطيني من جهة أخرى. أول ما أخذته من الحركة الأسيرة فكرة الكل الفلسطيني وهي فكرة تجذرت في النماذج الأخرى مثل “عرين الأسود” حيث يقاوم الشباب من كل الفصائل ككل واحد. وثاني ما أخذته هو العمل الجماعي الذي عاد الى الشارع الفلسطيني، وهذا من أهم انجازات هذه الظاهرة، اذ رمّمت البيئة الحاضنة للمقاومة بعد أن كانت عبارة عن أفراد متناثرين وها نحن نرى كيف ينخرط الشباب في المواجهات دفاعاً عن المقاومين ومؤازرتهم في كل اقتحام. هذا الانجاز هو سفر سنوات ضوئية يمحو مفعول المليارات التي صبت فوق رأس مجتمعنا “ليحط كل واحد فينا عقله براسه ليعرف خلاصه” تحت وطأة وزحام ويلات أوسلو. كما أخذت “الكتيبة” و”العرين” وتوائمها من الحركة الأسيرة ثبات نهج المقاومة، فكل اقتحام واغتيال يظن العدو من خلاله أنه قضى على الظاهرة وصفّاها نراها تبعث من جديد وأحياناً بشكل شبه فوري، ورابع ما أخذته هو أنها أصبحت مدرسة مقاومة مع فارق أنها على احتكاك بالشارع الفلسطيني ومع الوقت فهي تبني خبراتها في المواجهة والقتال الأمر الذي يحمل بشائر لانتصارات نوعية قادمة، وطبعاً بطبيعة الحال حملت “كتيبة جنين” معها قوة الإلهام وها نحن نرى عدواها تنتشر في مختلف مخيمات ومدن الضفة، متجاوزة بذلك العقبات المادية للاتصال المباشر ونقل التجربة من مكان إلى آخر.

الالهام ليس بالمسألة الهينة في هذا الصراع، خصوصاً أن أغلب قوة العدو تكمن في عقولنا، وإرادتنا الأسيرة لوهم تفوقه المطلق الأمر الذي يتركنا عاجزين أمام تسليمنا بقلة الحيلة. لذا فإن ما حدث فجر السادس من أيلول/سبتمبر 2021 هو أن ستة أسرى قاموا بتحريرنا من هذا الوهم وألقوا علينا الحجة.

السجون هي ذلك المكان الذي يحشد فيه العدو كل جبروته وسطوته وسيطرته، وهي ذلك المكان الذي تتركز فيه معاناة الشعب الفلسطيني وخصوصاً مقاوميه، ولكنها أيضاً ذلك المكان الساحر الذي تنتصر فيه الارادة والخيال الاسطوري للمقاوم على السجان وجدرانه ومنظوماته الأمنية وعملائه بنطفة هناك، وعملية تحرير هنا، وآلاف الأحاديث واللقاءات اللحظية بين أسير عتيق ومخضرم بطفل حجارة يدخل السجن ثائراً غضاً ويخرج منه بطلاً مكتمل التكوين ينفذ عملية أو يشكل كتيبة.

لولا الحركة الأسيرة ما كنا لنرى بشائر النصر التي تحملها هذه الانتفاضة ولذا قبل أن نتضامن معها علينا الانحناء لها تقديراً وعرفاناً، ولنفكر سوية في كيفية سلوك طرق إضافية تُجبر العدو على إطلاق سراح أسرانا.

(*) نص المداخلة التي قدمتها الكاتبة في اللقاء التضامني الذي دعت اليه مجلة “تحولات” تضامناً مع أسرى فلسطين، وذلك في جريدة “السفير” ـ بيروت.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

كاتبة عربية

Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  متى سنتعلّم مخاطبة العدوّ؟