مع انطلاق “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، طُرحت للمرة الأولى أسئلة الإشتباك الإيراني ـ الإسرائيلي، وبدا أن الجانبين يتهيبان الموقف، لا سيما مع نزول الولايات المتحدة وأساطيلها إلى البحر الشرق متوسطي. غير أن استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، دشّن مرحلة جديدة، فالضربة ما كانت لتمر من دون رد عسكري إيراني؛ وهو الرد الذي عملت على “ضبط” حدوده دولٌ عديدةٌ أبرزها تركيا وقطر عبر مديري المخابرات إبراهيم كالن وعبد الله الخليفي.
لذا يمكن قراءة الرد الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق من زوايا وأبعاد وسياقات متعددة، أبرزها الآتي:
أولاً: دخلت المنطقة، ليل السبت ـ الأحد الماضي، مرحلة جديدة من المواجهة استطاعت طهران من خلالها تكريس معادلة ردعية جديدة جعلتها شريكاً فعلياً مباشراً في المواجهة الحاصلة في المنطقة عبر الخروج من “حرب الوكلاء” إلى المواجهة المباشرة، ما سيفرض سقوف مواجهة مختلفة عن تلك التي تم تكريسها منذ انتصار الثورة الإيرانية في العام 1979 حتى الأمس القريب.
ثانياً: كان من الملفت للإنتباه قرار إيران بتحييد حزب الله عن أتون هذا الصراع وردوده المُلزمة لإيران حفظاً لماء وجهها، ما يعني أن إيران قرّرت أن يكون الرد إيرانياً وعلنياً ومباشراً، الأمر الذي أبقى حزب الله في خانة “الإحتياطي الإستراتيجي”، الأمر الذي يُكرس مفهوم أن الحزب هو درة التاج الإيراني في المنطقة، والأكيد أن ايران تمنح حزب الله قدرة واسعة على المناورة في لبنان وعلى صعيد الشراكة في القرار الإقليمي، وبالتالي كل ما من شأنه حفظ رأس الحزب، وذلك في ظل الترابط القائم بين حماية النظام الإيراني وحماية حزب الله نفسه بوصفه جزءاً لا يتجزأ من حماية الداخل الإيراني.. والعكس صحيح.
ثالثاً: كانت إيران على مدى العقود الماضية متهمة بأنها تستخدم الأذرع والحلفاء الإقليميين في معارك الدفاع عن نفوذها الإقليمي، ولو على حساب اقتصادات دول عربية عدة، أما الآن، ومع استهداف القنصلية والقادة العسكريين الإيرانيين، بات المحور من رأسه إلى أخمص قدميه يقوم على خدمة مكون أساسي في المحور، أي حركة حماس حتى تبقى رقماً صعباً في المعادلة الفلسطينية.
واشنطن تتحدث عن أن الرد الإيراني يُمكن أن يكون مدخلاً للتسويات، خصوصاً أن الأطراف الإقليمية المعنية حريصة على عدم الانزلاق نحو خيار الحرب الشاملة برغم كل السقوف السياسية العالية. وعليه، لا بد من مراقبة التحولات والانعكاسات على الساحات في لبنان والعراق وغزة وربما في سوريا مع الدور المفاجئ لأنقرة في ترتيب عدد من الملفات الإقليمية
رابعاً: ثمة أمر جلي توضح في سياق الهجوم على الأهداف الإسرائيلية وهذا السياق عنوانه التصعيد بين الأردن وإيران وخاصة أن عمان دخلت على خط صد المسيرات والصواريخ الإيرانية، وهذا الأمر يتعلق بخلفيات سياسية أخرى مرتبطة بكثافة النشاط الإيراني على الحدود مع الأردن وتحريك حماس والإخوان المسلمين للميدان الأردني، من دون اغفال نقطة مركزية تتصل بالضفة الغربية، فأي محاولة لتطوير الصراع ضد إسرائيل في هذه الساحة، ممرها الإلزامي الساحة الأردنية، وهنا نقطة ضعف قاتلة تواجه المحور الذي تقوده إيران.
خامساً: بالمقابل، تسعى إسرائيل من خلال هذا الإنخراط الإيراني المباشر، إلى اشغال العالم عن قضية غزة وإعادة الإعتبار إلى سردية إسرائيل “الضحية” والمهددة بأمنها ووجودها، بعد أن كانت أنظار العالم وجهوده منصبة على وقف المجزرة واطلاق مسار الهدنة ووقف إطلاق النار، ما يعني إمكانية أن يعاود نتنياهو الإمساك بالمبادرة إذا لم تتطور الوقائع العسكرية باتجاه مختلف.
سادساً: ثمة أمر رئيسي يحتاج الإيرانيون ومعهم حزب الله وحماس إلى إعادة تقييمه وقراءته بعد الضربة الإيرانية تحديداً، وهو أن الواقع الإسرائيلي قد تغيّر فعلاً، وأن كل قواعد الاشتباك التاريخية التي وضعت منذ عقود من الزمن قد جرى تغييرها بعد “طوفان الأقصى”، وخاصة مع شعور إسرائيل الدولة والكيان أنها باتت تعيش خطراً وجودياً انطلاقاً من أن المصيبة قد وقعت على إسرائيل بسقوط آلاف القتلى والجرحى والأضرار الاقتصادية والصورة المحطمة وخسارة الرأي العام العالمي لفكرة إسرائيل.. كل ذلك في ساعات قليلة من تاريخ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.
سابعاً: إن أولوية ايران هي حماية نظامها السياسي الديني، وبالتالي ثمة ضرورة لعدم الانزلاق في حروب مباشرة تؤدي الى استنزاف إيران، كما حصل سابقاً مع عراق صدام حسين، من هنا يتبدى التركيز الإيراني بعد الرد على إسرائيل، في المضي بكل ما من شأنه تخفيف الحصار الذي تتعرض له ورفع العقوبات عن استثماراتها الحيوية وتحديداً قطاع النفط والذي لاتزال ايران مضطرة لبيعه عبر أساليب التهريب والشركات الوهمية.. وبأسعار منخفضة. هذا المسار يستلزم عقد تفاهمات جزئية مع واشنطن وتحديداً من خلال الحرص الإيراني على عودة الديموقراطيين إلى سدة الرئاسة الأميركية في ظل التسابق المحموم بين دونالد ترامب وجو بايدن، من هنا تظهر خلفيات الخوف الإسرائيلي وتحديداً لدى تحالف اليمين الإسرائيلي بقيادة نتنياهو عبر بحثه المستمر عن ثغرة تطيح بكل اللقاءات السرية بين واشنطن وطهران برعاية سلطنة عمان وقطر.
ومن هنا يمكن فهم دوافع استهداف اسرائيل وقصف موقع دبلوماسي كالقنصلية الإيرانية في دمشق، واستمرار الجنون عبر اغتيال أبناء واحفاد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية. ويبدو أن الهدف الأساسي هو ضرب أية تفاهمات يجري العمل على ترتيبها بين واشنطن وطهران عبر القطريين والعُمانيين، وعليه، يمكن فهم عملية التحريض التي حصلت على قطر من بعض أعضاء مجلس النواب الأميركي من الجمهوريين وذلك بهدف فرملة اندفاعة الدوحة في عملية التفاوض بين واشنطن وطهران.
في الخلاصة، دخل الشرق الأوسط مرحلة جديدة وخطيرة ودقيقة بعد الرد الإيراني. لكن واشنطن وعبر دبلوماسيتها المرنة تتحدث عن أن الرد الإيراني يُمكن أن يكون مدخلاً للتسويات، خصوصاً أن الأطراف الإقليمية المعنية حريصة على عدم الانزلاق نحو خيار الحرب الشاملة برغم كل السقوف العالية في الخطاب السياسي. وعليه، لا بد من مراقبة التحولات والانعكاسات على الساحات في لبنان والعراق وغزة وربما في سوريا مع الدور المفاجئ لأنقرة في ترتيب عدد من الملفات الإقليمية.