أبرزت الحرب الأهليّة والتدخّلات الخارجيّة، ليس فقط العسكريّة بل حتّى تلك اليوميّة لممثّلي الدول، أنّ نموذج حوكمته “الديموقراطيّ” يعتريه خللٌ جوهريّ. ثمّ جاء الانهيار المالي ليقضي على الرخاء النسبيّ وليُفاقِم انعدام المساواة بشكلٍ كبير وليعطِّل إمكانيّات النموّ. انتهى الأمر بغياب أيّ إصلاحٍ حقيقيّ يُزيل آثار الأزمة وهيمنة مالٍ وسلطة على وسائل الإعلام ومؤسّسات المجتمع المدنيّ.. وأخيراً كمّ أفواه المحامين والقضاة والملاحقات الأمنيّة للبنانيين والمقيمين.. وصولاً إلى منع نشر سعر صرف العملة الوطنيّة في السوق.
فماذا بقي من النموذج الذي كان يُمثّله لبنان للشعوب العربيّة الأخرى، وخاصّةً من حيث صون الحريّات العامّة و”الديموقراطية”؟ وما المشهد الذي يُقدّمه إذا آلت الانتفاضات العربيّة التي طالبت بالحرية والكرامة إلى نهايتها، ثمّ تمّ أخذها إلى آلام الصراعات الأهليّة، إلى ما يشابه وضعه الحالي؟
هكذا يطرح النموذج اللبناني تحديات جوهريّة عدّة؟ أولها حول معنى “الديموقراطيّة” ذاتها. فهل هي مجرّد انتخابات، ولو صوريّاً حرّة، ومجلس نيابي.. في ظلّ أحزابٍ شكّلها “أمراء حرب” طوائف وجماعات ومناطق، دون برامج لجميع مواطنيها، وفي ظلّ نخر أسياد السلطة القائمة لمؤسّسات الدولة، وتقاسمهم لجميع مستوياتها حتّى أصغرها، وتعطيل وظائفها. فما الفرق إذاً بين هذا “النظام الديموقراطي” والأنظمة الشموليّة؟ لا شيء سوى “تعدديّة السلطة”، لكن مع عطالة الدولة بانتظار توافقات محليّة ترعاها دولٌ خارجيّة. وحينما تأتي هذه التوافقات يتقاسم “أمراء الحرب” الغنائم من خلال الصفقات العامّة والاحتكارات، دون إمكانيّة للمحاسبة، إذ أنّها سرعان ما تخضع لاعتبارات توازنات اجتماعيّة يفرضها “أمراء الحرب” أنفسهم.
تبقى الحريّات العامّة هي مكمن التحدّي الحقيقي للنموذج اللبناني ورهانه الأساسيّ هو قدرته على الحفاظ عليها. إنّها الثروة التاريخيّة التي لا يُمِكن لا للنفط والغاز ولا لتدفّق السوّاح والمستثمرين التعويض عنها
يقترح البعض “اللامركزية” كحلٍّ سحريّ وهميّ، فقط بغية إلغاء التعدديّة، وكأنّ مؤسّسات الدولة على الصعيد المحليّ أكثر نجاعةً وتستطيع إدارة الموارد المحليّة، وفي حالة لبنان إدارة تدفّقات تحويلات المغتربين أو أموال الخارج، بشكلٍ ناجع. وكأنّ “أمراء الحرب” ليسوا أيضاً.. سلطةً محليّة تقوم على الزعامة والاستزلام.
هذا تحدٍّ حقيقي. إذ لا يُمكِن إرساء ديموقراطيّة ولامركزيّة ناجعة دون أحزاب وطنيّة فاعلة، تشمل كافّة الفئات الاجتماعيّة وذات برامج تطمح لازدهار الجميع، ودون دولة مؤسّساتيّة قادرة وطنيّاً على كبح الاحتكارات وتجاوزات السلطة وضمان أنّ هذه السلطة تقوم على التداول. هكذا أتى فشل محاولات إرساء “ديموقراطيّة” انتخابات ومجلس نيابي في الدول التي شهدت انتفاضات “الربيع العربي”، بالتحديد لأنّ الأحزاب القائمة لم ترقَ إلى طرحٍ يشمل جميع المواطنين بل هبّت لتقاسم النفوذ ضمن الدولة، ما دفع القائمين على مؤسّسة الجيش والأمن إلى القفز للاستيلاء على السلطة.
التحدّي الآخر المطروح هو نموذج “التنمية”. واللافت للنظر في الحالة اللبنانيّة هو حجم “خسائر” البلاد التي فضحها الانهيار الماليّ، والمُقدرة بحوالى 70 مليار دولار، أي أضعاف مضاعفة عن حجم الأموال المطلوبة للنهوض بالبنى التحتيّة وباقتصاد البلاد ومجتمعها. وفي الواقع، لا يُمكِن أن تترسّخ سلطة تهيمن على الدولة دون احتكار موارد البلاد، مهما كانت، لمصلحتها بغية استخدامها في استزلام الولاءات، سواء أكانت تلك السلطة تعدديّة أم شموليّة. ما يعني أنّه لا يُمكِن أن يكون هناك تنمية ولا إعادة إعمار بعد الحروب أو الكوارث من دون تقويض “ريوع” السلطة من موارد البلاد أو من الخارج. هذه هي معركة الحفاظ على “المال العام” والإدارة الماليّة والنقديّة التي لا يُمكِن أن تُخاض دون قضاء مستقلّ (والقضاء مؤسسة أساسيّة في الدولة) ودون حريّات عامّة تسمح بمحاسبة السلطة القائمة.
بالتأكيد، لا تسمح الأنظمة الشموليّة بوجود الحريّات العامّة. واللافت للإنتباه أنّ الحريّات العامّة في البلاد التي شهدت انتفاضات الطموح إلى الحريّة والكرامة أضحت أسوأ اليوم مما كانت عليه قبل الانتفاضة. حساسيّةٌ مفرِطة تجاه انتقاد السياسات العامّة ومحاسبة السلطة القائمة. “إلزَم الصمت وإلاّ..”. وكان لبنان في المقابل يعيش حالة “قل ما تشاء ونحن سندير البلاد كما نشاء.. ستصوّت في النهاية لنا، لأنّك ستحتاج للخدمات والأموال التي نوزّعها إذا ناصرتنا”.
لكنّ الواقع اليوم هو تقليص الخدمات بعد الأزمة حتّى عن حدّها الأدنى، فلا كهرباء ولا طبابة ولا أجور، وفقرٌ ينتشر بشكلٍ واسع. هكذا تحوّلت المعادلة إلى توجيه اللوم على “الآخر”، اللاجئ السوري وإلى قمع الحريّات: “كلّ المصائب تأتي من اللاجئين.. فاسكت حتّى نجد لهم حلاًّ”.
بالتأكيد أيضاً، تحمّل لبنان واللبنانيّون عبئاً كبيراً جدّاً من اللاجئين السوريين. ولكنّهم اليد العاملة الرخيصة لأعمالٍ لا يقوم بها اللبنانيّون واللبنانيّات، حتّى قبل الصراع السوري، في كافّة البلدات والقرى اللبنانية. وهذا ما يزيد من إنتاجيّة البلاد. وأتت معهم مساعدات خارجيّة توزّع أغلبها بالليرة اللبنانيّة عليهم من قبل أحد المصارف اللبنانيّة. ما يعني أنّ هذه المساعدات تأتي بعملة صعبة لاقتصاد البلد وتنمّي الاستهلاك والإنتاج. كما جلب وجودهم مساعدات أخرى خارجيّة لدرء أعباء تواجدهم وكذلك الأزمة الحاليّة. ليس كلّ السوريين في لبنان لاجئين، بل أيضاً بينهم أصحاب مهن وفعاليّات اقتصاديّة عانت من الصراع في سوريا ومن العقوبات ثمّ فقدت أموالها في المصارف اللبنانية بسبب الأزمة، كما هو حال اللبنانيين. ولا علاقة للسوريين بالانهيار المالي اللبناني، فهو نتيجة سياسات السلطة “التعدديّة” وتورّط عدّة دول خارجيّة معها.
ربّما الأفضل أن يَرحَل أو يُرَحَّل جميع السوريين إلى سوريا دفعةً واحدة وتتحمّل السلطة هناك عبئهم. برغمَ أنّ هذا لن يُعيد اللبنانيّين، وخاصّةً الشباب، الذين هاجروا من جرّاء الأزمة بحثاً عن عملٍ كريم
ليس لوم “الآخر”، المقيم، حكراً على الوضع اللبناني، بل يتردّد عموماً في جميع البلدان، حتّى تلك “الديموقراطيّة”، في زمن الأزمات. فـ”الآخر” مكسر عصا الأزمات ومبرّر كبح الحريّات. وفي مناخ التهييج حول “الآخر”، يتمّ إسكات أصوات المحامين اللبنانيين لدفاعهم عن أموال المودعين وتجاوزات السلطة، ويتمّ كبح القضاة الذين يحققّون في التجاوزات أو يطردوا، ويتمّ اعتقال السوريين الشباب دون إقامة صالحة وإرسالهم إلى الحدود، في حين لا تعمل مؤسسات الدولة أصلاً لتنظيم إقامتهم.
فالمطلوب من المحامين والقضاة الالتزام بقواعد مسار “اللا إصلاح” كي يفقد المودعون الأمل ويتحمّلون طوعاً الخسارة المالية الكبرى. وعلى السوريين اللاجئين أن يستزلموا لـ”أمراء الحرب” في لبنان كي يحصلوا على إقامات ومساعدات وخدمات، كما اللبنانيين.
ليس من السهولة بمكان إيجاد حلٍّ لأوضاع لبنان. ربّما الأفضل أن يَرحَل أو يُرَحَّل جميع السوريين إلى سوريا دفعةً واحدة وتتحمّل السلطة هناك عبئهم. برغمَ أنّ هذا لن يُعيد اللبنانيّين، وخاصّةً الشباب، الذين هاجروا من جرّاء الأزمة بحثاً عن عملٍ كريم. ليس فقط لأنّهم فقدوا الأمل بـ”الإصلاح” وتجاوز الانهيار المالي، بل خاصّةً لأنّ لبنان يفقد ميزته الأساسيّة.. وهي الحريّات العامّة.
تبقى الحريّات العامّة هي مكمن التحدّي الحقيقي للنموذج اللبناني ورهانه الأساسيّ هو قدرته على الحفاظ عليها. إنّها الثروة التاريخيّة التي لا يُمِكن لا للنفط والغاز ولا لتدفّق السوّاح والمستثمرين التعويض عنها.