

يدير رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو حربه ضد غزة بخليط من المناورة السياسية والتوظيف المحسوب للتناقضات الداخلية والخارجية. ففي الوقت الذي يراكم فيه مكاسب خطابية داخلية، يحافظ على هامش المناورة مع الإدارة الأميركية، التي بدورها تمارس تبادل أدوار واضح مع إسرائيل: تضغط تارة بصفتها “الوسيط النزيه”، وتتبنى تارة أخرى منطق الاحتلال نفسه لا بل أهدافه.
المسار التفاوضي الجاري، اليوم، في حقيقته، ليس مسارًا لاستعادة الأسرى أو تخفيف الكارثة الإنسانية، بل هو أداة لفرض تصور استراتيجي كامل حول ما بعد الحرب، يراد له أن يفضي إلى إعادة صياغة بنية الحكم في غزة، وتفكيك المقاومة الفلسطينية، وتحويل القطاع إلى كيان منزوع القدرة الوطنية.
وهذه الرؤية لا تُبنى فقط على طاولة التفاوض، بل تُدار بمنظومة مركبة، تتداخل فيها القوة العسكرية مع الضغوط السياسية والدبلوماسية، لتكريس “حل” يخدم الهيمنة الإسرائيلية ضمن عملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالح واشنطن وتل أبيب.
أمام هذا التعقيد، يصبح التفاوض بالنسبة للمقاومة معركة لا تقل خطورة عن ميادين الاشتباك، حيث تتحدد فيها ملامح ما سيبقى من غزة كحاضنة للمشروع الوطني الفلسطيني، أو ما سيُنتزع منها لحساب مشاريع إعادة الهندسة السياسية والأمنية في المنطقة.
نتنياهو ومعادلة استثمار التعقيد الداخلي
برغم وجاهة التقديرات التي ترى في سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لتمرير الوقت حتى عطلة الكنيست الصيفية التي تبدأ اليوم (الخميس) وتستمر حتى تشرين الأول/أكتوبر المقبل، وسيلةً لحماية ائتلافه الحكومي المهتز، إلا أن هذه القراءة، وإن كانت صحيحة جزئيًا، لا تكفي لتفسير مجمل سلوكه السياسي والميداني. فقد أظهرت محطات سابقة أن حسابات الداخل الإسرائيلي – بما فيها استقرار الائتلاف الحكومي – ليست العامل الحاسم الوحيد في قرارات نتنياهو، بل هي مجرد عنصر ضمن شبكة أعقد من المصالح والتوازنات التي يديرها بدهاء.
في الواقع، يُظهر نتنياهو قدرًا كبيرًا من السيطرة على المشهد الداخلي، وهو يُحسن توظيف التناقضات داخل حكومته بشكل يخدم مصالحه الاستراتيجية. فعلى سبيل المثال، يستثمر حاليًا في الأصوات المتطرفة الصاعدة من وزراء مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، التي تدفع نحو الحسم العسكري الكامل، مقابل موقف الجيش الذي يميل إلى خيار التهدئة واستعادة الأسرى. هذا الصراع الظاهري يمنح نتنياهو هامش مناورة داخلي، كما يُخفّف الضغط الخارجي، خصوصًا من قبل الولايات المتحدة، إذ يظهر بمظهر العالق بين تطرف شركائه، وواقعية المؤسسة العسكرية.
ولا شك أن نتنياهو يُدرك أهمية صفقة التبادل في هذه المرحلة، من منطلق سياسي بحت. إذ بات واضحًا أن استمرار وجود الأسرى في غزة هو العقبة الرئيسية أمام توسيع العدوان ليصل إلى عملية عسكرية شاملة، كما أن مقتلهم خلال أي تصعيد ستكون له تداعيات كارثية على مستقبله السياسي. لذلك، فإن إنجاز صفقة تبادل، تتيح له الادعاء بتحقيق إنجاز استراتيجي داخلي، دون تقديم تنازلات كبرى، تبدو الخيار الأمثل له في هذه اللحظة، مع ترك الباب مفتوحًا لكل الخيارات.
ليست صفقة بأي ثمن
لكن مع ذلك، يجب التنبه إلى أن نتنياهو، برغم حاجته للصفقة، لن يذهب نحو اتفاق بأي ثمن، خصوصًا إذا كان يُظهر نجاحًا للمقاومة في تحصيل شروطها الرئيسية، أو يُجرّد إسرائيل من مكتسبات ميدانية حقّقتها خلال الحرب.
بل على العكس، قد يلجأ في أي لحظة إلى قلب الطاولة، وتحويل كل المؤشرات الإيجابية ومسار التفاوض الحالي إلى حملة دعائية تبريرية، مفادها أن إسرائيل قدمت أقصى ما يمكن، لكنها اصطدمت بموقف فلسطيني متعنت، يرفض الاتفاق ويُفشل المبادرات.
ومن المهم الإدراك، أننا لسنا أمام عدو مهزوم يبحث عن مخرج، بل أمام منظومة احتلال تعيش لحظة نشوة وغطرسة غير مسبوقة، وتتعامل مع الإقليم بمنطق القوة والهيمنة المطلقة، وعلى رأسها نتنياهو. وبالتالي، فإن المبالغة في الرهان على رغبته في الصفقة قد تكون خطأ استراتيجيًا. فالبُعد السياسي الداخلي، وإن كان حاضرًا في حساباته، إلا أنه ليس وحده من يتخذ قراراته، ولا يمكن أن يغطي على طموحاته الأوسع.
تجاهل هذه الطموحات الاستراتيجية – سواء المتعلقة بإعادة هندسة مستقبل غزة، أو ترسيخ وقائع جديدة في الضفة، أو حتى فرض رؤيته لما يُسمى “شرق أوسط جديد” – يُعدّ تسفيهًا لحقيقة هذه الحرب، ولطبيعة العدو. نتنياهو يفاوض لا لإنهاء الحرب، بل لإعادة صياغتها؛ وتعامله مع الصفقة المحتملة ليس من موقع التراجع، بل من موقع الاستثمار المدروس في موازين القوى والتقاط اللحظة.. وهذا هو سلوكه في الساحات الأخرى ولا سيما في سوريا ولبنان، ويسري ذلك على القانون الذي أقره الكنيست، أمس (الأربعاء) ويدعو الحكومة إلى فرض السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية.
تدفع واشنطن نحو إعادة توزيع الأدوار، عبر الطلب من حكومة نتنياهو إزاحة أدوات الضغط العسكري المباشر لصالح أدوات ضغط أميركية، تتضمن حزمة حلول منسقة إقليميًا، تستهدف في جوهرها إعادة صياغة مستقبل قطاع غزة. هذه الصياغة لا تهدف فقط إلى وقف الحرب، بل إلى تحييد القطاع من مساهمته الوطنية الفلسطينية، وتفكيك بنية المقاومة، لصالح بنية بديلة أكثر توافقًا مع الرؤية الأميركية-الإسرائيلية
تبادل أدوار أميركي-إسرائيلي
يتضح من مسار التفاوض الجاري أن هناك تنسيقًا عميقًا بين الولايات المتحدة وإسرائيل، يتجاوز التفاصيل التكتيكية إلى التفاهم على خطوط استراتيجية عليا تحكم شكل الصفقة ومآلات الحرب. ويبدو الطرفان متفقَين على الحد الأدنى والحد الأقصى الممكن قبوله، سواء في ما يتعلق بإطار الصفقة، أو بمحددات إنهاء الحرب. هذا التفاهم يتأسس على قناعة مشتركة بضرورة تحقيق أهداف الحرب – سواء عبر الضغط العسكري المباشر أو من خلال أدوات سياسية ودبلوماسية.
وفي هذا السياق، يبدو جليًا أن الطرفين ينتهجان أسلوب “تبادل الأدوار” على طريقة “الشرطي الجيد.. والشرطي السيء”: إسرائيل تُمارس لغة التهديد والتصعيد، بينما تضطلع واشنطن بدور الراعي الحريص على التهدئة، في محاولة لخلق بيئة ضغط تفاوضي على المقاومة، تؤدي إلى انتزاع تنازلات جوهرية دون الحاجة إلى تقديم مقابل حقيقي.
وبرغم أن الطرفين يريدان إنجاز الصفقة، إلا أنهما لا يريدان التوصل إليها بأي ثمن. بل إن الجهد الأساسي منصبّ على تفريغ الصفقة من مضمونها السياسي، وتحويلها إلى مجرد عملية تبادل، تضمن استعادة الأسرى الإسرائيليين مقابل ثمن منخفض لا يرقى إلى كونه اعترافًا بصمود المقاومة أو تحقيقًا لمطالبها الجوهرية في وقف العدوان ومفاعليه.
ومع ذلك، فإن واشنطن وتل أبيب تدركان أن إتمام الصفقة – حتى في صورتها المختزلة – قد يؤدي تدريجيًا إلى وقف كامل للعدوان، لكن وفق شروط محددة سلفًا، تقوم على نزع سلاح المقاومة، وتفكيك بنيتها، وإحلال منظومة حكم بديلة في قطاع غزة، تتماهى مع الرؤية الإسرائيلية-الأميركية لمستقبل القطاع، وتتناسب مع ترتيبات “اليوم التالي” التي يجري التمهيد لها منذ أشهر.
مفتاح الحل.. ومفتاح استمرار الحرب
وهنا، لا يمكن فهم القتال المستمر في قطاع غزة خلال الأشهر الأخيرة بوصفه مجرد استكمال لأهداف الحرب التقليدية، بل هو في جوهره صراع على مستقبل الحرب ذاتها، وعلى شكل قطاع غزة في مرحلة ما بعد العدوان.
بكلمات أدق، يدور القتال حول “اليوم التالي” للحرب، كمصطلح بات يختزل التطلعات الاستراتيجية لكل من الاحتلال الإسرائيلي والإدارة الأميركية، بل وتحولت معالمه إلى نقطة الارتكاز الرئيسية في النقاشات الجارية.
هذا ما تجلّى بشكل واضح مع استئناف المسار التفاوضي مؤخرًا، حيث أعلنت الإدارة الأميركية صراحة امتلاكها تصورات حول “اليوم التالي”، شرعت في عرضها خلال اجتماعات مكثفة، من أبرزها اللقاء الذي جمع المبعوث الأميركي، ستيف ويتكوف، مع وزير الشؤون الاستراتيجية في حكومة الاحتلال، رون ديرمر، والذي وضع “إطار ويتكوف” كأساس للعودة إلى التفاوض. وقد وافقت إسرائيل على هذا الإطار، ما مهّد فعليًا لاستئناف المحادثات.
في العمق، تدفع واشنطن – بعد فشل إسرائيل في انتزاع نصر حاسم بالوسائل العسكرية – نحو إعادة توزيع الأدوار، عبر الطلب من حكومة نتنياهو إزاحة أدوات الضغط العسكري المباشر لصالح أدوات ضغط أميركية، تتضمن حزمة حلول منسقة إقليميًا، تستهدف في جوهرها إعادة صياغة مستقبل قطاع غزة. هذه الصياغة لا تهدف فقط إلى وقف الحرب، بل إلى تحييد القطاع من مساهمته الوطنية الفلسطينية، وتفكيك بنية المقاومة، لصالح بنية بديلة أكثر توافقًا مع الرؤية الأميركية-الإسرائيلية.
وهنا، لا يمكن عزل هذا المسار عن المشروع الأميركي الأشمل في المنطقة، والذي تتضح ملامحه في محاولات تفكيك ممنهجة لقوى الرفض والمواجهة في الإقليم، ليس فقط من خلال العمليات العسكرية أو الحصار، بل عبر توظيف أدوات محلية وسلطوية داخل دول المنطقة، وبإشراف مباشر من المبعوثين الأميركيين، في إطار استراتيجية ترمي إلى بناء “شرق أوسط جديد” يخدم المصالح الأميركية، ويعزز الهيمنة الإسرائيلية على الإقليم بأسره.
في مقابل هذا المشهد، يلعب نتنياهو دور “البلطجي” الإقليمي، الذي لا يعترف بأي خطوط حمراء، ويستخدم فائض القوة العسكرية لتنفيذ هجمات متكررة خارج الحدود. أما واشنطن، فتمنحه الغطاء اللازم لإثبات تفوّق إسرائيل الإقليمي، ليس فقط على أعدائها التقليديين، بل على كافة أنظمة المنطقة، بما فيها الحليفة للولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء.
ووسط هذه المعادلات المعقدة، يجب إدراك أن ما تديره المقاومة الفلسطينية خلف أبواب التفاوض ليس أقل خطرًا من المعارك الميدانية. فكل مكسب تفاوضي تنتزعه المقاومة، وكل بند تُفككه من خطط الاحتلال، يُعدّ خطوة نوعية في كبح المشروع الإسرائيلي الرامي إلى فرض واقع احتلالي دائم في غزة، وتقويض كل ما يمثل البعد الوطني والمقاوم في هذه البقعة، من دون إغفال الكلفة التي يدفعها الجمهور الفلسطيني، قتلًا وإبادةً وتدميرًا وتشريدًا وتجويعًا، في مشهدية ربما تكون غير مسبوقة في تاريخ الحضارة الإنسانية.
وعليه، فإن اختزال المشهد بمجرد كونه مماطلة من نتنياهو بانتظار إجازة الكنيست أو اتساقًا مع حساباته الداخلية، هو تسطيح بالغ للواقع، وتغافل عن المعركة الاستراتيجية الأعمق التي تدور الآن في دهاليز السياسة والتفاوض. فالمسألة ليست صراع مواعيد أو موازين حزبية إسرائيلية، بل هي معركة على الوجود الفلسطيني نفسه، وعلى منع الإبادة من التحول إلى واقع نهائي دائم، في أكثر المناطق صلابة وصمودًا فلسطينيًا في وجه المشروع الصهيوني.