الهزيمة كمفهوم.. أزمة الوعي العربي

الهزيمة الحقيقية تتشكّل في الذهن، حين تترسّخ صورة الذات على هيئة مفعول به دائم، قابل للهزيمة. في السياق العربي، يتجذر هذا التكوين في عجز مزدوج: غياب القدرة على فهم الذات بعيون نقدية، وغياب الرؤية المركبة للآخر خارج ثنائية العدو/المخلّص. لا تدور المعركة حول الأرض فقط، بل حول الكيفية التي يُصاغ بها العقل العربي داخل شبكة من المفاهيم المستوردة، والمرجعيات المعلّبة.

حين تفقد الشعوب السيطرة على أدوات إنتاج المعرفة، تفقد تدريجيًا قدرتها على صياغة شروط وجودها. المعرفة في العالم العربي تُنتَج من الخارج، وتُستهلك داخليًا كما لو كانت مسلّمات. تغيب الذات كمرجع تفسير، وتحضر كصدى. يتكوّن الفكر من مفردات أجنبيّة، تُحمَل كما هي، دون تهجين ولا تفكيك. بهذا الشكل، تتحوّل النخبة إلى وكيل معرفة، لا ولّادة أفكار، لا ويُصبح الجمهور مجرد مستهلكٍ للخطاب، لا متفاعلاً معه.

من يُعرّفنا؟ ومن نُعرّف؟

في معاهد الغرب، يُدرَس “العربي” كنموذجٍ إجرائي، تُستخدم فيه مفاهيم من قبيل “الريع”، “القبيلة”، و”الإرهاب”، كأدوات تحليلية جاهزة. لا تُترك له إمكانية الحضور بوصفه فاعلًا في التاريخ، بل موضوعًا للقراءة. في المقابل، لا يتوافر داخل السياقات العربية مشروعٌ معرفيٌ يُعالج الذات ككيان تاريخي واجتماعي متحوّل. يتكرّر الخطاب العاطفي، ويعاد تدوير الروايات المؤامراتية، دون التقدّم نحو خطاب تأسيسي يبتكر أدواته من بيئته.

الإنسان المؤجَّل: تآكل العلوم الإنسانية

حين تتقلص الفلسفة إلى مادة مدرسيّة، وتُهمّش السوسيولوجيا كترف أكاديمي، تتراجع صورة الإنسان بوصفه مركزًا للفهم. في الجامعة العربية النموذجية، لا يُدرَس الإنسان العربي كذات قابلة للتحوّل، بل كمعطى ثابت، يُعامَل كمشكلة أمنية أو كخطر رمزي. في هذا الفراغ، تحتل الإيديولوجيات مساحة الفهم، فتغيب التحليلات، وتحضر الخرافة. يُدار الحاضر بردود فعل، لا ببُنى تحليل.

إعادة الترجمة: استعمار الفهم

حين يُقرأ فوكو بوصفه زينة أكاديمية، ويُستورد ماركس لتبرير سلوك الدولة لا لفهم البنية، تُصاب المعرفة بالعقم. تُستورد المفاهيم من مختبر الآخر، وتُستهلك ضمن إحداثيات لا تخصّ السياق العربي. لا يُطرح سؤال: ما الذي نحتاجه من المفهوم؟ بل يُطرح سؤال: كيف نبدو أكثر حداثة حين نُردّده؟ في هذا المناخ، تتراجع الحاجة إلى الاجتهاد، ويُعاد إنتاج التبعية ضمن قالب نقدي ظاهري، يُكرّر ما قيل دون مساءلة شروطه.

ارتجال سياسي.. واجتماع بلا مرآة

السياسات تُبنى في لحظتها، دون عمق استراتيجي. تُتّخذ القرارات كردود فعل ظرفية، لا كرؤية ممتدة. في المقابل، لا ينتج المجتمع صورة معرفية عن نفسه. تغيب القدرة على التفسير، وتُستبدَل بالتقليد أو العداء. في لحظة ما، يتقمّص المجتمع شخصية غيره ليبدو حداثيًا، أو يرتدي رداء الرفض الكامل ليبدو أصيلًا. كلا الخيارين لا يصنع معرفة، بل يُعيد إنتاج قطيعة مع الذات.

نحو مشروع مفاهيمي تحرري

المعرفة ليست ترفًا فكريًا، بل قاعدة تحرّر. من دون استعادة القدرة على وصف الذات من الداخل، تفقد الشعوب سيادتها الرمزية. تحتاج النهضة إلى مناهج تعيد للإنسان العربي مكانه في مركز التحليل، لا في هامش القراءة. تحتاج إلى علوم إنسانية نابعة من وجدان ما بعد الاستعمار، لا من هوامش المعجم الأوروبي.

معركة المفاهيم

الحروب الكبرى تبدأ من اللغة. من يملك المفهوم، يملك التأويل. ومن يملك التأويل، يملك السلطة. الجغرافيا تُحتل بالقوة، لكن التاريخ يُحتل بالمعنى. لقد بنى الغرب صورة الشرق بالحكاية، بالصورة، بالدرس الأكاديمي. تُفرض الهيمنة عبر سردٍ طويلٍ لا يُقرأ، بل يُعاش. والمجتمعات التي لا تكتب نفسها، تتحوّل إلى أوراق بيضاء تُكتب بيد غيرها.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  "الترامبية".. باقية وتتمدد!
عبد الحليم حمود

رئيس تحرير مجلة "بوليتيكا"؛ روائي وفنان تشكيلي لبناني

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  أركون وفوكو.. هل العلوم الحديثة موضوعيّة فعلاً؟ (6)