الراويات التاريخية الوهمية.. وإشعال الفتن الحقيقية!

ذات ليلة وفي يوم عاصف ممطر في مدينتي، إرتعدت السماء وبرقت عمودياً على شكل خطوط متفرعة وصادف في ذلك اليوم وفاة رمز ديني مبجل. تناقل الناس خبراً أن السماء انشقّت حزناً بسبب تلك الذكرى. لم يصدق ذلك بسطاء الناس وعوامهم فقط بل حتى أكابر مثقفيهم الذين يحملون المعتقد نفسه!

كان الواعز معتقداً دينياً جعل العقل يربط بين ظرف جوي مرعب كئيب وبين ذكرى مؤلمة وذلك بتخيل ظهور خطوط البرق اللامعة في طيات السماء كالحة الظلام على أنها تشقق وتصدع، فمن شاهد أو شاهدوا هذا المنظر توهموا أنه نوع من المعجزة بحيث لا تُفسّر هذه الظاهرة الجوية بغير ذلك التفسير الواهم!
إذا كان هذا الخبر وليد عقود قريبة من الزمن، فما بالنا بروايات تاريخية وصلتنا منذ قرون بعيدة تحمل في طياتها قصصاً وروايات مشحونة بعواطف دينية وسياسية واجتماعية يشوبها وهم الخيال، وبالعادة يتولد الوهم من تشوه في صور حسية وصلت إلى عقولنا وهي تعكس حادثة من الحوادث فأدركتها خطأ أو تلقت صوراً واضحة عنها وأضافت إليها من تخيلاتها بما يلائم المزاج والمشاعر، وكل تخيل يدفع إلى تخيل آخر حتى ترتسم صورة عن الحادثة كما نريد وربما يزيد عليها من يأتي من بعد، فتتطور قصة الحادثة على ما كانت عليه، فتصبح جديدة تتوالد منها القصص.
يقول المؤرخ أسد رستم في كتابه “مصطلح التاريخ”: “قد تنقل الحواس الخبر اليقين إلى الدماغ، ولكن العقل يسيء التفسير فيخطئ فهمها وتعليلها، ويضل في وهمه، ومما نذكر من هذا القبيل، أننا في أثناء التلمذة، جلسنا مرَّة نصغي إلى أستاذنا يلقي محاضرة علينا في هذه الناحية من علم النفس، وفي أثناء الكلام سمعنا ضجة قوية خارج الغرفة. ثم دخل فجأة علينا رجل مذعور ووراءَه اثنان يلحقان به، وأحدهما يقول له: قف قف، وإلَّا قتلتك. وبيده مسدس صوَّبه إليه. فهرب الرجل الأول من باب آخر، وتبعه الرجلان الآخران. فقال لنا أستاذنا اكتبوا ما شاهدتم من هذه الواقعة. فكتبنا ما ورد في أعلاه، وبعد أن اطلع على شهادتنا في الأمر ضحك، ثم استدعى صاحب المسدس وسأله أن يُرينا مسدسه، ولشدة ما كانت دهشتنا حين علمنا أن مسدسه لم يكن سوى ثمرة جافة من أثمار الموز. أرأيتم إلى أي حد يُخدع العقل أحيانًا في استناده إلى حواس”؟
ليس الكذب وحده من يؤلف الحكايات الباطلة والروايات المختلقة بل التشويش الذي يصيب خيال الجماعات عن الوقائع وطرق تفسيرها ونظرتهم إلى شخوص قادتهم وزعمائهم بأنهم فوق مستوى البشر فتراهم يبالغون في فضائلهم وتفخيم ألقابهم ونسب المعجزات والكرامات إليهم، بل ينسبون كل الرذائل والقبائح إلى خصومهم ويشيعونها بين الناس مما يشجع على بغضهم والنفور من ذكر سيرهم. وما يزيد الطين بلة لصق جرائم فظيعة بهم لتفجر الغضب عند سامعيها وتحملهم على لعنهم وسبّهم الى أبد الدهر، وخاصة إذا غُلّفت تلك الروايات التي تتحدث عما ذكرناه بغلاف ديني فتصبح خارج النقد، بالرغم مما تتسم به من غلو في قدح المخالفين ورفع مناقب فرقة أو مذهب من المذاهب إلى مستوى الألوهية.
والملاحظ أن ملكة النقد تنطفىء عند أفراد جماعة ما لمجرد أن تخالف واقعة ما، سواء أكانت حقيقية أو وهمية، تلك المرويات التاريخية وخاصة الدينية. هؤلاء سواء كانوا من عوام الناس أو خواصهم لا يميّزون بين الصواب والخطأ في مثل هذه الأمور، بل يُصدّقون ما يسمعونه بلا تردد. وإن خطب فيهم خطيباً حاذقاً مُستخدماً جملاً مؤثرة وكلمات رنانة تخلب قلوبهم وتجذب مسامعهم، كان قادراً على اقناعهم بسهولة، وخاصة إذا كان الكلام الملقى فيه من الغموض والأسرار التي لا يعرف كنهها، كالتحدث عن معجزات في انتصارات حربية وخوارق مهولة تزرع الهيبة في نفوس سامعيها فتُبهر عقولهم وتجعلهم أسرى سردية الأمل بأن تحدث في زمانهم يوماً ما فيكونون أعلى الناس مقاماً وأكثرهم رفعة وتجعل أعداءهم ومن يكرهون.. في أسفل أرجلهم.

والروايات التاريخية في بطون الكتب عند أي أمة من الأمم، تكون مليئة بالخرافات والأساطير والمبالغات التي نسجها الوهم تارة وحبكها الكذب تارة أخرى لتلبي رغبات وأهواء وأهداف من رواها أو كتبها وحاجات جماعته أو حزبه أو أبناء بلده، فكان لزاماً عليه أن يُظهر النقد التاريخي ليمحص تلك المرويات ويُميّز صحيحها من سقيمها ويضع منهجيةً دقيقةً لغربلتها، وهذا هو علم الاسناد الذي تميّز به المسلمون.
إن منهج النقد التاريخي الغربي يماثل الى حد كبير المنهج الاسلامي من حيث انقسامه الى الآتي:

أولاً؛ النقد الخارجي الذي يهتم بصحة الوثيقة التاريخية (الرواية) وشواهدها وخلوها من التزوير والأخطاء والحشو ونقد مصدره (الراوي) من ناحية معرفته وتوثيقه أي اتصال السند وعدالة الراوي وصحة نسبة الخبر إليه.
ثانياً؛ النقد الداخلي الذي يهتم بكشف الخطأ والكذب والتدليس في مضمون الوثيقة التاريخية والتحقق من المعنى الذي أراده الراوي في روايته وهذا ما يسمى (النقد الداخلي الايجابي). أما التأكد من أن الراوي لم يُغيّر شيئاً في الرواية، كذباً أو خطأً أو مُكرهاً أو تزلفاً، فهذا يسمى (النقد الداخلي السلبي) بحيث تكون الرواية سليمة من الشذوذ والعلة.
في هذا السياق، جاء العلامة ابن خلدون بمنهج جديد في نقد الروايات التاريخية مع احاطته بمنهج علماء الحديث الذي بيّن أن الخطأ والكذب في المرويات أسبابه عديدة ومنها التحيز للآراء المذهبية والثقة بناقليها وتوهم إصابة الصدق فتلتبس الأمور عليهم.
لقد نشأ علم التاريخ الاسلامي متزامناً مع علم الحديث ومتأثراً به وعمد المؤرخون المسلمون إلى ذكر رواة الأخبار التاريخية وبيان مصادرها كما فعل العلامة محمد بن جرير الطبري في كتابه “تاريخ الأمم والملوك” حيث أورد روايات كثيرة عن حادثة أو واقعة وترك الأمر لمن أراد أن يعرف الصحيح والسقيم منها بمراجعة سندها والحكم على رواتها.
ويقول الطبري: “فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين، مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى في بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا”.

ندعو إلى إعادة النظر في تنقيح الأخبار التاريخية والمرويات الدينية بتطوير المناهج النقدية في ضوء التطور العلمي في ميدان علم التاريخ وفلسفته وعلم الآثار وعلم النفس وعلم الاجتماع.. وتثقيف الناس والنهوض بوعي المجتمع لينتقل من طور التفكير التلقائي السطحي إلى التفكير العلمي المنطقي

من المعلوم أن القواعد التي تحكم دراسة الأخبار التاريخية ليست نفسها القواعد المعمول بها في علم الحديث؛ ففي الأولى تساهل لأن مادتها غير متربطة بأحكام شرعية وأوامر ونواهٍ دينية ومن التعسف تطبيق منهج المحدثين على كل التاريخ الاسلامي إلا في الحوادث الحساسة مثل الأخبار المتعلقة بالمعارك وشخصياتها والفتن التي عصفت بالأمة الإسلامية وأفزرت فرقاً وأحزاباً سياسية تحولت مع الوقت إلى مذاهب فقهية وتلك الفرق والأحزاب لها رجالاتها الذين وضعوا روايات تخدم هذا الحزب وتلك الفرقة وتطعن في غيرها.

إقرأ على موقع 180  في ماهيّة الإسلام.. قرآنٌ خارج القرآن؟ (12)

يوثق كل مذهب أصحابه على أنهم ثقاة عدول وتجرح عدالة الرواة التابعين للمذاهب الأخرى وتشكك في مصداقيتهم الا ما لاءم معتقداتهم ومؤلفاتهم في عملية ليست موضوعية بل انحيازية غرضها اثبات صدق مروياتهم ونزاهة رواتهم وجعل الآخرين على العكس منهم.
وقد يظهر من المذاهب من يلتزم قليلاً أو كثيراً بالموضوعية فيضعف أخباراً تاريخية وروايات دينية وينصف من هو ليس على طرائق مذهبه. أضف إلى ذلك بعض المذاهب التي تضعف الكثير من الروايات ولا تعتبر أي كتاب صحيحاً بالكامل إلا القرآن الكريم.
والخطورة في الموضوع تبني أخبار تاريخية مصطبغة بصبغة عقائدية تعزز الشقاق بين أبناء الأمة بعيداً عن الصحة والمنطق والواقع وتجرح رموز المذاهب والأديان الأخرى فتؤدي إلى الحقد والبغضاء والشحناء وقد تصل إلى التقاتل بالأيدي والسلاح ظناً منهم أنها الحق الذي لا يُعلى عليه وأنها جزء من تاريخهم الذي يشكل هويتهم وهم على نهج أسلافهم الذين يفوقونهم علماً ومرتبة فهم مرجعهم في معتقداتهم ومعيارهم في معرفة الحق والباطل.
يعد التنازل عن الروايات التي تعتبر حقيقة مطلقة عند أصحابها تنازلاً عن مبادئهم فيصعب حينها التخلي عنها ولا ينفع لا عقل ولا منطق في دحضها ما دامت الجماعات مُسيّرة بالوهم والعاطفة لا بالعقل ومستسلمة بشكل تام لمرؤوسيها ممن يملكون القدرة على تنويم جمهورهم وايصاله الى حتفه.

ولو تطلب الأمر، فالمرء لا يكون متديناً بعبادة الله فقط بل عندما يضع نفسه وارادته في خدمة زعامة مسنودة من السماء، يصبح جزءاً من قطيع طيّع مفتون بمن يبيعه الأحلام التي يسعى لها. يكفي ايحاء الزعماء الدينيين لطائفة من الناس إلى درجة تجعل عاطفتهم تتأجج وفكرهم ينكمش فلا يرون إلا ما يرى الزعيم ولا يسمعون إلا ما يريد وهؤلاء الزعماء لهم القدرة بما يتصفون به من هيبة واجلال واكبار وتعظيم في نفوس مريديهم من تمرير ما يريدون وبالقائهم كلمات ذات بلاغة سحرية او غير مفهومة قادرة على اثارة العواصف في نفوس أتباعهم أو تسكينها.
لا تطلب الجماعات فلسفة ومنطقاً بل تطلب أوهاماً تعتقها من الواقع المرير وتلبي احتياجاتها النفسية والاجتماعية فتخلق قصصاً من مخيلاتها تساعد في خلق اللاواقع الذي يكون أكثر تأثيراً في النفوس من الواقع الحقيقي بل تفسر هذه الجماعات الواقع باللاواقع ليكون بديلاً عنه وتُعلّب الأوهام المرتكزة على الرغبات لا الحقائق.
إن التفسير الرغبوي التابع للخيال والانحياز التأكيدي هما اللذان يجعلان تفسير الوقائع متوافقاً مع معتقداتنا ونظرياتنا عن العالم بحيث نجد من الحجج ما يؤيد ذلك متجاهلين أي برهان مضاد. لهذا تعد المعتقدات الدينية والسياسية وحتى الفكرية مرتعاً خصباً للانحياز التأكيدي الذي يمنع الأفراد من تقييم حيادي للمعلومات والآراء والمعتقدات وهذا سبب من أسباب استمرار القصص الخيالية والروايات التاريخية المزيفة في المعتقدات المذهبية والأفكار الدينية، بل تجعل ذوي الألباب من المؤمنين يقومون بتسخير طاقاتهم وذكائهم في الدفاع عنها وتزيينها بحجج على انها منطقية ويضعون روابط وهمية تجميلية بين مادة الخيال فيها والواقع المحسوس فيعسر على الناس التخلص من سطوتها باعتبارها حقائق يقينية.
من المحال التخلص من الوهم الذي بدونه تصبح حياة الناس صعبة عندما ينظرون للأمور من منظار عقلي منطقي مجرد ويلغون دور الجانب الأيمن من أدمغتهم بل ننبه إلى عدم زرع أوهام ذات تأثير سلبي في العقول، ومثال هذا موضوعنا عن أثر الروايات التاريخية في تدعيم الفتن المذهبية والتجاوز على الرموز الدينية وتحشيد عواطف الناس نحو التطرف.
لذلك ندعو إلى إعادة النظر في تنقيح الأخبار التاريخية والمرويات الدينية بتطوير المناهج النقدية في ضوء التطور العلمي في ميدان علم التاريخ وفلسفته وعلم الآثار وعلم النفس وعلم الاجتماع.. وتثقيف الناس والنهوض بوعي المجتمع لينتقل من طور التفكير التلقائي السطحي إلى التفكير العلمي المنطقي، وهذا يتطلب جهداً مؤسساتياً من الدولة ونخبة من العلماء والمثقفين يساعد الناس على كسر قيود التخلف والجهل والانطلاق في رحابة العلم والإيمان الصحيح والالتزام بالخلق الرفيع.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  أوستن على رأس البنتاغون.. جدال حول "تسييس" العسكر