لكن أي سياسة “غائبة”، وأي سياسة “حاضرة”، وما معنى “تدبير السياسة”، وما السياسة في الفضاء العربي، وما القابليات الراهنة لتدبير السياسة، وأي أولويات أو أجندات أو “مانيفستو” للسياسة في المجال العربي اليوم؟
تدبير الحياة
ينطلق النقاش من أن السياسة هي “تدبير الحياة”، من خلال تدبير الحكم والسلطة والقوة، وضبط أو إدارة التفاعلات داخل المجتمع والدولة، وبينهما وبين العالم، بما يضمن المحافظة على الحياة، وإدارة وتنظيم ما يتعلّق بالإنسان من الولادة وحتى الموت، أو ما يسميه ميشيل فوكو “السلطة على الحياة”.([1])
تدبير السياسة هو تحرير التفكير والفعل السياسي، من المدارك النمطية والقيود والعقبات الإدراكية والنفسية والمعرفية، واحتواء ما يمثل تهديداً، واغتنام ما يمثل فرصة([2]). وهو أيضاً اتجاه للفعل وانخراط في الواقع، بقصد التدخل عليه وتغييره، حسب أنطونيو غرامشي([3]).
تصرَّفَ العرب في عدد من مجتمعات ودول الاحتجاج والحرب، وفي المجال العربي ككل، كما لو أن ثمة سبيل أو طريق واحد للسياسة، بالمعنى الذي درجوا عليه، وهو “الإمساك” بالقوة، وهذا يعني السيطرة على السلطة والدولة، إن أمكن التعبير، ما يفسر وجود فريقين رئيسين يتصارعان: الأول يريد انتزاع السلطة. الثاني يدافع عنها أو عن نفسه فيه أو ما يأمله منها
وهكذا، فإن السياسة ليست الصراع على المعنى والقوّة وتحقيق الغلبة فحسب، وهذا هو حالها في المنطقة العربية والمجال المشرقي عموماً، وإنما هي المداولة والمنافسة، ومن ثم فإن “تدبير السياسة” هو التفكر في السبل الممكنة لــ”إدارة المجال” والانتقال من الحرب إلى السلم، ومن الانقسام إلى الوحدة، ومن التنافر إلى التجاذب، ومن الملّة أو القبيلة أو الطائفة إلى الأمّة إلخ..
يحتاج العربُ اليوم إلى “إعادة التفكير” في كلِّ شيء تقريباً، مما يتصل بالهوية والشخصية الوطنية، والتاريخ، والدين، والاجتماع، والثقافة إلخ، ووعي أسباب “تآكل” المشروع الوطني والحضاري، وأسباب “تراجع” مشروع الدولة خلال قرن تقريباً على ولادتها أو تأسيسها الحديث. ووعي أسباب الإخفاق المتكرر أمام مشاريع الهيمنة الغربية، وتصاعد التطرف والطائفية، والاتجاهات الجهوية والانقسامية، إلخ..
ثمَّة حاجة لإدراك أن العالم “انتهى كما نعرفه”([4])، واختلفت معاني الهوية والأمة والدولة، والمجتمع أو البناء الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية، ونظم القيم وتحولاتها واتجاهاتها، وكل ذلك تقريباً يذهب باتجاه تعزيز التعددية والتحوّل ليس إلى الوحدة وإنما إلى الانقسام أو بالأحرى إلى “التيه”. التوحيد الرئيس هو ما تحاوله العولمة، في أبواب التجارة والمال والأعمال والاستهلاك، لدرجة أوصلت العالم إلى “اختلال” عميق أو مقيم([5])، وصولاً إلى “الغرق”([6])، في عالم من المخاطر ([7]).
السياسة بالعربي!
تصرَّفَ العرب في عدد من مجتمعات ودول الاحتجاج والحرب، وفي المجال العربي ككل، كما لو أن ثمة سبيل أو طريق واحد للسياسة، بالمعنى الذي درجوا عليه، وهو “الإمساك” بالقوة، وهذا يعني السيطرة على السلطة والدولة، إن أمكن التعبير، ما يفسر وجود فريقين رئيسين يتصارعان: الأول يريد انتزاع السلطة. الثاني يدافع عنها أو عن نفسه فيه أو ما يأمله منها.
هذا يعني أن “المعركة صفرية”، وحَدِّيّة وفسطاطية، “لا منطقة وسطى” و”لا حلول وسط”، وهذا ما يبدو واضحاً وغالباً حتى الآن في المشهد العربي، ولو أن إكراهات الحرب أحياناً ما تفرض على الأطراف القبول بـ”تسويات”، لكن من النمط المؤقت والخَتَّال والقابل للنكوص والارتكاس، والذي يعكس ميزان القوة و ديناميات التبعية والاختراق.
لكن “إخفاق” السياسة في المجال العربي، وخاصة في مجتمعات ودول الحرب، يعود في جانب منه إلى عدم الاتفاق على المعنى أو الفكرة نفسها، كما لو كانت (السياسة) متعالية لدرجة يصعب عليهم “الإمساك بها” و”تأريضها” و”عقلنتها”. وككل متعال لا بد أن يصبح مدخل صراع ومخرج صراع في آن.
كان الموت في سوريا وليبيا واليمن والعراق ظاهرة اعتيادية. قد لا يكون الموت ظاهرة يومية، وقد تتراجع الأعداد، لكن خوف الموت، وتهديد الموت، ومنعكس الموت، ظاهرة مستمرة، وتمثل خطراً وجودياً. والمفارقة أيضاً، أن في دفن الجثث مشقّة أكثر من الموت نفسه، كما في رواية للكاتب السوري خالد خليفة
تدبير إكراهات الحرب
مما يحتاجه العرب اليوم، هو “تَدَبُّر” السبل الممكنة لمواجهة الإكراهات القريبة والعاجلة للأزمات والحروب الدائرة في المجال العربي، من خلال وضع “خطة استجابة” نشطة وفعالة، تُوقِف تدهور القيم المشتركة، وتزايد الفجوة في مداركهم وتطلعاتهم حول طبيعة المجتمع والدولة، ما يهدد فكرة “مجتمع واحد ــ دولة واحد”، والفجوات أو الصدوع في مداركهم حول التعدد الاجتماعي: الديني والثقافي والعرقي واللغوي والجهوي المناطقي وحتى الطبقي والجندري إلخ، وهكذا فإن العرب اليوم يحتاجون لسياسات تُوقِفُ:
- تدهور قيمة الحياة وقيمة الإنسان الذي أصبح بفعل الصراع والحرب “مهدوراً” و”بلا معنى” تقريباً.
- تدهور في مؤشرات العيش، وتدهور القدرة على تأمين الاحتياجات الأساسية.
- تدهور قيمة الوطن والانتماء له، وبروز نزعات واتجاهات الاغتراب والتخلي والهجرة واللجوء.
- تراجع الثقة بالمستقبل.
وتزداد الحاجة اليوم إلى “تَدَبُّر” سياسات تحد من “العبث” و”اللا معنى” و”التخلي” لدى الناس، مجتمعات ودولاً وسياسات، بحيث:
- ينظر أهل السياسة والحكم إلى المجتمع وفواعله بوصفهم مصدر الشرعية ومبرر الوجود السياسي لكل فاعل حكومي أو أي فاعل في الشأن العام، وليس عبئاً.
- أن تضع الدولةُ المجتمعَ في موضع “المنتج” وليس “العالة”، و”صاحب الحق” وليس “طالب الحاجة”.
- العمل على استعادة الثقة على صعيد البناء الاجتماعي والتفاعلات الاجتماعية، وإعادة الاعتبار لفكرة “الخدمة العامة” و”العمل العام” و”الوطن” و”الدولة”.
- احتواء مصادر وقابليات التدخل والتغلغل الخارجي. ومراجعة طبيعة العلاقة مع الخصوم والحلفاء في آن، بل الاتفاق على “ما” و”من” يمثل خصماً، و”ما” و”من” يمثل حليفاً!
الموت وتجارته!
أخذ الموتُ يُمَثِّل ظاهرة “أقل من عادية” في عدد من مجتمعات الحرب. وأصبح عدد الضحايا خبراً يومياً في وسائل الإعلام، وموضوع تقديرات إحصائية مختلفة، وبارومتر أي تتبع ارتفاع أو انخفاض الأعداد، مما ينشره عدد من المنظمات ومراكز البحث ووسائل الإعلام حول العالم.
من المفارقات مثلاً، ان “معظمنا يائس. مصاب بداء الإحباط، ووباء العدم، واللا جدوى. على هذه الأرض نبحث عن الموت فلا نجده. كما قال الشاعر الوزير المهلبي: ألا موت يباع فاشتريه/ فهذا العيش ما لا خير فيه”.([8]).
كان الموت في سوريا وليبيا واليمن والعراق ظاهرة اعتيادية. قد لا يكون الموت ظاهرة يومية، وقد تتراجع الأعداد، لكن خوف الموت، وتهديد الموت، ومنعكس الموت، ظاهرة مستمرة، وتمثل خطراً وجودياً. والمفارقة أيضاً، أن في دفن الجثث مشقّة أكثر من الموت نفسه، كما في رواية للكاتب السوري خالد خليفة.([9])
وظهرت في عدد من المجتمعات والدول العربية أنماط قيم وعيش جديدة أو لم تكن ظاهرة أو حاضرة كثيراً قبل الحرب: التربُّح واستغلال الحرب للحصول على الريع، بما في ذلك ظواهر أو اقتصاديات “الإتجار بالناس” أو ما يمكن أن يسمى “رقيق الحرب”، واختطاف الأفراد لأغراض المال (الفدية)، والاستغلال الجنسي للنساء والأطفال، والإتجار بالأعضاء. ويمكن الحديث عن “جهاد النكاح”، وظاهرة “أطفال داعش”، والفقر، والعائلات من دون معيل، والتشرد، وغيرها.
أُسُّ السياسة
لعل من أكثر الأمور حساسية وأولوية وخطورة في آن، هو “أس السياسة”، بما هي (السياسة) توزيع الموارد المادية والمعنوية، أو ضبط إنتاجها وتوزيعها، وتفاعلات مختلف الأطراف والفواعل.
ولو ان تحديد ذلك أصبح أمراً بالغ الصعوبة، وخاصة مع تغيرات في مدارك السلطة وقوة الدولة وشرعيتها أمام العالم، وقابليتها وشرعيتها لدى الناس، وسيولة التدفقات بين الداخل والخارج. وما يعنيه ذلك من صعوبة ضبط الموارد المادية والمعنوية، بين الداخل والخارج، وذلك في مستويين رئيسين:
- تدفق الموارد من الخارج، الأمر الذي يقلل الاعتمادية على السلطة والدولة، بل يحاول التأثير فيهما، وخلق ولاءات بمعزل عنهما، وربما في مواجهتهما، في نهاية المطاف.
- تدفق الموارد من الداخل إلى الخارج، متمثلاً في تهريب الاموال إلى خارج البلاد، وخروج الرأسمال البشري، هروباً من التزامات أو إكراهات سلطات الأمر الواقع، أو بحثاً عن بيئة عمل أكثر أمنا واستقراراً إلخ..
ان توزيع السياسة والسلطة، هو أمر لازم أو واجب؛ ولكن ليس المقصود هنا توزيع “معنى” أو “روح” السيادة؛ أو أن تكون السلطة “انعكاساً” لأنماط القوى والتفاعلات في الواقع أو في المجتمع وخاصة في لحظة الحرب.
انكفاء السردية العروبية والسرديات الوطنية كان له تأثير بالغ الخطورة على المنطقة. ومن ذلك مثلاً: الارتداد إلى سرديات أو هويات وروابط المِلَل والنِّحَل والقبلية والعشائرية. والارتداد عن الدولة أو الانقضاض عليها، بمجرد الشعور بضعفها، وتوفر عوامل دعم وإسناد من الخارج. وبروز سرديات كبرى بديلة
التفكير في الدولة
يحتاج العرب اليوم لـ”إعادة التفكير في الدولة”،([10]) معنى الدولة ومركزيتها وأولويتها على المجتمع، وخاصة في حالات الحرب، وربما في مرحلة ما بعد الحرب، وحتى تستقر الأمور. هذه مسألة يجب أن تكون من “الثوابت” و”المسلمات”. وبناء على خبرات الصراع والحرب في المنطقة والعالم، وخاصة ما اتخذ منها طابع الصراع أو الحرب الداخلية، فإن ما بعد الحرب يتطلّب تمركزاً –متوافقاً عليه وطنياً ــ لسلطة تقدير الموارد المادية والمعنوية، وكيفية توزيعها، وهذه مسألة عقدية وتأسيسية، وفي قلب أي كيانية وهي عامل قوة وتماسك أي دولة، وتقوم فيها مقام الضرورة، كيف إذا كانت في حالة حرب أو صراع؟
قد لا تكون المهمة سهلة، لأن طبيعة النظام السياسي وفكرة الدولة وعَقْدَهَا في مرحلة ما بعد الحرب، من المحتمل أن تكون جزءاً من سياسات “الحل/التسوية”. وهكذا، فإن من الخطر أن تكون “دولة ما بعد الحرب”، هي مما يتم التفاوض بشأنه وما سوف يتم تظهيره وتنفيذه تحت التهديد باندلاع الحرب مجدداً. لكن بقاء الدولة الوطنية متماسكة وقوية هو هدف رئيس، هو حاجة أولية بالنسبة للمجتمعات فيها، وهذا ما يجب أن يحاولوه ويكافحوا من أجله.
لا بد من أن نستدرك في بعض ما ذُكر أعلاه، من أولوية الدولة على المجتمع، إذ ليس المقصود “أولوية” أو “قوامة تامة” ومُطلقة على المجتمع، بما يفضي إلى نظم حكم تسلطية وقاهرة، كما هو حال معظم دول المنطقة العربية والشرق الأوسط، وإنما “قوامة مرحلية” بحكم إكراهات ومتطلبات إعادة الأمن والاستقرار للمجتمع والدولة، في مواجهة نزعات “الانقسام” و”التشظي” و”اللا دولة”، وقيم الإرهاب والتكفير إلخ..
وإذاً، فإن المهمة تتطلب دولة قوية، بإجماع أو توافق وطني، ولا يُفترض بالدولة القوية أن تكون متسلطة أو ظالمة أو ثقيلة على شعبها، وليس من السهل أن تكون الدولة في هذا المشرق ــ وربما في العالم اليوم ــ قوية وعادلة بالفعل!
السرديات والقابليات
المجتمعات العربية بحاجة لمشروعات وطنية، (على مستوى كل بلد)، ومشروعات وعناوين وسرديات كبرى (على المستوى العربي). والقول بأن الشعوب مَلَّت من ذلك هو قول غير دقيق، بل ان ثمة حاجة ملحة لمشروعات كبرى تنسجم أو تتوافق ـ بكيفية ما ـ مع الذهنية والثقافة والتاريخ والمخيال لدى تلك المجتمعات. وإن انكفاء السردية العروبية والسرديات الوطنية كان له تأثير بالغ الخطورة على المنطقة. ومن ذلك مثلاً: الارتداد إلى سرديات أو هويات وروابط المِلَل والنِّحَل والقبلية والعشائرية. والارتداد عن الدولة أو الانقضاض عليها، بمجرد الشعور بضعفها، وتوفر عوامل دعم وإسناد من الخارج. وبروز سرديات كبرى بديلة مثل السردية الإسلاموية الجهادية، التي كان لها جاذبية اجتماعية كبيرة للمجتمعات والدول والأقاليم.
وأظهرت التطورات في المنطقة العربية، وخاصة مع حدث العام 2010 ــ 2011، أن الضغوط الاقتصادية والمعيشية لا تُغيِّب الحاجة للثقافة والقيم والهوية. وليس صحيحاً أن الناس تعزف عن السياسات الكبرى إلى حاجاتها اليومية الصغرى أو الأساسية، بل أن ما يحدث في العمق قد يكون العكس تماماً، ربما لا يظهر ذلك في الواقع مباشرة، إنما يزداد في حيز الإمكان والمخيال والتوقع، بما فيها:
- قابلية تجديد العلاقة مع المشروعات أو السرديات الكبرى، إذا أظهرت فواعلها جدية في العمل. وسبقت الإشارة إلى أن قابلية السرديات الكبرى لا تزال قائمة، بل أن الانتشار واسع النطاق، قل: عالمي النطاق، للإيديولوجيات الجهادية، ومنها “القاعدة” و”داعش”، مثال على ذلك. لكن الملغّز في الأمر، هو افتقار الفضاء العربي لأي سرديات أو إيديولوجيات أخرى ذات جاذبية كبيرة وقادرة على المنافسة!
- احتمالية متزايدة لقبول أي أفكار مطروحة، تحت ضغوط وإكراهات الحرب، وقد يتحوّل المؤقت إلى دائم أو شبه دائم، أو أنه يؤدي إلى وقائع جديدة سوف يكون من الصعب تجاوزها. وهكذا أصبح الليبيون مثلاً أكثر قابلية لمشروعات منها ما هو دون الدولة التي كانت قائمة، كيانيات تقسيمية مناطقية وقبلية، ومنها ما هو أكبر أو يتجاوز فكرة وحدود تلك الدولة، مثل اتجاهات الجهادية الإسلاموية، سواء وفق مقولات “داعش” و”القاعدة” أو مقولات الأسلمة في أفق المشروع الإخواني (والتركي). ويمكن أن تجد ديناميات وتشكلات مشابهة في اليمن وسوريا والعراق.
- تزايد فواعل وبنى وشبكات “موازية”، بحيث تبقى الدولة من حيث البنى والأشكال والأنماط، ومن حيث الاعتراف الدولي بها، إلا أنها لا تملك السلطة والولاية على كامل جغرافيتها، ولا القدرة على ضبط الحدود أو ضبط التدفقات المادية والمعنوية عبرها. ولا التدفقات السياسية والأمنية، وبالطبع وجود بنى وشبكات وتفاعلات أمنية موازية. وهذا أحد أشكال الدولة الهشة أو الفاشلة. ولو أن الأوضاع في عدد من المجتمعات والدول العربية مرشحة للمزيد، في ظل تعقيدات المشهد في كل بلد، بروز اتجاهات كيانية دولتية أو شبه دولتية، وإخفاق السلطات في “إعادة توحيد البلاد” أو إعادة فرض السلطة على كامل جغرافيتها. بل ان عدداً من المجتمعات أصبح ذو انقسامية حادة، وعدداً من الدول أو نظم الحكم قريبة من الانهيار، ومنها ما لا يزال قائماً بفعل توافقات وليس بفعل قوته الذاتية.
- بروز متزايد لـ”هويات فرعية” تعطى الأولوية أو الأولوية النسبية من منظور المنتمين لها، ليس أولوية انقسامية بالضرورة، إنما أولوية “الحفاظ على الذات” في إطار الدولة، الأمر الذي يعني إما الاتجاه للإمساك بالسلطة، أو الاتجاه لمقاومة مركزة السلطات، أو العمل على الإبقاء عليها سلطة ودولة “توافقية”، بالتعبير اللبناني، أو دولة “الحد الأدنى” من السلطات، وتحت مساءلة مراقبة دائمة وفق ميزان الملل والنحل والطوائف والجماعات والجهات إلخ. وتجد مثل ذلك في حالة العراق. وثمة توجه مشابه في سياسات التسوية/الحل للأزمة السورية.
من أولى أولويات العرب اليوم هو أن يستمعوا إلى “ندائهم الخاص الذي يهيب بهم أن يعودوا إلى ذواتهم”، بتعبير إريك فروم، وهي مهمة لا شك غير يسيرة، إلا أنها واجبة
في الأولويات اليوم
ان الأولوية اليوم هي لـ: استنهاض “روح الأمة” أو “روح الشعب” في مواجهة مصادر التهديد المختلفة، ومنها رهانات التدخل والاختراق الخارجي. ونعني بـ”روح الأمة” أو “روح الشعب” الوعي الجمعي والاهتمام بمعاني المجتمع والأمة والدولة إلخ..
ومن الأولويات أيضاً نقد منطق الهزيمة، ليس بإنكار الواقع، وإنما بفهمه وتحليله واستخلاص التعميمات حوله، ذلك أن الهزيمة ليست قدراً. وتفكيك السرديات الواهمة حول إخفاق العرب في اختبار الدولنة والديمقراطية والتنمية، ونجاحهم الملغّز في البقاء خارج التاريخ، وفي ذيل قوائم الحريات والحقوق، وعلى رأس قوائم الاضطهاد والفقر والهجرة واللجوء.
قد يبدو هذا الكلام عن الأولويات مُستعاداً من فترة سابقة، ومن سياق ربما عدّه كثيرون “منتهي الصلاحية”، إلا أن فكرته ومنطقه وبداهته لا خلاف حولها. ولكن هل ثمة اعتراض ممكن أو محتمل على فكرة أو مبدأ استنهاض “روح الأمة”، في لحظة عولمية كاسحة لكل شيء تقريباً؟ هذا هو بالذات أحد مصادر عودة التوجهات القومية (والكيانيات الجهوية والمناطقية إلخ) وربما “الشعبوية” في غير مكان من العالم،([11]) ولو أن ذلك يتخذ سمات “أكثر يمينية” على ما يبدو.
المفارقة أن الأزمات والحروب في سوريا وليبيا واليمن وغيرها خالفت ـ من حيث الواقع والتداعيات ـ ما نتحدث عنه، إذ لم تظهر نزعة وطنية أو قومية أو حتى “شعبوية” ناشطة مثلاً. هذا يعني أن ثمة “اختلال” قد يكون عميقاً في “وعي الحدث والواقع”، و”وعي الاستجابة” المجتمعية والفكرية والنفسية حياله، وهذ أمر واضح من نواح كثيرة.
لكن ما نقوله هنا لا يدعو لــ”الشعبوية”، لكنها إشارة إلى ظاهرة مفقودة تقريباً أو غير واضحة بالقدر الكافي في المشهد العربي، باعتبار أن “الشعبوية” وبصورة خاصة “اليمينية” منها هي من أكثر أنماط الاستجابة بروزاً في عالم يمثل الخطر والتهديد أحد أهم سماته. وهذا باب فيه كلام كثير.
في الختام
يبدو أن العرب لم يتمكنوا ـ حتى الآن ـ في مباشرة مهمة ملحة وهي تدبير السياسة، وذلك لأسباب عديدة، لعلّ في مقدمها أنهم لم يتفقوا بعد على “تشخيص” ما هم فيه، وتقصّي أسسه العميقة. ولا يبدو أنهم قادرون على ذلك، ليس لأنهم لا يريدون، وإنما لأن ثمة “عقبات معرفية”، ربما لم يولوها الاهتمام اللازم. فقد كانوا ـ ولا يزالون ـ يفتقرون عموماً لــ “نظام تفكير” يمكن أن “يتقابلوا” في ظله أو في أفقه، الأمر الذي يجعل تفكيرهم وتدبيرهم – حتى الآن – متردّداً مشتتاً ومتناثراً، وجهداً لا طائل منه تقريباً!
غير أن “تدبير السياسة”، هو مما لا بد منه، إذا ما أراد العرب أن يشغلوا موقعاً أفضل نسبياً في التفاعلات الإقليمية والدولية اليوم، وفي نظام المعنى والقوة في النظام العالمي، وأن يعودوا إلى التاريخ، أو على الأقل، ان “يبطئوا” من مسار تراجعهم الموجع والثقيل فيه. ولذا فإن من أولى أولويات العرب اليوم هو أن يستمعوا إلى “ندائهم الخاص الذي يهيب بهم أن يعودوا إلى ذواتهم”، بتعبير إريك فروم([12])، وهي مهمة لا شك غير يسيرة، إلا أنها واجبة.
المصادر والمراجع:
([1]) انظر: ميشيل فوكو، يجب الدفاع عن المجتمع، ترجمة: الزواوي بغورة، (بيروت: دار الطليعة، 2003).
([2]) عقيل سعيد محفوض، مزاولة المستحيل! أمن الفرد والدولة والعالم، المفاهيم والأبعاد والتحولات، (دمشق: دار الفرقد، 2021).
([3]) انظر: انطونيو غرامشي، كراسات السجن، ترجمة: عادل غنيم، (القاهرة: دار المستقبل العربي، 1994)، ص 401 ــ 432.
([4]) إيمانويل والرشتين، نهاية العالم كما نعرفه: نحو علم اجتماعي للقرن الحادي والعشرين، ترجمة: فواز الصياغ، (المنامة: هيئة البحرين للثقافة والتراث، 2017).
([5]) أمين معلوف، اختلال العالم: حضارتنا المتهافتة، ترجمة: ميشال كرم، (بيروت: دار الفارابي، 2009).
([6]) أمين معلوف، غرق الحضارات، ترجمة: نهلة بيضون، (بيروت: دار الفارابي، 2019).
([7]) أولريش بك، مجتمع المخاطرة، ترجمة: جورج كتورة وإلهام شعراني، (بيروت: المكتبة العصرية، 2009).
([8]) الفضل شلق، “قوارب الموت”، 180 بوست، (26 أيلول/سبتمبر 2022).
([9]) خالد خليفة، الموت عمل شاق، (بيروت: دار نوفل، 2016).
([10]) عقيل سعيد محفوض، إعادة التفكير في الدولة: قراءة في ضوءِ الأزمةِ السوريّة، دراسة، (دمشق: مركز دمشق للأبحاث والدراسات ــ مداد، آذار/مارس 2019).
([11]) انظر: برتران بادي ودومينيك فيدال، عودة الشعبويات، ترجمة: نصير مروة، ط1، (بيروت: مؤسسة الفكر العربي، 2019).
([12]) إريك فروم، اللغة المنسية، ترجمة: حسن قبيسي، (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1995).