مأزق العروبة والنهوض.. لا بديل عن الديموقراطية
ALGIERS, ALGERIA - NOVEMBER 01: Algerians take part in an anti-government demonstration against Bouteflika regime figures in Algiers, Algeria on November 1, 2019. Demonstrations coincided with official celebrations of the Algerian revolution against French colonialism on Nov. 1, 1954. (Photo by Farouk Batiche/Anadolu Agency via Getty Images)

يرتبط النهوض العربي بالدولة الشرعية. مصدر الشرعية هم الناس. الدولة كائن سياسي. السياسة تعني مشاركة الناس. المشاركة تمنح الشرعية. وتؤسس للقرار. يتحول النظام الى الدولة. يستمد النظام شرعيته من الدولة، من الناس، عندما يصير هؤلاء الذين يشكلون الدولة. يصيرون مواطنين. تنغرز الدولة في ضمير كل منهم.

الناس في حكم الاستبداد رعايا. الناس في حكم الدولة مواطنون. الرعايا لا يشاركون. يخضعون وحسب. المواطنون يشاركون في الدولة. الدولة هم، وهم الدولة. العروبة تتحقق في تحولهم من رعايا الى مواطنين. اعتراف الناس بالدولة أنها هم هو ما يقرر الشرعية أو عدمها. العروبة تمر عبر المواطنة. الانهيار العربي سببه الاستبداد السياسي والمجتمعي. الاستبداد السياسي فعل النظام. يلغي الدولة ويجعل منها مجرد نظام. الاستبداد المجتمعي فعل الدين السياسي. يحول الدين الى طقوس طائفية. يلغي الإيمان. يفصل بين الفرد والخالق. يلغي احتمال صلة الفرد بالخالق.

أساس المنظومة العربية تعدد الدول. في كل دولة عربية تعدد هويات، كما في كل دول العالم. في كل فرد تعدد هويات. تتحقق الحرية نفسها عندما تكون هي أساسا للاختيار. اختيار الهوية. الاختيار حافز على العمل. تبنى الدولة بالعمل والإنتاج. الحافز هو الانتماء والاختيار والأخلاق. الإنتاج مسألة أخلاقية لا اقتصادية. الأخلاق فردية. السياسة جماعية. تتحقق السياسة بتجيير الأخلاق للمجتمع، أي للسياسة. مع الأخلاق تندمج السياسة في المجتمع. تصير الأخلاق جزءاً منها. تقوم السياسة على الحوار والنقاش والتسويات؛ تراكم التسويات. تنضم الأخلاق للسياسة وتندمج فيها. تنفصل الأخلاق عن الدين. تضع نفسها في خدمة السياسة والمجتمع. يقتصر الدين الحقيقي على الإيمان. الطقوس لمن يختار. الطقوس كل ما لا يدخل في الإيمان وكل ما لا يكون جزءاً من الضمير. الطقوس الدينية شرطها الإيمان؛ وهي لا تقدم ولا تؤخر. لا لزوم لها إلا ما جاء به النص.

لا بديل عن الديموقراطية. ليست الديموقراطية صندوق الانتخابات كل أربع سنوات. هي الممارسة اليومية الدائمة للسياسة، والحوار، والنقاش، والتسويات، حيث يدرك الناس بالملموس أنهم يشاركون في القرار، في حياة مجتمعهم وفي السلطة؛ وأن القرار لا يؤخذ بالنيابة عنهم؛ وأن السلطة لا تكون عبئاً عليهم؛ والبيروقراطية وأجهزة الرقابة والاعتقال لا تكون مصدر خوف لهم.

أُفرِغت الديموقراطية من محتواها في بلادنا إذ سيطر الاستبداد وعاد الناس رعايا. تمت إعادتهم الى الخضوع. ما عادوا مشاركين في السياسة، وفي السلطة، وفي القرار. لا نهوض في مجتمع أُخضع أعضاؤه يوميا، أو بشكل متقطع، للذل والهوان. يعيد الاستبداد ذل الاستعمار. ربما كان أفدح. لا ديموقراطية إلا مع السياسة. نحمي الديموقراطية من نفسها ومن الغير بالسياسة. الذين منا خبروا سيطرة الاستبداد يعرفون معنى السياسة: معنى الحوار والنقاش والجهر بالآراء. يعرفون معنى أن يكون الفرد حراً. أن لا يشعر على الدوام بحرارة أنفاس الرقيب من خلفه، فتتقطع أنفاس المواطن الخائف. الذي منع من حريته لا يكون مواطناً. يفقد الحافز على المشاركة في كل شيء؛ في السياسة وفي الإنتاج. الاستبداد السياسي والمجتمعي، السياسي والديني، مصدر كل فساد. لا يكون ذا مناعة ضد النفاق من أغلق ضميره وعقله. الفساد في جوهره فقدان صلة المواطن بالدولة والمجتمع. فقدان حرية ضميره أولاً. انسلاخ ضميره عنه.

من لا يبني مستقبله ولا يصنع هويته، فإنه يتركها كي تصنع له. يصنعها له الآخرون فيقع تحت إرادة الغير الذي يصنعها له ويريدها عنه. وإذا لم يعمل وينتج سينتهي متسولاً عند بلاد تنتج وتدّخر وسينتهي تابعا للدولة التي تساعده على ردم عجز الخزينة. إستعمار جديد!

الفساد الكبير هو في الضمير. عندما يصاب المرء بالانفصام في ذاته، فيضطر بسبب الاستبداد الى استعمال ضميرين، واحد للخضوع وواحد لنفسه. يكون الفساد عندما يدرك المرء أن السادة يعبثون في الأرض، ويحتفظون بثمار الأرض والعمل لأنفسهم. فيضطر الى ضمان وضعه المزري بالاحتفاظ بشيء لنفسه، حتى ولو خالف القانون. يسري القانون عليه لا على السادة من طبقة السياسيين وطبقة أصحاب المال الذين يعتدون بأنفسهم بما لديهم من مال وعلاقة مع السلطة. يفقد المواطن حافزه للعمل ما دام السادة لا يتركون له من نتاج عمله سوى الأجر أو الراتب الذي لا يكاد يكفي قوت يومه. الإفقار وسيلة لإجبار صغار الناس على الفساد. وهو مع الثروة وسيلة لدى أهل المال لجمع المزيد.

التحفيز بالسياسة يكون بالعمل والإنتاج. بذلك، يضمر مجال الفساد. يتسع مجال الإبداع. في مجتمع حر مفتوح مسيّر بالسياسة، يعمل المرء من أجل نفسه، حتى ولو كان أجيراً أو موظفاً. الشعور بأن الدولة للمواطن، وأنه جزء منها يحفّز على العمل. يحفز على الإنتاج. ينخفض مستوى الفقر أو يزول. تتلاشى أسباب الفساد إلا للطبقة العليا. فسادهم دائم، مطلق، وأبدي. فسادهم كامن في أنهم طبقة عليا. ينظرون الى أنفسهم، دون الناس الآخرين.

بالعمل والإنتاج يكتشف الناس أنفسهم. يكتشفون مجتمعهم. يصير انتماؤهم لدولتهم موضع اعتزاز. مع ازدياد الرواتب والأجور تزداد الإنتاجية. يزداد زهو من يعمل بنفسه. يصير الانتماء للدولة والمجتمع ليس أمرا مفروضا من فوق بل اختيارياً. تصير الهوية من صنع الإنسان الذي يصنع المستقبل. الذي يعمل وينتج يصنع الهوية. الهوية أنواع. أسوأها ما هو معطى أو مفروض. بالطبع لا يستطيع الإنسان أن يتفلّت من قوانين الطبيعة والتاريخ. لكن التاريخ ليس ماضٍ وحسب. هو أيضا مستقبل. عندما نعمل وننتج، فإننا نولّد هوية جديدة تعلو وتسمو على كل الهويات المعطاة والمفروضة، لأننا نبني مستقبلاً نفخر به. من لا يبني مستقبله ولا يصنع هويته، فإنه يتركها كي تصنع له. يصنعها له الآخرون فيقع تحت إرادة الغير الذي يصنعها له ويريدها عنه. وإذا لم يعمل وينتج سينتهي متسولاً عند بلاد تنتج وتدّخر، وسينتهي تابعا للدولة التي تساعده على ردم عجز الخزينة. استعمار جديد من نوع آخر؛ دون احتلال. استعمار بالاستثمار. الاستثمار الأجنبي يفاقم الدين العام والخاص ويفاقم التبعية.

المجتمع الذي لا يعمل لا ينتج. يأكل من زرع غيره. يستهلك من إنتاج غيره. يعتمد على واحد من موردين كي يحصل على ما يستهلكه: إما مورد طبيعي كالنفط أو يعتمد على الاستدانة. وتكون تلك طريق الخضوع للدائن. الديْن يعرض البلد للخضوع لمن يدينه. أما الاعتماد على موارد الطبيعة دون عمل (النفط)، ويعتمد على الاستهلاك من مردودها ومواردها، فإنه يعتمد على الغير بطريقة أخرى. لا يأكل القمح إلا إذا استورده. ليس صدفة أن العراق مثلا لم يستورد القمح إلا بعد ظهور النفط في الثلاثينيات. في الحالتين، يكون الاعتماد على الغير والتبعية له والخضوع لسياساته.

في بلد يعمل من أجل النهوض وقطع المراحل بسرعة لا بدّ من التخطيط. لكن لا بدّ للتخطيط أن يترك المبادرة للذين يعملون، ولا يكون الأمر مجرد أوامر عليا للتنفيذ. المشاركة في قرارات الإنتاج هي جزء من الحياة العامة في السياسة. هي مشاركة ديموقراطية. ولا بدّ من ارتفاع الأجور والرواتب. ففي ذلك زيادة الإنتاجية. لا هم إذا كان الأمر يتعلّق بنظام، يميني أو يساري، أو إذا كان العمل في القطاع الخاص أو القطاع العام. في نظام الاستبداد لا تمييز بين القطاعين، إذ أن من يحكم يسيطر على القطاعين ويستولي على الفائض، فائض القيمة أو الربح، بطرق مشروعة أو غير مشروعة. مع الاستبداد هناك رأسمالية واحدة هي رأسمالية السلطة وحاشياتها، أو ما يسمى رأسمالية الدولة وهي عشوائية، لا تخضع لأي حساب. هي تفرض رواتب وأجوراً متدنية. غالبا ما يكون ذلك باسم القضية. يسلبون أموال الناس ويفرضون ذلك، ويسمونه تضحية باسم الوطن أو الثورة.

ربما يأتي وقت يصبح فيه شراء الماء أكثر كلفة من الموارد النفطية التي يمتلكها العرب. ما يزيد المسألة حدة هي أن معظم النفط بيد حكومات ذات بلاد قليلة السكان.البلدان ذات الكثافة السكانية تفتقد الى الماء والنفط معاً

المجتمع المفتوح هو مجتمع التنمية والنهوض. النهوض ليس أرقاما حول إنتاج هذا أو ذاك من المواد؛ هو حالة المواطنين وهم يشاركون في كل القرارات. لا يكون النهوض في مجتمع مغلق، يسيطر عليه الاستبداد السياسي والاستبداد المجتمعي الديني. يقول البعض بمعادلة التنمية والديموقراطية. هذا صحيح لكن أنظمة الديموقراطية متنوعة ومتعددة. المجتمع التنموي، مجتمع نهوض، يتطلّب مشاركة الجميع لكن ليس بالقسر والإكراه. المهم أن تكون الصلات بين القادة والجمهور، خاصة العاملين منهم، صلات أخذ ورد، ونقاش وحوار؛ صلات يشعر فيها الجمهور أنه يشارك في الأهداف والقرارات. المهم أن يعمل هؤلاء بدفع من ضمائرهم، وأن لا يُساقوا الى العمل كالقطعان. الإذلال لا يقود الى زيادة الإنتاج.

إقرأ على موقع 180   جعجع.. ولعنة الشارع والدم!

في المجتمعات العربية شرخ بين الاستهلاك والإنتاج. بلدان النفط تتميز بعدد سكان منخفض. المداخيل عالية. العمل والإنتاج فيها هامشي. اتكالية على النفط الذي يشكل تصديره أكثر من 90%  من الدخل العام. ارتفعت المداخيل الفردية. أصيب الناس فيها بإفراط الاستهلاك. صار ذلك نموذجاً يُحتذى حتى في البلدان الفقيرة الكثيرة السكان. تزعزعت في هذه البلدان أسس الاقتصاد. تزايد السكان. انخفض الإنتاج مع زيادة الاستهلاك. مصر، مثلاً، التي كانت تصدر الحبوب الى روما، أيام الامبراطورية الرومانية، والى استانبول أيام السلطنة العثمانية، والى الحجاز في كل العصور، صارت مستوردة للقمح. مع سد النهضة في الحبشة، ستزداد الأحوال سوءاً.

برغم الاستقلال، إلا أن تبعية جديدة للغرب نشأت بسبب الاضطرار لاستيراد الغذاء. لا إدعاء لدينا أن الأمن الغذائي يعني إنتاج كل ما يحتاجه البلد، بل أن يكون هناك توازن بين الإنتاج والاستهلاك، وأن يكون الادخار أساسياً، وأن يكون الإدخار كافياً للاستثمار في داخل البلد، زيادة على ما تكون الحاجة إليه من الاستيراد. الاستقلال لا يعني أن تنتج ما تستهلكه، بل أن تنتج ما يكفي للاستهلاك المحلي وللتجارة الخارجية، بما فيها الاستيراد.
التوازن الاقتصادي مفقود في كل البلاد العربية تقريباً. لا فكاك من ذلك إلا بزيادة الإنتاج الزراعي والصناعي؛ زيادة تعني الاستغناء عن “المساعدات” الخارجية. المساعدات في حقيقتها قروض بفوائد عالية أو منخفضة؛ سيان. هي جوهر تدفقات “الاستثمارات” من الخارج، وهي طريق آخر للتبعية؛ ما يتناقض ويتنافى مع الاستقلال السياسي والكرامة الوطنية. الدين يجعل المدين تابعا للدائن، مهما كانت الظروف.
سيكون التوازن الاقتصادي أكثر صعوبة للتحقق بسبب الخراب البيئي الذي تتعرض له المنطقة العربية. زحف الصحراء نحو الساحل في كل قطر؛ تراجع مساحة الأرض القابلة للزراعة؛ والنضوب التدريجي لمصادر المياه، الجوفية منها والأمطار والأنهار. مع زيادة السكان السريعة تصبح مسألة توفر المياه في المنطقة العربية مسألة حياة أو موت. لذلك سوف يصير استخراج المياه أهم من استخراج النفط. ربما يأتي وقت يصبح فيه شراء الماء أكثر كلفة من الموارد النفطية التي يمتلكها العرب. ما يزيد المسألة حدة هي أن معظم النفط بيد حكومات ذات بلاد قليلة السكان.البلدان ذات الكثافة السكانية تفتقد الى الماء والنفط معاً. حرب الإبادة ضد الشعوب سوف تكون سهلة. لا تحتاج الى كثير من السلاح. فقط القبض على مصادر مياه الأنهار الكبرى، وهي تنبع من الخارج، من البلدان المجاورة.

النهوض العربي لا يعتمد على الإنتاج وحسب، بل الإنتاج يعتمد على عوامل خارجية وصلات مع البلدان المجاورة. صلات من نوع آخر غير العداء والتنافس القومي والديني بين العرب والأتراك والإيرانيين والأحباش. منطقتنا عريقة، ربما كانت من أعرق مناطق العالم بظهور الحضارات فيها. لكن المستقبل ينذر بنهاية مشؤومة.

هزيمتنا الروحية هي في أساس هزائمنا العسكرية. دونيتنا الثقافية هي في أساس دونيتنا السياسية والعسكرية. أليست دونية أن ننتظر كل أربع سنوات نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ أليس ذلك الدرك الأسفل لنا ولثقافتنا ولتراثنا الذي لم يعد يلزم للنهوض؟

ظهر الإسلام من جزيرة العرب لهداية شعوب تغطي منطقة واسعة تمتد من الأطلسي الى الباسيفيكي، ومن البحار الجنوبية الى المناطق الشمالية الباردة، بما فيها سيبيريا. تحتاج المنطقة الى حكام ذوي رؤى تتجاوز مسألة الحفاظ على السلطة وممارسة الطغيان، والى شعوب تهتم بمستقبلها أكثر من الدعوة لاتباع السلف الصالح. تحتاج المنطقة الى تعاون ينقذها، فهي أكثر المناطق في العالم تعرضاً للكوارث البيئية.

يرتبط النهوض بنهوض العروبة، وببناء دول تكون علاقتها سوية بشعوبها. دول تعمل من أجل شعوبها، لا شعوبها تعمل من أجلها. مثل ذلك تقريبا ينطبق على الدول المحيطة، وعلى دول العالم جميعاً. هذه دول يجب أن تعامل على أساس الاحترام المتبادل والاعتماد المتبادل. المجتمع يبني دولته ويمنحها الشرعية، وتكون الدولة في الوقت ذاته منفتحة على شعبها، تفهم إرادته وحاجاته. دولة ذات مجتمع منتج. هذه الدولة التي تنتج سلاحها، أو تنتج ما يعادل سلاحها أو أكثر، سوف تتمتّع باحترام الدول الأخرى. ولن تكون ساحات لصراع الآخرين على أرضها. لن نكون دول مستقلة ما لم نتعلّم إنتاج الأدوات التي تصنع الأسلحة للدفاع بها عن أنفسنا. إمتلاك السلاح لا يحمينا. إن اشترينا من الغرب سلاحا، يشغله خبراؤه. هذا يعني أنه ما زال يملك هذا السلاح ولو كان على أرضنا. نحتاج الى الروح العلمية التي أنتجت هذا السلاح، والى الروح العلمية التي تدير تقنية هذا السلاح. لدى العرب سلاح كثير، ولا يملكون السيطرة عليه، ولا يملكون القدرة على تشغيله، ذلك بسبب عقل يرحب بالتكنولوجيا، وينكر العلم الحديث الذي أدى الى التكنولوجيا، ويرفض الثقافة التي أنتجتها، وهي ثقافة بنيت على العقل الوضعي التجريبي. عقل يناقش نفسه على ضوء التجارب. عقل على استعداد دائم للتطوّر والتقدم مهما كان الموروث الثقافي. ليس المطلوب التخلي عن ثقافتنا. هذا غير ممكن أصلاً. المطلوب أن لا نرفض ثقافة الغرب بداعي الحفاظ على الذات. نستطيع أن نتجاوز تراثنا بإضافة تراث آخر إليه. لا يضير ذلك. بذلك تعود “روح الشرق إلينا”، وتخرج عن دونيتها. لا تكفينا التكنولوجيا، انما نحتاج إلى الروح العلمية التي أنتجت التكنولوجيا. عندما نتحدث عن ضرورة الإنتاج، فإننا لا نعني مجرد إنتاج الأشياء التي نحتاجها للاستهلاك، بل إنتاج المعامل التي أنتجتها. وذلك يتطلّب اكتشاف روح العلم لا مجرد التدريب على استخدام التكنولوجيا كما ترد إلينا.

 نحن مهزومون أمام دولة صغيرة. هي صغيرة مهما كان الدعم الغربي لها، لأننا مهزومون في معركة الثقافة والوعي والعقل المنظّم لأمورنا. ولأننا بسبب الاستبداد السياسي والديني ممنوع علينا أن نمارس حرية العقل والوعي والثقافة التي تتجاوز نفسها، وتخرج من محبسها، وتنطلق الى العالم. تجربة آسيا الشرقية ماثلة أمامنا. الفرق بين التقدم والنصر، من ناحية، والتخلّف والهزيمة، من ناحية أخرى، هو مسألة بضع سنوات فقط.

ما ازدهرت ثقافتنا في الماضي المجيد بسبب اتباعنا السلف الصالح وحسب، بل وأيضا بسبب أن هذه الثقافة كانت النهر الذي تصب فيه جميع الثقافات الأخرى. الهزيمة هي لأنّ عقلنا ما زال عقلا تقنيا يقف عند حدود التكنولوجيا. طقوس الدين كما طقوس العلم الحديث. التكنولوجيا الحديثة تشبه في البنية الذهنية طقوس الدين الحديث والقديم. كنا في القرن الرابع الهجري مثلا أرقى بلاد العالم لأننا أقبلنا على جميع ثقافات العالم، ودمجناها في أنفسنا. هزيمتنا الروحية هي في أساس هزائمنا العسكرية. دونيتنا الثقافية هي في أساس دونيتنا السياسية والعسكرية. أليست دونية أن ننتظر كل أربع سنوات نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية؟ أليس ذلك الدرك الأسفل لنا ولثقافتنا ولتراثنا الذي لم يعد يلزم للنهوض؟

يبدأ النهوض برؤية دنيوية في تشكيل دول حقيقية ذات شرعية مدنية، ويتطوّر مع العمل والإنتاج واكتساب ثقافة غربية، أصبحت هي ثقافة العالم، ولا يتوقف التطوّر بعد ذلك. النهوض يبدأ من داخل ذواتنا، من نفض ثقافتنا، واكتساب ثقافة جديدة تتراكم على تراكم لدينا عبر التاريخ.

يشعر المرء وهو يكتب ذلك أن هذه الأمور واضحة وضح النهار. لكن أنظمتنا، والنخب التابعة لها، لا تفعل ذلك. هي بعشوائيتها، في سبيل الحفاظ على السلطة. هي المأزق. لا بدّ من إزالتها من أجل ولوج طريق التقدم والاستقلال الحقيقي. هذا ما قالته ثورة 2011.

Print Friendly, PDF & Email
الفضل شلق

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إيران تُوحّد أوروبا وأميركا في مفاوضات فيينا!