فعل الإيمان الناتج عن اعتقاد ديني سماوي أو وضعي تلازمه رؤية كونية خاصة تكون بمثابة المحرك الفعلي لاستمراريته وحياته، لأن خلو الإيمان من هكذا رؤية تجعله رتيباً بارداً يموت مع الوقت ويضحمل كما اضمحلت معتقدات وطقوس كثيرة لدى الشعوب البدائية.
نجد أنّ الإيمان السماوي بالله عند الديانات الموحدة يلحظ الآخرة كعالم متصل بالحياة وغير منفصل عنها سوى بانتقال الإنسان من حيز وعالم إلى عالم آخر يستحقه بعمله المرتكز على الخير الذي هو وجه بارز من وجوه العدل مع الناس والحياة فكل الأديان تدور منظومتها حول العدل.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) الحديد:25.
ولنا أن نتساءل عن فحوى الإيمان الحقيقي هل هو مستند على الشكليات والطقوس أم هو يدور مدار السؤال المعرفي النافع الذي يرتقي من خلاله الفرد كما الجماعة في الشعور الإيماني إلى درجة تحطيم الخوف من السؤال المحرم وإثارة الفكر واستفزاز الوعي حول مختلف القضايا وحتى المسلمات الإيمانية نفسها ؟
هذا السؤال يفتح الباب أكثر على ما نتلمسه اليوم من صخب الشعارات والكلام واجتراره وتكريسه تالياً على أنه حقيقة ومن المسلمات التي يتغذى عليها الوعي المبتلى للأسف بزمرة من الجهلة والوضاعين الذين يعيشون على السطح ولا ينفذون إلى أعماق الأمور لأنهم يخافون من وعي الناس على سلطتهم.
باعتقادي لا يمكن للإيمان إلا أن يأخذ حيزه الحقيقي برفع الغفلة وتحقيق المصالحة مع الذات وبقدر ذلك يكون الإنسان قد امتلك نفسه وشدّ عزيمته وعاش لحظاته اليومية مزيداً من تفتق الوعي ومشاركة لحظات الزمن في تقوية وشائج الجماعة وتمايزها، أما ما يعرقل هذه اللحظات المعيوشة بحق يكون انكسارا وتمخضاً في الذنب الأخلاقي الذي يرقى إلى مستوى الجريمة بحق الفرد والحياة لأنك لن تصل إلى آخرة منعَّمة ما لم تكن تعيش الجنة وأجواءها في دنياك وجاء في الرواية: “الدنيا مزرعة الآخرة“. ليست مزرعة للأنانيات، بل هي تسامح ويقظة تدفع الغفلة عن النفوس التي لا تبصر وعن العقول المتجمدة وعن الحواس التي لا تتقن استخلاص المعقول من المحسوس.
برأيي، هذا منسجم مع لبّ ما قاله الإسلام في صفائه عبر تعرّجات الزمن. في الإيمان ـ الإسلامي أقلّه ـ للغفلة وجهان؛ وجه ذاتيّ ووجه عام. في وجهها الذاتيّ، الغفلة هي فعل يبعد الإنسان عن الله وعن خياراته الإيمانية الحرة التي تفرض عليه تحمل المسؤوليات.
فعندما تغفل عن نفسك تكون قد اعتديت عليها وعندما تغفل عن عدلك مع الآخرين فإنك تكون قد اعتديت عليهم فتقع في المحظور من ممارسة التسلط والأنانية والعبث بأمنهم الاجتماعي والأخلاقي والصحي والثقافي والسياسي وغير ذلك مع أن الدين لا إكراه فيه بمعنى الإجبار يبقى بطبيعته سيالاً ينادي الآخر ويحثه بطريقه ما على طرد الغفلة من بين أحضانه تاركاً له في الوقت عينه كل حرية وإرادة.
من مقتضيات الإيمان الحر مواجهة الغفلة كي نعيش التصالح الحقيقي مع انتمائنا الديني والإنساني وهذا ما يفرض الاستعداد ومواجهة كل من يكرس الغفلة ويمعن في سرقة الناس وإفساد حياتهم والتلاعب بعقولهم ومصيرهم
حدود الدين لجهة حث الإنسان على المتابعة في دفع الغفلة لا حدود لها. حتى في العلاقة مع الآخر مع تركه الحرية للجميع فإنه يستحث الجميع ويضعهم أمام مسؤولياتهم اتجاه بعضهم البعض حتى تندمل كل الفراغات بينهم وتكون القضية واضحة أكثر حتى على مستوى الاعتقاد وهنا باعتقادي اللامحدود الديني كونه مواكب للغة الزمن المفتوحة على كل تحفيز وقراءة ومقاربة.
من أدبيات الدين الكلمة الحسنة والموعظة بما يفتح مدارك الإنسان ويهذّب نفسه لاستكشاف الحقيقة. (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل: 125.
ما يستشف من الآية المباركة هو الأسلوب الذي يُشعر المخاطَب والآخر أن دور المخاطِب معه هو دور الرفيق به الناصح له الباحث عما ينفعه ويفرحه لا دور الذي يستعلي عليه ويفرض عليه ما يريده.
أما الوجه العام للغفلة فينعكس في أثرها كما قلنا على المجتمع بأسره، وذلك يتجلّى بعدوانية جماعة من الناس تتّفق وتتعاون على الاستيلاء الأنانيّ على خيرات الأرض المشتركة بين البشر، وعلى السيطرة على الآخرين بالقهر والتعسّف أو بالدعاية والإعلام أو بكليهما، وإخضاعهم للاستغلال، كما يحصل مع الشعب الفلسطيني المظلوم وغيره من الشعوب المستضعفة.
عندها، نحن بالطبع في وضع مضادّ لوعي المسؤوليات وتحملها وتالياً هناك بالتأكيد ضرب تعسفي لمرتكزات الوحدة البشريّة في المجتمع المتعاون والحر على مقدراته باستغلال أنانيّ للآخرين، هذا الوجه العامّ الجماعيّ للغفلة منسيّ غالباً.
من مقتضيات الإيمان الحر مواجهة الغفلة كي نعيش التصالح الحقيقي مع انتمائنا الديني والإنساني وهذا ما يفرض الاستعداد ومواجهة كل من يكرس الغفلة ويمعن في سرقة الناس وإفساد حياتهم والتلاعب بعقولهم ومصيرهم.
نختم بقول للقديس أغسطينوس: “هناك شكلان من الحب في العالم، حب الذات حتى تدمير العالم وحب العالم حتى فناء الذات”.
ما نشاهده اليوم هو سيطرة حب الذات وتأليه الأنانيات في كل الميادين الحياتية وليس من يفني ذاته بإخلاص حباً بالعالم وما فيه.
إن حب العالم ونزع الغفلة من النفوس هما ألف الإيمان وياؤه.