انقلب التعايش المجتمعي وتبادل الأفكار والآراء، والجدل المعرفي والثقافي، بعد ثورة 14 تموز/يوليو 1958، ليتحوّل إلى صراع سياسي حاد، ومحاولة كلّ طرف مغالبة الطرف الآخر والاستقواء عليه، والصراع البارز كان بين القوميين والشيوعيين، وكلاهما كان يزعم أنه الأجدر بالثورة، وبالتالي أحقيته في توجيهها، وهكذا انقسم الشارع بين مؤيّد للوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة، وكان عبد الإله النصراوي متحمسًا للاتجاه الوحدوي، وبين متحفظ عليها، ويطرح بديلًا تحت عنوان “الاتحاد الفيدرالي”، لكن الصراع الأهم كان على الشارع، فمن يستطيع أن يستحوذ عليه ويوجّهه ويُقصي أو يهمّش الآخر بزعم أفضليته في محاولة كلّ طرف احتكار الحقيقة.
وفي الوقت الذي اتجه فيه القوميون إلى كسب الضباط، كان هَم الشيوعيين كسب الشارع من خلال المنظمات الجماهرية وعبر الإعلام، خصوصًا بعد صدور جريدة “اتحاد الشعب”، إضافة إلى صحف أخرى مؤيّدة لهم، أما الإسلاميون فقد برزوا كقوّة احتجاجية بدأت ملامحها تتّضح في مناوئة الشيوعيين وحكم عبد الكريم قاسم، خصوصًا بوقوفهم ضدّ قانون الإصلاح الزراعي، وضدّ قانون الأحوال الشخصية، وبالطبع ضدّ المقاومة الشعبية وبعض استفزازاتها.
ولأن الشيوعيين كانوا الأكثر تنظيمًا والأكثر راديكالية والأكثر تضحية في العهد الملكي، وهو ما ترسّخ في الأذهان، فقد تمكنوا من الفوز بالشارع، وتركوا الآخرين، بمن فيهم بعض حلفائهم في جبهة الاتحاد الوطني، قعيدي حسرات.
وهكذا استحوذ الشيوعيون على المقاومة الشعبية والمنظمات المهنية، مثل رابطة المرأة التي كانت سريّة، فتحوّلت إلى منظمة علنية جماهرية كبرى، انضمّ إليها آلاف النسوة واشتغلن على مشاريع عديدة من أبرزها محو الأمية، وأسسوا اتحاد الشبيبة الديمقراطي، وكانوا القوّة المقرّرة الأكبر فيه، كما كان لهم الصوت الأعلى في النقابات العمّالية والجمعيات الفلّاحية ونقابات الصحافيين والمعلمين واتحاد الأدباء والكتاب، بل وفي جميع النقابات المهنية.
وتحوّل اتحاد الطلبة السري إلى منظمة جماهرية علنية، وفاز الشيوعيون بأغلبية ساحقة في أول انتخابات طلابية، وحاولوا إشراك شخصيات من خارج دائرة الحزب الشيوعي، من الحزب الوطني الديمقراطي، والحزب الديمقراطي الكردي (الكردستاني لاحقًا)، وشخصيات قومية أو مستقلة محدودة، كما حصل أيضًا في منظمات أخرى أيضًا. وفي لحظة من لحظات الزهو كانوا يطلقون على أنفسهم (حزب أوسع الجماهير)، ويستصغرون الآخرين.
وأتذكّر أن الانتخابات الطلابية الثانية في العام 1960، وهي آخر انتخابات طلابية قبل انتخابات العام 1967، تنافس فيها القوميون والبعثيون مع الشيوعيين في النجف، وكان أول رئيس لاتحاد الطلبة في النجف بعد الثورة، صاحب الحكيم الذي أصبح سكرتيرًا لمحلية النجف للحزب الشيوعي منذ مطلع العام 1960، ودائمًا ما كان يشيد به عبد الإله النصراوي، وقد التقاه آخر مرّة حين قمنا بزيارته في منزله في بيروت، وكم كان النصراوي مُنشرحًا لهذا اللقاء الذي ظلّ ينتظره لسنوات، وكان دائم السؤال مني عن الحكيم. فاز الشيوعيون ﺑ 7 مقاعد، في حين حصل القوميون على 3 مقاعد، وكان من بين الفائزين عبد الإله النصراوي، الذي حصل على أصوات كثيرة.
وحتى خلال الصراع الشيوعي ـ القومي، لم يحصل في مدينة النجف ما يكدّر صفوها، باستثناء حادثين، الأولى؛ حين تعرّض مكتب المحامي أحمد الحبوبي، الذي كان حلقة الوصل لجبهة الاتحاد الوطني مع قيادتها في بغداد، إلى تحرّشات وضغوط واستفزازات اضطرّ على أثرها إلى ترك النجف والتوجّه إلى المملكة العربية السعودية بسبب الملاحقة، والتي شملت الشيخ أحمد الجزائري، حيث توجّه الآخر إلى القاهرة، وهو والحبوبي كانا من أقطاب حزب الاستقلال قبل تأسيس الحزب العربي الاشتراكي بقيادة عبد الرزاق شبيب.
أمّا الثانية؛ فهي محاولة سحل مهدي البحر “مهدي الخبازة”، وهو من القوميين، وقد بذل صاحب الحكيم وحسن عوينة (استشهد مع سلام عادل عام 1963) ومحمد موسى التتنجي (استشهد أيضًا تحت التعذيب عام 1963)، جهدًا مضنيًا للحيلولة دون الحاق الأذى به، حتى تمكنوا بصعوبة بالغة من إنقاذه، بسبب احتكاكات صبيانية واستفزازات استعراضية ونزعات إقصائية. ولم تشهد المدينة خلال فترة ما يسمّى المدّ الأحمر (آذار/مارس – تموز/يوليو 1959)، أعمال عنف خارج القانون، حتى في ظلّ الملاحقات التي شملت القوميين والبعثيين.
وأتذكّر أنه بعد فوز الشيوعيين في انتخابات الطلبة بفترة قصيرة، نظّمت الشرطة والحامية العسكرية تحديدًا، هجومًا على مقر اتحاد الطلبة بالقرب من إعدادية النجف في محلّة الجديدة، وهو عبارة عن بيت كبير يعود إلى أحمد الشمرتي الشخصية النجفية المعروفة تمّ استئجاره في حينها، وحاصرت من كان موجودًا فيه وأوسعتهم ضربًا، وقبل ذلك قام كاظم مرهون، آمر الحامية، بمنع تداول جريدة اتحاد الشعب العلنية بأمر من قائد الفرقة الثانية عبد الحميد الحصونة الذي مقرّه في لواء (محافظة) الديوانية في المناطق التي يمتدّ إليها نفوذ الفرقة.
لكن العلاقة بين القوميين والشيوعيين ظلّت متوتّرة وفيها ذكريات سلبية، دون أن يعني عدم وجود علاقات طيبة بين شخصيات من الفريقين، وأشير هنا إلى علاقة النصراوي ﺑالدكتور ناهض شعبان والمحامي حسن شعبان ورحيم الحبوبي، وهؤلاء على ملاك الحركة الشيوعية، فالحبوبي كان عضو قيادة اللجنة الطلابية للحزب الشيوعي قبل الثورة، وعضو قيادة المعلمين بعد الثورة، وتعرّض إلى اعتداء شنيع من جانب الإقطاعيين، في مدينة غمّاس، حيث كان معلّمًا فيها، ونُقل إلى مستشفى الفرات الأوسط في الكوفة، وذهبنا العم شوقي وأنا للاطمئنان عليه، ووجدنا النصراوي ملازمًا له، وظلّت صداقتهما الحميمة قائمة، حتى أن النصراوي وشقيق الحبوبي (عزيز) شيّدا منزلين بجوار بعضهما في بغداد – منطقة جميلة.
كان النصراوي من أبرز نشطاء حركة القوميين العرب بالنجف وسبقه أمير الحلو ومعه جواد دوش، الذي أصبح أيضًا عضوًا في المكتب السياسي للحركة الاشتراكية العربية لاحقًا، إضافة إلى الأسماء التي ورد ذكرها. وقد اختير النصراوي للمشاركة في دورة حزبية لحركة القوميين العرب في سوريا ولبنان في العام 1962، وتوثّقت علاقته بنايف حواتمة (الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)، وجورج حبش (الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، حيث اختير عضوًا في قيادة الإقليم، وتعرّف على العديد من القيادات القومية العربية، وفي مقدمتهم هاني الهندي الذي أصدر معه كتابًا توثيقيًا مهمًا عن حركة القوميين العرب والموسوم “حركة القوميين العرب: نشأتها وتطوّرها”، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 2001. إضافة إلى قياديين من اليمن الجنوبي، تولّوا المسؤولية لاحقًا بعد استقلال الجنوب وتأسيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، مثل عبد الفتاح اسماعيل، وسالم ربيّع علي (سالمين)، وعلي ناصر محمد ومعظم طاقم القيادة.
في العام 1963، تمكّنت الجبهة القومية، التي ضمّت الأحزاب والقوى القومية، والتي تأسست في بغداد، من الإطاحة بنظام عبد الكريم قاسم في 8 شباط/فبراير، وبدأت حملة شعواء ضدّ الحركة الشيوعية، قام بها الحرس القومي بعد صدور البيان رقم 13 القاضي بإبادة الشيوعيين. وقد التحق العديد من القوميين العرب، والحزب العربي الاشتراكي بالحرس القومي في الأيام الأولى، لكن النصراوي لم ينخرط فيه، وسرعان ما تمكّن البعثيون من الانفراد بقيادة الانقلاب، ونحّوا حلفائهم جانبًا، واتّهموهم بقيادة انقلاب سمّي ﺒ”المؤامرة السطحية” (أيار/مايو 1963)، وجرت حملة اعتقالات شملت أمين عام التنظيم، سلام أحمد وأمير الحلو أحد أبرز القياديين حينها وتمكّن النصراوي من الهرب إلى لبنان.
بعد انقلاب 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1963، الذي قام به الرئيس عبد السلام محمد عارف، تسلّم القوميون معظم الوظائف الحكومية، وأقصي منها البعثيون، وتأسس في العام 1964 “الاتحاد الاشتراكي العربي”، كتنظيم قومي وحيد رسميًا، على غرار الاتحاد الاشتراكي العربي (المصري). وكان القانون الخاص قد صدر في أيلول/سبتمبر 1964، وقامت التنظيمات المتفرّقة بحلّ نفسها والانخراط فيه، لكن تفاقم المشاكل بين عدد من الشخصيات القومية وقيادة عبد السلام عارف، لعب دورًا كبيرًا في تفكّكه، خصوصًا محاولة عارف الانفراد بالسلطة، ناهيك عن اتهامه من جانب القوى القومية الناصرية بعدم الجديّة في إقامة الوحدة.
وعلى مراحل انسحبت من الاتحاد الاشتراكي العديد من قياداته وعادت لتأسيس منظمات قومية جديدة أهمها “تنظيم الحركة الاشتراكية العربية”، ومن قياداتها أديب الجادر وصبحي عبد الحميد وخير الدين حسيب وفؤاد الركابي وهاشم علي محسن وعبد الإله النصراوي وآخرين، ثم عادت وانقسمت هذه المجموعة مجدّدًا، كما تأسس تنظيم مؤتمر القوميين الوحدويين بقيادة إياد سعيد ثابت، والرابطة القومية بقيادة هشام الشاوي، إضافة إلى حزب الوحدة الاشتراكي بقيادة صبحي عبد الحميد ورشيد محسن ومبدر الويس وآخرين.
وقد انشقت الحركة الاشتراكية مرّة ثالثة إلى تنظيمين عشية انقلاب 17 تموز/يوليو 1968، وذلك في يوم 16، حين عقدت مؤتمرًا سريًا في بغداد، تمخّض عنه ولادة تنظيمين، الأول؛ بقيادة النصراوي، وضمّ محمد حسين رؤوف ومحل الدليمي ونوري نجم المرسومي وجواد دوش وعوني القلمجي وهاني ادريس وصباح عدّاي وآخرين. في حين اختار الفريق الثاني اسم حزب العمل الاشتراكي العربي بقيادة فؤاد الركابي ومساعده هاشم علي محسن، الأمين العام لاتحاد نقابات العمّال.
وحين وصل حزب البعث ثانيةً إلى السلطة في العام 1968، حرّم جميع الأحزاب والتنظيمات، وقام بحملة اعتقالات شملت في البداية القوميين بالدرجة الأساسية، ومنهم أديب الجادر وخير الدين حسيب وعبد الإله النصراوي والمسؤولين الرسميين خلال حكم العارفين (عبد السلام وعبد الرحمن محمد عارف) وآخرين، وذلك انتقامًا مما حصل لهم في انقلاب 18 تشرين الثاني/نوفمبر 1963.
شهدت فترة حكم العارفين (عبد السلام وعبد الرحمن) هدوءًا نسبيًا وانفراجًا أوليًا، خصوصًا فترة حكم عبد الرحمن عارف، وكانت تمرّر من الصحافة العلنية مقالات وآراء لا تنسجم مع توجهات الحكم، بل أن النشاط السياسي أصبح شبه علني في بعض الأحيان، وأُطلق سراح العديد من المعتقلين، وكانت حفنة قرارات سميت “اشتراكية” قد صدرت بتأميم البنوك وبعض المصانع والمرافق الاقتصادية تقليدًا للتجربة المصرية، واستنساخًا حرفيًا لها (1964). وقد دوّن قلم الشاعر والروائي فاضل العزاوي فصولًا من تاريخ تلك المرحلة في كتابه “الروح الحيّة – جيل الستينيات في العراق”، دار المدى، دمشق، (1997)…
(*) راجع الجزء الأول: النصراوي.. المرحلة النجفية من جدل إلى جدل