كنتُ في بغداد.. لماذا يضحك العراقيون؟

بين الثالث والخامس من الشهر الجاري، نظّم "ملتقى الرافدين" في العاصمة العراقية بغداد، مؤتمر "مستقبل الإنسان: أزمات وتحولات"، شارك في أنشطته النقاشية سياسيون وأكاديميون وصحافيون من دول عربية وأجنبية عدة، تخللها في فعالية الإفتتاح حوارٌ عميقٌ ومتشعبُ الجوانب مع رئيس مجلس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني. 

لم تكد طائرة “طيران الشرق الأوسط” تهبط في مطار بغداد الدولي، حتى لاحظ زميل المهنة المخضرم، ابتسامة ترتسم على شفاه رجل الأمن العراقي الذي بادرنا إلى القول: “أهلاً بكم في بغداد”.

إلى جانبي كانت تقف زميلة في مهنة المتاعب والمصائب، وإذ بها تسارع إلى التساؤل: رجال أمن يبتسمون؟ وحين رأت ابتسامات من هؤلاء الرجال يسابق بعضها بعضاً أسرعت إلى القول الحسن بأن تلك الابتسامات غدت على ما يبدو بديلاً عن التأشيرات للراغبين بالدخول الى عاصمة العراق، وكرّرت قولها: الإبتسامة بديل التأشيرة.

***

“أهلاً عيني”، يسمعها الواقف في رواق مطار بغداد وهو ينتظر الباص الذي يقله إلى فندق “بابل”، البشاشة على وجه الجميع، كأنها راية حب يسلمها هذا العراقي إلى عراقي آخر، لا ترى بسمة ذابلة في بغداد، لا تسمع إلا الكلمة الطيبة، ترى العراقيين يتمازحون، يضحكون، وأول ما يسألونك: كيف تجد العراق؟

هذا السؤال سمعته من عشرات العراقيين على مدى أيام خمسة في بغداد، والسؤال إياه يكاد يجمع بين كل الشرائح العراقية، من صغار الكسبة إلى كبار المثقفين والسياسيين، وكأني بهم يريدون إجابة عن ملاحظة الفارق بين ما كان عليه العراق قبل سنوات وما صار عليه الآن، وحيث الفارق لا لبس به، فبغداد زاهرة  وشوارعها ورشات عمل ومقاهيها ومطامعها الحديثة عامرة، رجالها أنيقون ونساؤها أنيقات.

أدب الحديث ولياقة اللفظ أمران لافتان للإنتباه في بغداد، ولا تفسير لذلك بحسب ما توافقنا، زملاء عراقيون وعرب وأنا، بأن طبقة وسطى باتت تنمو وتتسع في عاصمة الرشيد، وهذه الطبقة باتت تنتج ثقافتها في السياسة والإقتصاد والآداب العامة وأنماط العيش، ونمو هذه الطبقة، مؤشر عملي إلى اتجاه العراق نحو الاستقرار والتعافي واستعادة موقعه الطبيعي في عوالم الحضارة والعلوم وصناعة السياسة.

سألت شخصية سياسية عراقية ثم نظيراً له في حزب آخر، فثالث فرابع، وكذلك كان حال سؤالي مع صحافيين ومثقفين عراقيين من مشارب مختلفة:

ـ يا سادة؛ ما سر هذه الإبتسامات والضحكات التي لا تغادر ثغور العراقيين؟ إلى ما قبل سنوات ما كنت أرى عراقياً مبتسماً ولا عراقياً يضحك؟

ـ أجاب سياسي عراقي: أصبح لدينا أمل. 

ـ ماذا تقصد؟

ـ السياسي العراقي: إلى سنوات مضت ما كان العراقيون يأملون ويتأملون. كان الشؤم يطغى حتى على خيالهم ومخيلتهم، كانت أحلامهم كوابيس، عقود عدة من الحروب عاشوها بالتعاقب، نصف قرن تقريباً من النزاعات الداخلية جعلتهم في حداد مقيم، نسوا ما في الكون من ألوان، صار الأسود لونهم الجمعي، وأغانيهم صارت مراثي، فقدوا الطرفة والنكتة وكل مشتقات الظرافة، حتى أن الناس دهمتها قناعة بأن العراق حالة ميؤوس منها، ولذلك قيل العراقي عبوس، أما الآن فالبسمة وشقيقتها الكبرى الضحكة، تصوغان العراق وتُشكّلان ملامحه، فالأمل عاد وهذا الأمل أفق العراق.

هذه الإجابة المطولة أدخلت القناعة إلى عقول جلساء المسامرة، فقال أحدهم: بالفعل ما رأيناه في الجادرية والكرادة من مشاريع ضخمة للبنى التحتية مصداق القول بالفعل، وأكمل جليس آخر كان تجول في مناطق بغدادية أخرى بأن بغداد كلها على ذات الورشات وأفعال البناء، وهنا قال سياسي من رفقاء الأنس والسمر، إن بغداد صورة عن المحافظات الأخرى، حيث الإعمار والبناء وتأهيل البنى التحتية والفوقية جامع يجمع بين كل أنحاء العراق.

كثيرة هي الأسئلة المتصلة بسياسة العراق الخارجية، وفي اللقاءات المختلفة مع سياسيين عراقيين منتمين إلى أطر مختلفة، كان الجواب أن العراق يعمل وفق قاعدة “تصفير” المشاكل مع الدول العربية الجارة، وأما الدول العربية الأبعد من الجوار، فلا تخضع لتلك القاعدة لعدم وجود تعقيدات سياسية معها، وهي خاضعة لمعادلة تطوير العلاقات وتنميتها إلى أبعد مدى وفضاء

***

في لقاء مصادفة، والمصادفة خير من ألف ميعاد، مع مُقرّب من دوائر القرار في بغداد، بسطت أمامه ما دار من أحاديث في جلسة المسامرة، فأومأ برأسه إيجاباً على الإستنتاجات التي خلصت إليها تلك الجلسة، وبعدما نفث دخان سيجارته إلى الأعلى، زاد وقال:

ـ أوافق على ما قال جلساؤك وأضيف: إلى ما قبل سنوات قليلة، كان السؤال في الداخل والخارج: العراق إلى أين؟

هذا السؤال كانت إجابته منعدمة الأفق ومسدودة الأمل، الآن تحوّل السؤال إلى إجابة عملية ظاهرة في انهاض العراق، والعراقيون بدؤوا يلمسون ويرون ما يجري على الأرض من تنمية، ومن أفعال تأهيل وتشييد في مختلف القطاعات، وعلى هذا، فسؤال “العراق إلى أين” بات وراء ظهر العراقيين، وإجابة ورشات العمل ألغت ذلك السؤال، والأمل الملموس في ابتسامات العراقيين هو وليد العمل الذي يعم بلادهم.

إجابة مقنعة، قلتها في نفسي، ولكن نفسي الأمّارة بالأسئلة دفعتني إلى البحث عن إجابة تطرد الشك من ظاهرة الإشادة برئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، تلك ظاهرة مثيرة للإنتباه، إذ أنّه من أعراف العراقيين وتقاليدهم أن يأنفوا من حاكمهم ويسأموا منه سريعاً وعاجلاً، ولكن مع شياع السوداني بدت الأعراف منقلبة، فالثناء على الرجل والتنويه بأعماله وإخراجه من دوائر الإتهام بالفساد، أمر مجمع حوله وعليه، وربما سألت العشرات من فئات عمرية واجتماعية متفاوتة ومن أحزاب متناقضة، عن الأسباب الدافعة للإشادة بالسوداني، وفي كل مرة كنتُ اسأل، كان يأتي الجواب بسيطاً ومنساباً: الرجل نزيه.. الرجل يعمل.

إقرأ على موقع 180  حبذا لو نُنزِل تاريخنا العربي "المقدس" من عليائه!

***

كثيرة هي الأسئلة المتصلة بسياسة العراق الخارجية، وفي اللقاءات المختلفة مع سياسيين عراقيين منتمين إلى أطر مختلفة، كان الجواب المتفق عليه، أن العراق يعمل وفق قاعدة “تصفير” المشاكل مع الدول العربية الجارة، وأما الدول العربية الأبعد من الجوار، فلا تخضع لتلك القاعدة لعدم وجود تعقيدات سياسية معها، وهي خاضعة لمعادلة تطوير العلاقات وتنميتها إلى أبعد مدى وفضاء.

سألت: علام يبدي العراقيون تفاؤلهم بنجاح سياسة “تصفير المشاكل” مع الدول العربية الجارة؟ 

أجاب المسؤول العراقي: سياسة العراق الخارجية تقوم على نبذ سياسة التدخل في الشؤون الداخلية في كل الدول، هذا هو العراق الجديد، وليس للعراق اطماع خارجية ولا جدول أعمال أمنياً، وهذا ما رسّخته مرحلة ما بعد عام 2003، وبعد عقدين على هذه المرحلة بات للعراق ما يمكن تسميته بـ”عقيدة السياسة الخارجية العراقية” المذكورة آنفاً، ونتائجها تظهر بوضوح مع دول الجوار العربية، من سوريا إلى الأردن إلى الكويت إلى السعودية ودول الخليج الأخرى. 

ـ حسنا.. هذا الشرح يُنتج سؤالاً جديداً، فحواه يستدعي دوراً للعراق في ترتيب العلاقات العربية-العربية وإجراء مصالحات بين هذا القطر وذاك  أو اجتراح مبادرات لإنتاج تسويات في الأقطار العربية التي تثقلها النزاعات أو الصراعات الداخلية وما أكثرها؟

ـ المسؤول العراقي: بما يتعلق بمبادرة العراق لإجراء مصالحات بين الدول العربية، هذه مهمة قمنا بها، بعضها معروف وبعضها غير مكشوف، ولكن ما يمكن قوله في هذه النقطة بالضبط، أن جانباً أساسياً من سياسة العراق الخارجية الآخذة بالتبلور ستقوم على أرضية أن يتحول هذا البلد إلى “جسر العرب” وملتقاهم، وهذه السياسة بقدر ما تخدم العرب جميعاً، فإنها تصب في مصلحة العراق الداخلية، فالتوافق في الخارج له انعكاساته على التوافق في داخل العراق. 

ـ عظيم.. هل هذه الأفكار مكتوبة؟ 

ـ المسؤول العراقي: لا، لكنها ممارسة، ولا بد من توثيقها وتحويلها إلى عقيدة عملية ونظرية في السياسة الخارجية العراقية.

ـ وماذا عن المبادرات الخاصة بتسوية النزاعات في الدول العربية المأزومة؟ 

ـ المسؤول العراقي: هذه تخضع لنقاش عراقي داخلي، هي فكرة طموحة ولم تتحول إلى سياسة عملية بسبب حدة ما يحدث من أزمات ونزاعات تصل إلى حدود الصراعات في دول شقيقة عديدة،  ولكن حين يسعى العراق إلى “تصفير مشاكله” مع الأشقاء، فلا شك أن “تصفير” المشاكل في داخل كل قطر عربي، يشكل هماً وشجناً عراقياً، ذلك أنّه حين تنظر إلى الدول العربية التي تمزقها النزاعات، والعراق عانى منها وقاسى، تُحفّزه على تأدية دور طموح قد يأتي بعد حين، ومن دون أن يكون العراق طرفاً في هذه النزاعات، ومثلما يطمح العراق ليقود وساطة خير بين الدول العربية قد يأتي يوم أو تأتي مرحلة يرعى فيها وساطات مماثلة بين أبناء الشعب الواحد في دولة عربية أو قطر عربي لو سمحت الظروف وتهيّأت عوامل حل النزاعات.

عند هذا التفصيل، كان لا بد للحديث عن علاقات العراق بجيرانه العرب أن يشهد ختاماً مفعماً بالأمل، لكن سؤالاً آخر بقي في طيات النفس، ويتعلق بكيفية صياغة العراق علاقاته بين الجوار العربي والجوار الإقليمي، والمقصود في ذلك إيران وتركيا، وهذا ما تم طرحه مع شخصية عراقية أخرى فكان الجواب:

ـ الشخصية العراقية: إيران وتركيا دولتان جارتان للعراق، وسياسة العراق معهما قائمة على حُسن الجوار، وكلما بقيت السياسة الخارجية العراقية مستقرة معهما، كان للعراق نصيب وافر من الإستقرار، وهذا من الثوابت في سياسة العراق الخارجية، وأكثر من ذلك، كلما كان التوافق راسخاً في العلاقات التركية ـ الإيرانية، يترسخ الإستقرار الداخلي في العراق، وهو الأمر نفسه لو نظرنا إلى العلاقات الإيرانية ـ السعودية وكذلك العلاقات السعودية ـ التركية. 

ـ من هذه الزاوية، لعله من المفيد الإشارة إلى سعي العراق إلى تجسير العلاقات بين طهران والرياض وقبل الرعاية الصينية للمصالحة الإيرانية ـ السعودية؟

ـ الشخصية العراقية: بالفعل، وأكاد أجزم قائلاً إن المكاسب التي حقّقها العراق من المصالحة السعودية ـ الإيرانية لا تقل عن المكاسب التي تحققت لطهران والرياض، وكذلك الحال مع تطبيع العلاقات التركية ـ السعودية. 

بعدما أنهت الشخصية العراقية الشرح والتفصيل، غدت الإجابة من نصيبي، وانقلبت الأدوار، فقيل لي ماذا تقول في العراق؟

قلت ما كان قاله شاعر العراق الكبير محمد مهدي الجواهري:

ـ لا أحب أن ألفظ العراق بعين مكسورة، وإنما بعين مرفوعة، ولا أقول العِراق بل اقول العُراق.

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  ديفيد أغناسيوس: نسخة جديدة لشرق أوسط يُعيد بناء نفسه