عبد الإله النصراوي، إنْ كان من الجيل الثاني للقوميين العرب، إلّا أن مواصلته واستمراره وعمله التنظيمي الحركي، جعل منه آخر عنقود شخصيات الجيل الأول، الذي ضمّ أسماء كبيرة مثل محمد مهدي كبّة، الذي أسّس حزب الاستقلال العام 1946 وصدّيق شنشل، وفائق السامرائي، ومحمود الدرّة وأحمد الحبوبي (أطال الله في عمره)، وهاشم علي محسن وصبحي عبد الحميد وفؤاد الركابي وعبد الله الركابي (أطال الله في عمره) وآخرين.
ولا يمكن الحديث عن عبد الإله النصراوي، دون الحديث عن الحركة الوطنية العراقية منذ ستينيات القرن الماضي، ابتداءً من نشأته الأولى في مدينة النجف، مرورًا بالدور الذي لعبه بغداديًا، ثم ما قام به من “أدوار في المنفى”، وما تعرّض له بسببها، لذلك ستشتبك هذه السردية موضوعيًا بمقاطع من تاريخ الحركة الوطنية العراقية وشخصياتها، بما لها وما عليها.
***
انخرط عبد الإله النصراوي في سن مبكرة في إطار منظمة الشباب القومي، حينما كان طالبًا في المتوسطة، عشية العدوان الثلاثي الأنكلو – فرنسي “الإسرائيلي” على مصر في العام 1956، وهو تنظيم تابع لحزب الاستقلال، الذي كان من أبرز قادته في النجف، المحامي أحمد الحبوبي والشيخ أحمد الجزائري، نجل عالم الدين عبد الكريم الجزائري. وساهم بحيوية في الانتفاضة الشعبية التي اندلعت انتصارًا لها، حيث بدأت مسيرته الأولى في العمل السياسي والوطني.
ومنذ تلك السنوات جمعتني به محطات عديدة، سأحاول أن أمرّ عليها بعد هذا التمهيد والاستهلال، فقد وُلد كلانا في النجف، وبفارق عمري يكبرني فيه 3 سنوات. وعشنا في ظروف متقاربة، وكانت تربطنا علاقة صداقة عائلية وشخصية في ما بعد، زادت عن ستّة عقود من الزمن.
سأتوقّف عند المرحلة النجفية ومنها أنتقل إلى المرحلة البغدادية وبعدها أتناول المرحلة التشيكية، ثم أعرّج على المرحلة الشامية – البيروتية، وهي مرحلة استمرّت لأكثر من ثلاثة عقود من الزمن، وأختتم بالمرحلة البغدادية مجدّدًا، حتى عودته إلى بيروت واعتكافه في المنزل بسبب المرض.
***
المعرفة الأولى كانت عبر شقيقه الكبير الصديق عبد الستار النصراوي (أبو رياض)، الذي امتهن التجارة، وكان لديه دكانًا لبيع الأقمشة بالمفرق بالقرب من محل والدي ومحل معين شعبان ووالده الحاج عبد، وكانت علاقتنا طيبة وحميمة، سواءً في النجف، أو حتى بعد أن انتقلنا إلى بغداد، التي سرعان ما انتقل إليها أيضًا، ولكنه منذ أواسط الستينيات، ترك العمل الحر، ليتوظّف في إحدى دوائر الدولة، ولحقه ما لحقه من أذى بعد انقلاب 17 تموز/ يوليو 1968.
وكان قد اضطّر بعد رحلة مضنية من الوصول إلى جمهورية التشيك في التسعينيات، خصوصًا بعد أن ضاقت به السُبل، واستقرّ لبضعة أشهر في كارلو فيفاري، والتقيته خلال وجوده فيها، وتابعت معه تفاصيل وصوله إلى هولندا للحصول على اللّجوء السياسي. وكان الأخ علي كريم زاغي يتابع أموره في هولندا، حيث التقيته هناك أيضًا.
***
كانت النجف القديمة مقسّمة إلى أربعة أحياء أو محلّات كما تسمّى، وهي: العمارة والبراق والمشراق والحويش، ثمّ أضيفت إليها محلّة خامسة هي “الجديدة” قبل إنشاء “حي السعد” الحديث ببيوته الفارهة، ثمّ اتّسعت المدينة بالإجهاز على معمارها التاريخي وتشويه معالمها بزعم تحديثها، وهو ما بدأ في السبعينيات، وزاد على نحو متعسّف، فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي (2003). وعلى الرغم من مناشدات العديد من الفنيين والمهندسين بضرورة الحفاظ على التراث الحضاري للمدينة ومعمارها وهندستها، ولكن دون جدوى.
وقد كتب الصديق الدكتور المهندس حيدر كمونة مذكرّات عديدة إلى المسؤولين، كما خاطب بعض علماء الدين، من دون أن يلقى آذانًا صاغية، وهو الخبير في هندسة المدن وتخطيطها، كما نشر العديد من الأبحاث والدراسات على هذا الصعيد، حيث تمّ تشوية معالم المدينة بطريقة لا تخلو من العشوائية والقصدية في آن، كما هو حال العديد من المدن العراقية والعربية.
السوق الكبير والصحن الشريف يمثّلان رئتي المدينة، وصولًا إلى ميدانها الأساسي، حيث بعض المقاهي الشهيرة ومنها مقهى عبد ننه، الذي خصصته بواحدة من سردياتي الموسومة “مقهى ورواد ومدينة: ذاكرة المكان ونوستالجيا التاريخ“، إضافة إلى سراي الحكومة المعروف ﺑ”خان الهنود”، الذي اكتظّ بالمعتقلين بعد انقلاب 8 شباط/فبراير 1963، وقضى فيه كاتب السطور نحو أربعة أشهر قبل نقله إلى المعتقل الجديد تحت الأرض.
السوق والصحن وما حولهما عبارة عن نادٍ سياسي وثقافي وديني في خمسينيات القرن الماضي، فآل عجينة وآل شعبان وآل الحبوبي (رحيم وإخوته رشاد وعزيز وخاله) ومحمد الحلو (صاحب المكتبة)، على ملاك الحركة الشيوعية، وآل محي الدين وعبد الستار النصراوي على ملاك القوميين، وآل البلاغي وآل القاموسي أقرب إلى التوجهات الدينية، والكل يعيش مع الكل ويحترم الكل.
ومع الفطور الصباحي المتميّز يبدأ النجفيون صباحهم بالنقاش، وهو الوجبة الدسمة التي لا تكتمل بدونها الأصبوحة، وما بعدها فترة الضحى، وقبل المغرب كانت المواعيد تُضرب في البيوت أو في السراديب في فصل الصيف، أو على السطوح حين يكون الجو مقبولًا، حيث يُنصب إبريق الشاي (الساماور) ويحتسي الضيوف وأهل الدار الأقداح الواحد بعد الآخر، أو شاي الزعفران في بعض المناسبات.
كانت النجف ساحة منافسة في كلّ شيء بين القوميين والشيوعيين، فالقوميون أسّسوا فريق فيصل الرياضي لكرة القدم، في حين سبقهم الشيوعيون بتأسيس فريق الاتحاد. وفرق كرة القدم ليست بالضرورة تجمع اللاعبين، وإنما يجتمع تحت لوائها المؤيدون للتيار السياسي. وكان عبد الإله النصراوي وعلي كمونة وأمير الحلو وعلي منصور، ضمن التيار القومي ولاعبين أو مشجعين لفريق فيصل، وكان فريق فيصل يتدرّب عند سور النجف التاريخي المعروف أو ما تبقى منه، خلف مقبرة الغري الشهيرة. أما فريق الاتحاد فكان يتدرّب في الجدول (في منطقة الطارات التاريخية) بالقرب من منزل (كوخ) حسين سلطان، مسؤول محليّة النجف للحزب الشيوعي، ويرأسه عبد الرضا فياض، ويلعب فيه صاحب صبار، الذي أصبح لاعبًا معروفًا بمنتخب النجف، أما نعمان مرزة، فقد كان في فريق فيصل، وهو لاعب معروف أيضًا.
ولم تقتصر المنافسة على الرياضة، بل امتدّت إلى المشاركة بالمواكب الحسينية أيضًا، فعزاء البراق معروف بأن الشيوعيين يديرونه أو يقفون خلفه، وهو يُعرف من شعاراته الراديكالية، وكان الشيخ محمد الشبيبي، والد الشهيد حسين الذي أعدم مع فهد سكرتير الحزب الشيوعي، أحد قرّاء المنابر الحسينية في النجف، حيث يزدحم مجلسه، وخصوصًا في محلّة البراق لمناسبة عاشوراء. أما عزاء المشراق، فهو يميل إلى المحافظة، وكان القوميون يشجعون عليه، وعزاء العمارة يلتقي فيه القوميون والشيوعيون، أما عزاء الحويش فإنه معروف بيساريته. ولعلّ تلك مناسبات تزيد من اللقاءات والتواصلات والصداقات والنقاشات في الآن.
وكانت انتفاضة العام 1956 فرصة مناسبة للّقاء الوطني، حيث اتفق الحزب الشيوعي وحزب الاستقلال وحزب البعث، وكان من قيادته في النجف محسن الشيخ راضي وصدقي أبو طبيخ. والحزب الوطني الديموقراطي الذي كان له تمثيلًا رمزيًا في النجف. ولذلك تمكّن المتظاهرون بعد أيام، من السيطرة على المدينة لمدة 10 أيام، واضطرّت القوّة المُرسلة من بغداد عدم التعرّض لهم، بل المرابطة في الأماكن العامة وحماية المؤسسات الرسمية.
وكان قائد القوّة المرسلة، العقيد عبد الوهّاب الشوّاف، أحد الضباط الأحرار في ثورة 14 تموز/يوليو 1958، والذي قاد لاحقًا حركة تمردية في 8 آذار/مارس 1959، وقضى نحبه خلال الاقتتال وبعد فشل الحركة.
***
برز عبد الإله النصراوي في ميدان الطلبة الذين كانوا رأس الحربة في الانتفاضة، وحدث أن تمّت لقاءات بين الطلبة الشيوعيين والقوميين للاتفاق على استمرار الانتفاضة، والعمل على توحيد الشعارات وإبراز دور مصر في التصدّي للعدوان الثلاثي، وكان الشيوعيون يؤكدون على أهمية التضامن الأممي لدعم الصمود المصري، وهو ما دوّنه الشيوعي المعروف صاحب الحكيم في كتابه “النجف – الوجه الآخر: محاولة استذكار”، بغداد، 2011.
في النجف كما أشرت، يبدأ كلّ شيء ويصبّ في السوق والصحن ذي الأبواب الأربعة، وكلّ باب يؤدي إلى محلّة، حيث الأزقة الضيّقة والبيوت المتراصة والملتصقة ببعضها، لكن الجامع الأساس كان النقاش الذي يجري على قدم وساق دون توقّف، فقد اعتادت المدينة على الجدل.
***
من الجدل إلى الجدل يبدأ النجفيون يومهم به، ويودعون بعضهم في المساء على جدل يُستكمل في اليوم المقبل، وأحيانًا لا يُستكمل حتى بعد انقضاء أشهر، حيث يبقى جدلًا مفتوحًا ومتواصلًا. وكانت اللقاءات والمناقشات تجري في المنازل أيضًا، وفيما يسمّى بـ”البراني” أو “الديوانية”، حسب المصطلح الخليجي، وهي عبارة عن منتديات مفتوحة، بعضها يُعلن عنها في أيام محدّدة مثل ليلة الجمعة (الخميس) أو يوم الأربعاء أو يوم الاثنين، وأحيانًا بعد التعازي العاشورائية أو الأماسي الرمضانية أو المناسبات المختلفة في الأفراح والأتراح.
وفي تلك الأماسي كانت تنعقد المطارحات الفكرية والمطاردات الشعرية، إضافة إلى حوارات حول الدين والأدب واللغة والنحو والصرف والفن والمرأة والعلم والسياسة. وهي عبارة عن صالونات مفتوحة يُناقش فيها كلّ شيء دون محرّمات أو تابو، ودون تجريم أو تأثيم أو تكفير، ولكلّ قناعاته، حيث يجتمع بكلّ أريحية في البيت والزقاق والمدرسة والسوق والصحن شيوعيون وقوميون وبعثيون فيما بعد، ومتدينون قبل تأسيس الحركة الدينية بعد العام 1958، وإن كان ثمّة إرهاصات سبقتها، اتخذت طابعًا أدبيًا وثقافيًا وتربويًا.
***
تلك هي الأجواء التي نشأ فيها النصراوي في محلّة العمارة، حيث نشأتُ كذلك، وهي أجواء غنية بكلّ ما هو جديد حدّ الدهشة أحيانًا، في سوسيولوجيا يجتمع فيها ما هو ديني متعصّب أو منفتح وبين ما هو مدني وحداثي، وما هو ريفي وعشائري وبدوي، وبين ما هو عربي أصيل، وبين وافدين مقيمين أو طلبة دارسين في الحوزة النجفية، وبين لغات وقوميات وجنسيات وأجناس مختلفة، وإن كانت العروبة واللغة العربية وفقهها وأدبها ونحوها وصرفها حاضرة بقوّة دائمًا.
وكان ما يجمع القوى الوطنية، هو الكفاح ضدّ حلف بغداد والعمل للإطاحة بالنظام الملكي، وإن ظلّ هذا الشعار متواريًا. ونشط العمل بشكل أكبر بعد تأسيس جبهة الاتحاد الوطني (آذار/مارس 1957)، والتي ضمّت أربعة أحزاب، هي الاستقلال والشيوعي والوطني الديموقراطي والبعث. ووقّع الحزب الشيوعي ميثاقًا ثنائيًا مع الحزب الديموقراطي الكردي (الكردستاني – البارتي)، لعدم موافقة حزب الاستقلال والبعث على انضمامه للجبهة.