حرب إسرائيلية.. وانتفاضة فلسطينية

جاءت العملية العسكرية الإسرائيلية فى جنين ضد المدينة والمخيم لتمثل أوج التصعيد الإسرائيلى فى العدوان العسكرى المتصاعد بقوته والمتوسع بأهدافه فى الضفة الغربية، إذ تضررت حوالى ٨٠ بالمائة من العقارات فى المخيم من خلال التدمير الكلى أو الجزئى.

تُذكّر العملية العسكرية الإسرائيلية ضد جنين بتلك التى قامت بها إسرائيل ضد المدينة والمخيم فى العام ٢٠٠٢ فى خضم الانتفاضة الفلسطينية الثانية. وتقول إسرائيل إنها هدفت من عمليتها هذه إلى ضرب المقاومة المسلحة فى عقر دارها. مقاومة نشأت خارج التنظيمات الفلسطينية المعروفة وكرد فعل على أعمال القمع الإسرائيلية وكذلك أعمال التهويد الجارية على كافة المستويات. ولا يستبعد أن تقوم إسرائيل بعمليات أخرى من هذا النوع ضد مدن وقرى فلسطينية مختلفة مع ازدياد نشاط المقاومة الفلسطينية المسلحة.
جملة من الأسباب المباشرة كانت وراء انفجار الوضع ولم يكن الأمر مستغرباً:
أولاً؛ النشاط الاستيطانى المتسارع وعلى سبيل المثال تمت الموافقة فى الأشهر الستة الأولى من عمر هذه الحكومة على إقامة حوالى ١٣ ألف وحدة استيطانية مع الإعلانات الرسمية المتكررة عن أن الهدف هو الزيادة المفتوحة فى أعداد المستوطنين فى الضفة الغربية مع توفير كافة الوسائل لتحقيق هذا الهدف الذى يتقاطع فيه البعدان الدينى والاستراتيجى. وتدل التصريحات المتكررة لكل من وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومى إيتمار بن غفير، والاثنان يعتبران من أبرز رموز الصهيونية الدينية المتشددة والأخير يمتلك من السلطات التى تخوله تشجيع الاستيطان ومساعدة المستوطنين، على هذا التوجه الناشط.
ثانياً؛ تحول المستوطنين إلى ميليشيات مسلحة تحصل على الدعم من السلطات المعنية يشكل تحولا خطيرا فى دور هؤلاء على الأرض. ويندرج ذلك ضمن سياسة استكمال إقامة إسرائيل الكبرى من النهر إلى البحر عبر سياسة التهويد الناشطة على الصعيدين الديموغرافى والجغرافى. كل ذلك يحصل بالطبع على حساب الحقوق المشروعة للشعب الفلسطينى الرازح تحت الاحتلال. وفى السياق نفسه، تزداد عمليات الاعتداء على المقدسات الإسلامية والمسيحية وعلى رأسها المسجد الأقصى التى تهدف السياسة الإسرائيلية الراهنة لتقسيمه. ويجرى ذلك تحت عنوان استرجاع الحقوق الدينية التاريخية «لشعب إسرائيل» على أرضه.
ولا يكفى أن نسمع دعوات من الأطراف الدولية للتهدئة أو لوقف كل أعمال تهدف إلى إجراء تغييرات على الأرض فى الضفة الغربية المحتلة والتذكير بأن حل الدولتين هو الحل المنشود والذى يوفر تحقيق السلام. ويذكر كبار المسئولين الأمريكيين من الرئيس بايدن إلى وزير خارجيته بذلك دون ممارسة الضغوط المطلوبة للإسهام فى وقف هذه السياسة التى لا تشكل فقط تحديا فاضحا للقرارات الدولية ذات الصلة وتحديدا قرارات مجلس الأمن إنما تشكل خطرا مباشرا على تحقيق السلام فى المستقبل. إنها سياسة تعمل على نسف كل الأسس المطلوب الحفاظ عليها وتعزيزها.

ولا يكفى أن تمتنع واشنطن عن دعوة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو للقيام بما يعتبر تقليدا مستقرا فى العلاقات المميزة بين البلدين وقوامه زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلى إلى واشنطن بل توجه الدعوة لرئيس الجمهورية يتسحاق هيرتسوغ للقيام بزيارة واشنطن. وهذا بالطبع ما قد يحدث أزمة داخلية فى إسرائيل فيما لو حصلت إلى جانب أزمة فى العلاقات بين الحليفين الاستراتيجيين.

إن إحياء عملية التسوية الشاملة والعادلة وبالتالى الدائمة هذه ليست بالأمر السهل، ولكنها تبقى بالأمر الممكن وغير المستحيل إذا ما تمت مقاربتها والانخراط من قبل الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة بمواكبتها بشكل فاعل وشامل وتدرجى

ومع استمرار غياب القضية الفلسطينية بأبعادها وانعكاساتها على الأوضاع الإقليمية بدرجات مختلفة عن جدول الأولويات الإقليمية، تعمل إسرائيل على إقامة الدولة الواحدة من النهر إلى البحر. الدولة التى قد تسمح للفلسطينيين فى ممارسة بعض الصلاحيات المحلية، التى تسمى حكما ذاتيا، فى مناطق إقامتهم، دون أى سلطات سيادية. مقابل ذلك يطرح البعض كتسوية تاريخية ونهائية وعادلة للجميع قيام دولة واحدة على أساس المساواة فى حقوق المواطنة بين جميع أبنائها، الأمر الذى يشكل نقيضا للمشروع الصهيونى بجميع أشكاله. بالطبع يعتبر ذلك بمثابة طرح جذاب من حيث رؤيته القائمة على مفهوم المواطنة البعيدة كل البعد عن أى ارتباط بالانتماءات الدينية أو غيرها، وعلى المساواة فى الحقوق والواجبات بين أبناء الدولة الواحدة. لكنه يبقى مشروعا أو حلما لدى أصحابه، لا يمكن تحقيقه لأنه يشكل على أرض الواقع نقيضا كليا للمشروع الذى قامت على أساسه دولة إسرائيل بجميع أبعاد أو أشكال هذا المشروع، وبالتالى لا يمكن أن تسمح بإقامته.
التسوية العادلة والشاملة والدائمة لهذا الصراع المختلف الأوجه والأبعاد تستدعى العودة إلى ما يعتبره البعض قد سقط نهائيا مع التطورات المتسارعة والحاصلة على الأرض كما أشرنا سابقا: مشروع الدولتين اللتين تعيشان جنبا إلى جنب. المشروع التى تشكل كافة القرارات الدولية ذات الصلة مرجعيته الشرعية وإطاره العملى.

إن إحياء عملية التسوية الشاملة والعادلة وبالتالى الدائمة هذه ليست بالأمر السهل، ولكنها تبقى بالأمر الممكن وغير المستحيل إذا ما تمت مقاربتها والانخراط من قبل الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة بمواكبتها بشكل فاعل وشامل وتدرجى لأنها فى نهاية المطاف تساهم أيضا فى توفير الأمن والاستقرار والسلام فى المنطقة.

إقرأ على موقع 180  إقّرأوا عدوّكم.. إنه لا يحترم المذبوحين!

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
ناصيف حتي

وزير خارجية لبنان الأسبق

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  عالمٌ بلا زعامة حقيقية.. وبشريةٌ مصابةٌ بشيخوخة مُبكّرة!