حتى تُبدع دبلوماسية مصر.. في ساحة الأمن القومي

لم يعد من المبالغة في شيء القول بأننا نقف على مشارف عالم جديد. أذكر كيف كنا نقترب بحذر من استخدام عبارة عالم جديد عندما نناقش احتمالات استمرار انحدار دولة عظمى واستمرار صعود دولة أخرى أو عندما نعرض لبوادر انهيارات جماعية في اقتصادات دول في الجنوب. كنا نشعر أحيانا كمن ينتقل من الكتابة عن عالم الواقع كما نعيشه إلى الكتابة عن عوالم خائلية لم نعشها وفي الغالب لم نحلم بها.

اخترت اليوم حال الدبلوماسية التقليدية مدخلاً وموضوعاً لمقالي الأسبوعي لإيماني بأنها في أي دولة توجد يجب أن تحتل مكانتها باعتبارها الأداة الأمثل بين أدوات صارت عديدة ومتداخلة لتنفيذ السياسات الخارجية للدولة. صار المعلقون وبعض الساسة يلقون عليها باللوم في حال فشل هؤلاء الساسة تنفيذ ما وعدوا به. يلقون على الدبلوماسية باللوم سواء كانت لها مسحة دور ضئيل في التنفيذ أو كانت مستبعدة أو مهملة فعلياً.

درسنا في شبابنا وبالعمق الكافي دور الدبلوماسية المصرية في تنفيذ سياسة كسب تأييد دول العالم في سعينا لتحقيق جلاء الاستعمار البريطاني، ودورها في صنع جامعة الدول العربية وتسييرها وصيانتها وحمايتها في مواجهة النزاعات العربية، ودورها في تدبير وصياغة تحالف مع المملكة العربية السعودية كان له الفضل في تثبيت دعائم نظام إقليمي عربي ناشئ. لم ننكر في شبابنا فضل دبلوماسيتنا المصرية على تحقيق ما عرف بالنصر السياسي في حرب السويس أو قيادتها الحملة الشاملة لرفض حلف بغداد مؤكدة موقفها الثابت منذ العصر الملكي ضد سياسات الأحلاف الغربية. الوارد في هذه السطور ليس حصراً بأي حال ولكن عرضاً لبعض الأدوار التي لعبتها الدبلوماسية المصرية ليس فقط باعتبارها أداة تنفيذ للسياسة الخارجية ولكن أيضاً كصانعة سياسة. الحصر يطول إن احتجنا إليه.

***

مصر على مشارف عالم جديد. بدت لنا المشارف في غالبيتها العظمى شديدة التعقيد وعامرة بالمفاجآت. كان الصعود الصيني بين هذه المشارف لمدة غير قصيرة حتى صار حقيقة واقعة وعلامة من أهم علامات عالم جديد. ما لا يعرفه الكثيرون من أبناء وبنات الأجيال المعاصرة في مصر والعالم الخارجي أن دبلوماسيتنا كانت بين الأسبق في الاعتراف بالصين قوة دولية ناهضة. سمعت شو اين لاي وكان وزيراً للخارجية مدعواً لحفل غداء في سفارة مصر ببكين وكنت وقتها ملحقاً دبلوماسياً بها، سمعته يشيد بالدبلوماسية المصرية التي كانت بين دبلوماسيات دول قليلة العدد، هي الهند وإندونيسيا ودول أوروبا الشرقية، أقامت علاقات مع الصين في مرحلة مبكرة برغم الضغوط الأمريكية. مرّ على هذا الحفل حوالي خمس عشرة سنة عدت بعدها إلى الصين مع وفد يمثل مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في مؤسسة “الأهرام” وقضينا سهرة مع شو اين لاي امتدت لحوالي ست ساعات عاد يُردّد خلالها الإشادة بجرأة وإبداع الدبلوماسية المصرية.

***

الصعود في حد ذاته أحد ثلاثة عناصر تشكل مجتمعة شرطاً من شروط مرحلة يجري خلالها التمهيد لهذا العالم الجديد. هذه العناصر هي صعود الصين وانحدار أمريكا وحرب وسياسات إزاحة روسيا أو تطويعها

نعيش اليوم إرهاصات وربما الكثير من التقلصات المصاحبة لولادة هذا العالم الجديد. في مثل هذه الظروف يفترض أن تكون الدبلوماسية أول من يستعد في الدولة لمرحلة غير عادية وبخاصة إذا كانت هذه الدولة من الدول التي جرّبت ذات مرة، بل مرات، لعب دور متميز بين “نشطاء” السياسة الدولية. مصر كانت واحدة من هذه البلاد واستخدمت دبلوماسيتها حتى أبعد الحدود وجنت من ورائها فوائد جمة ودفعت ثمناً في المقابل.

لا أظن، ولا أتمنى، أن يكون بين الخيارات المتاحة في السنوات القادمة إبطال مفعول هذه الأداة أو إضعافها والتعويض باستخدام أدوات أخرى أقل كلفة. ينسون أو يتجاهلون حقيقة أن الخبرة بالشئون الدولية تأتي بالتراكم شأناً بعد آخر وجيلاً وراء آخر وبالانغماس المكثف والأعمق في قلب وثنايا جماعة فريدة تمارس بكل الحب والفخر واحدة من أقدم المهن في التاريخ. لست، ولن أكون، واحداً من المبشرين بالذكاء الاصطناعي بديلاً للدبلوماسية كما نعرفها أو حتى مكملاً لها.

صعود الصين وحده لا يمثل علامة من علامات عالم جديد. فالصعود في حد ذاته أحد ثلاثة عناصر تشكل مجتمعة شرطاً من شروط مرحلة يجري خلالها التمهيد لهذا العالم الجديد. هذه العناصر هي صعود الصين وانحدار أمريكا وحرب وسياسات إزاحة روسيا أو تطويعها، بالإضافة إلى ما يحيط بهذه العناصر من تعقيدات وصعوبات تعكس نفسها في تصرفات دول أخرى.

من العلامات أيضاً عودة السباق على إفريقيا محكاً لسباق أكبر وأوسع بين الدول الكبرى على الثروات المعدنية التي تزخر بها القارة السمراء. من هذه المعادن ما ازدادت أهميته مع التقدم الصناعي والتكنولوجي مثل اليورانيوم والكوبلت والليثيوم والتربة السوداء والغاز. حديثاً انضمت إلى السباق روسيا والصين ولم تكن أي منهما طرفاً في السباق الأول الذي انعقد من أجل الاتفاق على تفاصيله ورسم خرائطه وتنفيذه مؤتمر في برلين في أواسط الثمانينيات من القرن التاسع عشر. المتابع لتاريخ السباق لا يستطيع أن يخفي عن متسابقي المرحلة الثانية، وأقصد الراهنة، حقيقة أليمة وهي أن السباق في مرحلته الأولى انتهى إلى حرب عالمية رهيبة. غيرُ خافٍ علينا أو مستتر حال التوتر العسكري الراهن في منطقة غرب ووسط إفريقيا منذ أطلقت عاصمة النيجر إشارة البدء في مقاومة السباق على إفريقيا في مرحلته الجديدة.

***

تهدّد الأمن القومي المصري أكثر من مرة في السنوات الأخيرة بفعل متغيرات عالم جديد يتشكل في إفريقيا ولم تكن دبلوماسيتنا برغم خبرتها الطويلة جاهزة للتعامل مع هذه المتغيرات المتلاحقة

استجدت حقائق. لم توجد دول إفريقية مستقلة في المرحلة الأولى ولم يوجد قانون إنساني دولي ولا قواعد عمل من نوع ما صاغته الدبلوماسية الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها. كل هذه الأشياء والابتكارات موجودة الآن وفي مقدمها حقيقة هامة وهي أن الدول المستعمرة لم تحسن تطوير مستعمراتها حتى انتهت المستعمرات إلى شكل دول عاجزة عن حماية وإدارة ثرواتها وشعوبها ونخبها السياسية والعسكرية. إفريقيا مهددة الآن ـ ولهذا السبب ـ بعجز في إيمان شعوبها بالديموقراطية وبعجز في الثقة بالرجل الأبيض وبالحكومات العسكرية. إفريقيا مهددة أيضا بحلقات متصلة من الانقلابات وباحتمال أن تصير سوقاً للسلاح والحروب تتنافس فيه وتتقاتل شركات من مرتزقة الحرب ومرتزقة السياسة الخارجية والداخلية على حد سواء ولدينا في شركة “فاجنر” الروسية والميلشيات المتمركزة في ليبيا و”قوات الدعم السريع” في السودان النموذج المستجد في عالم جديد.

إقرأ على موقع 180  في محاسن السبّ ومهالك الحكمة.. أحياناً!

***

أشارك الدبلوماسية المصرية حيرتها وترددها إزاء الدور الذي يمكن أن تؤديه في هذه الظروف الانتقالية لتخدم به أمن مصر القومي، وكما هو معروف فقد تهدّد هذا الأمن أكثر من مرة في السنوات الأخيرة بفعل متغيرات عالم جديد يتشكل في إفريقيا ولم تكن دبلوماسيتنا برغم خبرتها الطويلة جاهزة للتعامل مع هذه المتغيرات المتلاحقة. قيل إنها لم تكن مكتملة التدريب لمواجهة هذه المتغيرات خاصة وأنها كانت قد انتحت، أو نحيت، جانباً لصالح أدوات وأجهزة أخرى استحدثت أو تعزّزت هيمنتها وإمكاناتها وفي حالات غير قليلة احتكرت صنع وتنفيذ سياسات خارجية مصرية بعينها. في المقابل، فقدت الدبلوماسية خلال هذه المرحلة بعض مكانتها وأخشى القول إنها تعرضت لأزمات ثقة في النفس والدور. لا بد من الاعتراف بأن مصر نأت بنفسها عن إفريقيا وقضاياها لسنوات وربما عقود متسببة في فراغ ملموس بعد أن كانت سياسات مصر الإفريقية وبعض دبلوماسيتها التقليدية ملء أسماع وأبصار القائمين على العمل الإفريقي في إفريقيا والعالمين العربي والدولي.

***

في هذه المرحلة سوف تحاول الدبلوماسية المصرية أن تجوب ساحة توازن القوى في المنطقة سعياً لاحتلال موقع جديد لمصر في غياهب نظام إقليمي يتحول ويتشكل من جديد بشدة وبسرعة

يطل علينا من وسط مشارف العالم الجديد تطور آخر لعله من أهم ما ينتظر دبلوماسية مصر في السنوات القادمة. تطل علينا موجات هجرة متعددة الأجناس والأشكال، أكثرها محفوف بمخاطر غير محدودة. أهم الموجات تلك الناشئة في الشرق الأوسط حيث كانت لنا مصالح ترتبط ارتباطاً حيوياً بالأمن القومي المصري حسب ما كان معروفاً في فهم ووعي النخب الحاكمة المصرية عبر الأجيال. يشترك في نشأة هذه الموجات التفاوت الزاعق غالباً في دخول ومستويات معيشة شعوب تجاورت قبل أن تتكثف وتتعمق فرص التعارف بينها. لم يعد رخاء شعوب أوروبا والولايات المتحدة أمراً وواقعاً بعيداً عن جوع ومآسي وفقر بعض شعوب الشرق الأوسط وأكثر شعوب إفريقيا. يشترك أيضاً وبوتيرة متصاعدة في نشأة وصعود هذه الموجات حاجة دول أوروبا واليابان، وكذلك الصين عما قريب، إلى سكان من الخارج تستعيد بهم شبابها وحيويتها أو ليتمكن السكان الأصليون من التفرغ لمزاولة مهن العالم الجديد وأغلبها معتمد على تكنولوجيات ووسائط غير مألوفة للبشر الآخرين من أصحاب الذكاء الطبيعي. لم تكن مصر بمنأى عن هذه الموجات العابرة والمستقرة والناشئة على أرضها، وأخشى أنها لن تكون.

***

كثيرة هي الأسئلة عن مستقبل الدبلوماسية المصرية وهي على مشارف عالم جديد. عالم يعتمد فيه نهر النيل على وضع جديد لم تستعد له مصر الاستعداد الكافي أو حتى المناسب. أتصور أن إجابات كثيرة على أسئلة الناس في كل من مصر والسودان لن نجدها عند الدبلوماسيين الذين يفترض أنهم أداروا معركة التفاوض مع دبلوماسيات عربية وغربية وإفريقية وأثيوبية ساهمت جميعها بشكل أو بآخر في صنع أسطورة سد النهضة ولم تحسن صنع سبل تفادي آثارها السلبية.

من ناحية أخرى لا أشك للحظة واحدة في أن قادة الدبلوماسية المصرية يستعدون لمرحلة هي الأصعب والأكثر دقة وحرجاً في تاريخهم وتاريخها. ففي هذه المرحلة سوف تحاول الدبلوماسية المصرية أن تجوب ساحة توازن القوى في المنطقة سعياً لاحتلال موقع جديد لمصر في غياهب نظام إقليمي يتحول ويتشكل من جديد بشدة وبسرعة. أظن أن الدبلوماسية المصرية بسبب ظروفها الخاصة فاجأها بعض تحولات النظام الدولي وصعوبات الاقتصاد الداخلي. فاجأتها أيضاً الأوضاع المتدهورة في أكثر من ست دول عربية. صدمتها ولا شك هجمات دول الجوار في لحظة تاريخية واحدة، عادت تفرض نفسها وسياساتها وطموحاتها على الدول العربية كل على حدة أو في مجموعات، حقّقت لنفسها في سنوات أو شهور ما لم تحققه على امتداد عقود وربما قرون.

***

يطول الحديث وينتهي غالباً كما انتهى من قبل عند أهمية الاقتناع بضرورة إفساح المجال للدبلوماسية المصرية لتعود كما كانت عنصراً خلاقاً ومبدعاً في ساحة الأمن القومي.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  محمد الفرا.. شهم فلسطيني من خان يونس