أستطيع، الآن، أن أتفهم فكرة أصالة السياسة الخارجية في بلاد بعينها مثل الهند والصين. بالأصالة أعني جذور السياسة الخارجية الممتدة في أعماق التاريخ وتراث الحكماء والفلاسفة وتجارب الماضي الامبراطوري وقسوة العلاقة مع رسل الغرب. لذلك، وجدت نفسي أستعذب محاولاتي العديدة لمقارنة السياسة الخارجية للصين بسياسة الهند بينما أستصعب مقارنتها بسياسة أمريكا أو كندا أو أستراليا على سبيل المثال وليس الحصر.
***
بمعانٍ كثيرة أنظر إلى الهند كعملاق وإلى الصين كعملاق آخر. عملاقان يقفان معاً الآن على الخط الأمامي لنظام دولي ينشأ وأقدامهما مغروسة في نظام دولي بدأ رحلة الرحيل. كل منهما خارج لتوه من تجربة دسمة مع العولمة أفاد فيها واستفاد منها؛ كلاهما خرج مزوداً برصيد هائل من عزم على التمسك بتراث حكماء الماضي والنية المتجددة للصمود في وجه الغرب وكسر احتكاره؛ كلاهما حريص على الرغبة في تغيير قواعد العمل الدولي كما ابتكرها وصاغها وفرضها على الآخرين العملاق الأمريكي.
الحديث يطول إذا اخترنا أوجه الشبه والاختلاف بين الدولتين الآسيويتين الأكبر والأقدم مدخلاً لموضوعنا. بعض الأوجه متداخلة وبعضها خضع لتفسيرات متباينة، كثير منها يعود في أصله وجذوره لقرون بلا عدد دقيق وأحدثها ما يزال يتفاعل بالعنف أحياناً، وجميعها يدفع بالبلدين في اتجاه مستقبل لن يفلت العالم، وليس آسيا وحدها، من امتداداته وتأثيراته.
***
أثناء إقامتي في الهند سمحت ظروفي بالتعرف على قطاع في فئة الشباب من المهتمين بتراثهم الديني ومتأثرين بتعليمهم العلماني. بعضهم خريج جامعات محلية وآخرون عادوا من إنجلترا بشهادات أعلى مرتبة. أدين لهؤلاء ببعض المعلومات الهامة عن تاريخ الهنود وتقسيماتهم الطائفية والوظيفية، وكانت وقتها أقرب إلى التراتيب الدينية والمقدسة. أذهلني وقتها اكتشاف أن للحب دورا يخترق كل هذه التقسيمات. لتفسير ما يقصدون اصطحبني فريق منهم لزيارة معبد أثري يعود تاريخه إلى بدايات الألفية الأولى، معبد ككل المعابد مخصص لعقيدة واحدة. عقيدة هذا المعبد: الحب.
***
أقمت أيضاً في الصين ولم أبخل بوقت أو مال على إشباع هوايتي للرحلات والسفر. بدأت طبعاً بسور الصين العظيم باعتبار أن جزءاً منه لا يبعد كثيراً عن العاصمة بكين حيث محل إقامتي. أذهلني، وإن بدرجة أقل، أن آثار الصين تكشف عن أن القتال بين أمراء الحرب المتمردين على سلطة إمبراطور البلاد وأعمال الدفاع عن الوطن ضد الغزاة من وسط آسيا كانت الشغل الشاغل لحكام الصين على امتداد القرون. هكذا بدت الصين لي أنا الغريب القادم من الشرق الأوسط عبر الهند البلد الذي أقام للحب منذ آلاف السنين معبداً؛ أقول بدت لي الصين عبر مئات الأغاني والرسوم الوطنية لفتاة تقدم زهرة لجندي عائد لتوه من معركة، بدت لي البلد الذي يستحق أن يقيم للحرب معبداً. وبالفعل كان أول ما طرحه المسئول الصيني المكلف باستقبالنا في محطة قطار بجنوب الصين، اقتراحاً لأول موقع سياحي يجب أن أزوره. اقترح زيارة المتحف حيث يوجد هذا الحشد الهائل من تماثيل حجرية لجنود بالمئات في زيهم الرسمي ودروعهم القتالية، دفنوا لقرون عديدة قبل أن يعاد لهم اعتبارهم فتزال عنهم الرمال والتراب. هناك رأيت شباب المدارس بنيناً وبنات يقفون في خشوع وهيبة أمام صفوف متراصة لتماثيل مئات المحاربين الأبطال.
***
الصين والهند تختلفان وتتشابهان كما لم تتشابه وتختلف دولتان في التاريخ. ذكرت في مقدمة هذا المقال التاريخ. الدولتان عاشتا فوق أغلب مساحتيهما الراهنة لآلاف السنين. أكاد أقارن عمق تاريخهما بعمق تاريخ كل من مصر وبلاد ما بين النهرين، تاريخ ضارب في العمق. وكما تعرض كل من العراق ومصر لعديد الغزوات التي شكّلت وأعادت تشكيل طبيعة وعقائد السكان فيهما.. كذلك تعرضت الصين والهند لغزوات أثّرت في منظومتي العقيدة والهوية داخل كل منهما.
***
أتوقع، مثلما يتوقع كثيرون في الخارج، زيادة كبيرة في انتباه الغرب إلى ضرورة الاستمرار في وضع العقبات أمام أي تقارب محتمل بين الصين والهند. أتوقع أيضاً سباقاً غربياً ممنهجاً يستهدف الهند، لا يختلف إلا في تفاصيله عن السباق الغربي الراهن على إفريقيا، وهو أيضاً ممنهج كما توضح الأحداث المحيطة بالنيجر
تشابهت الصين والهند في دور البوذية في تراث وعقائد البلدين. واختلفتا في الحيز الذي يحتله الدين في حياة وتاريخ البلدين وفي مفاهيم العبادة والتعبد. تتشابهان أو تتقاربان في تعداد المسلمين ونسبتهم إلى العدد الكلي للسكان، وتتشابهان في خوف حكامهما الحاليين من مسيرة التشدد الإسلامي وفي حدود وعي النخبة الحاكمة وبخاصة نخبة السياسة الخارجية بالأخطار والمشكلات المحتملة في التعامل مع دول إسلامية في الجوار. لاحظ مثلاً أن باكستان، عدو الهند اللدود، تقع على أحد أهم طرق التجارة بين الصين والشرق الأوسط ولا يخفى إصرار بكين على التمسك بتحالفها مع باكستان برغم أن للأخيرة تحالفات مع الولايات المتحدة.
***
كلاهما، وأقصد الصين والهند، يعيشان منذ منتصف القرن الماضي على رافدين لعبا على الدوام ويلعبان حتى اليوم الدور الأكبر في تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية لكلا البلدين. الرافدان هما القومية، بمعنى الوطنية، والمظلومية. رافدان اصطبغت بهما سياسة البلدين وتأثرت تجاه العالم الخارجي، وتحديداً تجاه دول الغرب. وبالفعل التزمت نخبتا الحكم في البلدين، سواء في الحزب الشيوعي الصيني تحت قيادة ماو تسي تونج أو حزب المؤتمر الهندي تحت قيادة نهرو ثم إنديرا وسلالتها، هذا الخط. لم أقابل مسئولاً هندياً أو صينياً لم يشر من بعيد أو قريب إلى ما تسبب فيه الاستعمار الغربي من خراب ودمار في كلا الدولتين على امتداد ما يزيد على القرن كما في الصين وما يزيد على قرون عديدة في حال الهند.
أظن أن الرافدين (القومية والمظلومية) يقفان إلى يومنا هذا وراء العداء المنتصب لفكرة الانحياز للغرب. أظن أيضاً، أو لا أستبعد، أن يكون بين أحلام الطبقتين الحاكمتين في الدولتين وطموحاتهما حلم مشترك. يحلمان بيوم قريب يتحقق فيه الانتقام من الغرب والتغلب عليه وتعويض شعبيهما عما فاتهما أو ما تعطل أو تراجع وانحدر بسبب الاستعمار الغربي عموماً والهيمنة الأمريكية بخاصة.
***
تشابهت الصين والهند في العدد الهائل من السكان واختلفتا عندما أعلن عن توقف النمو في عدد سكان الصين وانتقال الهند لتحل محل الصين كأكبر دولة في العالم. هناك جزع في الصين لا شك فيه. جزع خشية انتقال ظاهرة تسرب الشيخوخة في المجتمع الصيني كما تسربت في مجتمعات أخرى وبخاصة الياباني والإيطالي والألماني. مجتمعات الشيوخ زاخرة بالحكمة ولكن بالحكمة وحدها لا تفوز الأمم. أخطأ قادة المرحلة الأولى في نهوض الصين حين فرضوا تحديد النسل أو هكذا يزعم المؤرخون. اختلفت الدولتان في أسلوب التعامل مع آفة الفقر. الصين قضت عليه والهند فشلت. تشابهتا وإن بدرجات متفاوتة في حسن الاستفادة من موجة العولمة. نهضتا معاً.
***
كان في الهند دائماً من راوده حلم التقاء الحضارتين مرة أخرى لصد غزوات الغرب وإجهاض هيمنته على العالم. أذكر أن نارندرا مودي أعلن أكثر من مرة عن اعتقاده أنه في عالم “اللا مؤكد” يتعين على قادة الدولتين العمل معاً على تعزيز تقدمهما وانجازاتهما. قيل أيضاً إن مفكر الهند العظيم طاغور كان يحلم بلقاء الثقافتين الآسيويتين الأعظم لإحياء مآثر فضلهما على العالم. لا أحد ينكر دور البوذية في صنع أسس الحضارة والثقافة في كلا الدولتين وفي التوجهات الآسيوية لكلا الدولتين في سياساتهما الخارجية.
***
أظن أن الرافدين (القومية والمظلومية) يقفان إلى يومنا هذا وراء العداء المنتصب لفكرة الانحياز للغرب. أظن أيضاً، أو لا أستبعد، أن يكون بين أحلام الطبقتين الحاكمتين في الدولتين وطموحاتهما حلم مشترك. يحلمان بيوم قريب يتحقق فيه الانتقام من الغرب والتغلب عليه
تتشابهان في الموقف من ضرورة تغيير قواعد العمل في قيادة النظام الدولي إذا أراد الغرب توفير فرصة لسلام عالمي لا يقوم على تعاليم وقواعد الهيمنة. تدركان أنه بدون شباب آسيا، وبخاصة شباب الهند والصين، لن تفلح أمريكا في قيادة عالم المستقبل، عالم الذكاء الاصطناعي والتقدم المنفلت غالباً في استخدامات الآلة. لدى الغرب العلماء والمبتكرون وأغلبهم من كبار السن والمكانة الوظيفية، ولكن العالم الغربي، يفتقر إلى وفرة في عنصر الشباب. هذه الوفرة هي المحرك الحقيقي والمتجدد للثورة التكنولوجية الزاحفة على الطريق. تدرك أمريكا هذه الحقيقة وصارت تتعامل على أساسها. لاحظنا مثلاً أن نصيب شباب الهند من جملة التأشيرات الممنوحة من الولايات المتحدة لطلاب أجانب يتجاوز نسبة 47%. لاحظنا أيضاً أن التعليمات صدرت بالحد من التأشيرات الممنوحة لطلاب من الصين. المغزى لن يقتصر على مبدأ الحرص على سرية الابتكارات وتأمين التقدم التكنولوجي الأمريكي ضد الاختراق الصيني، بل يمتد في ظني على الأقل إلى الخشية من التقاء العملاقين الآسيويين، الحلم القديم لبعض أهل الفكر في كلا الدولتين.
***
أتوقع، مثلما يتوقع كثيرون في الخارج، زيادة كبيرة في انتباه الغرب إلى ضرورة الاستمرار في وضع العقبات أمام أي تقارب محتمل بين الصين والهند. أتوقع أيضاً سباقاً غربياً ممنهجاً يستهدف الهند، لا يختلف إلا في تفاصيله عن السباق الغربي الراهن على إفريقيا، وهو أيضاً ممنهج كما توضح الأحداث المحيطة بالنيجر وتوقعات العنف وعدم الاستقرار والاتصالات الجارية في القارة السمراء ومع الدول الإقليمية ذات التأثير المتزايد.
***
العمل جار في مواقع عديدة لوقف انهيار النظام الدولي القائم. العمل جارٍ بلا هوادة وبعنف متناهٍ في أوكرانيا ويهدد بالتمدد في بقية أوروبا انطلاقاً من بولندا. جارٍ أيضاً في الشرق الأوسط في اتجاه إعادة ترتيب علاقات دول العرب بغيرها من دول المنطقة. جارٍ كذلك في إفريقيا لوقف تمردها على الغرب. تطورات كلها هامة، الأهم منها في نظرنا الجهود المكثفة لمنع تلاقي الصين والهند على هدف تسريع التخلص من نظام دولي خاضع للهيمنة الأمريكية.