كُنّا شهوداً.. مقاومة المُستعمر الأجنبي تُبعثُ من جديد

شيءٌ حولنا يشي بأيام وربما سنوات وعقود تسود فيها غلبة العنف وعدم الاستقرار والحاجة إلى التسلح أو زيادته؛ شيءٌ يُنفّرنا من العمل مع مجموعة أشقائنا العرب ويدفعنا لنتعود على العيش ضمن خريطة جديدة. هذه الخريطة جرى رسمها وتلوينها خلال سنوات الإعداد للنكبة الثانية وهي حرب إسرائيل السابعة أو الثامنة ضد جيرانها العرب. يطلقون على هذه الحرب عناوين متعددة، تارة هي الحرب الإقليمية التي ما فتئ يُبشّر بها ويُحذّر منها الطرف الأمريكي، وتارة هي من تتمات النكبة الثانية، وتارة هي أولى حروب العهد الإبراهيمي في مسيرة الشرق الأوسط الجديد، وتارة هي البداية المنطقية الأخرى لحرب عالمية ثالثة؛ حربٌ يتحدث عنها، أو يتوقعها البولنديون وآخرون في أوروبا الملتهبة بالقلق.

يُحسَبُ لهذا الشيء غير الملموس وغير المدروس وغير الواضح تماماً، يُحسَبُ له أو يُحسَبُ عليه، أنه يرمى بنا إلى أحضان كابوس لعين بعد أن راح ينتزعنا من أحضان حلم لذيذ. مطلوب منا أن نفكر في ’ما بعد’، واختاروا له تعبير ’اليوم التالي’. هذا الطلب فيه ظلم وإجحاف وربما سوء نية. يطلبون من طرف لم يشارك في صنع النكبة أن يشارك في تكريس نتائجها وفي حمايتها. المدهش في الأمر أن الطلب لم يُوجّه إلى المنظمة الإقليمية المكلفة منذ يوم ولادتها بقضية فلسطين أرضاً وشعباً، إنما وُجّه إلى دولتين جارتين لفلسطين، هما الدولتان الوحيدتان بين دول هذا الجوار اللتان احتفظتا بقدرٍ عالٍ من الاستقرار السياسي ووحدة أراضي كل منهما. غيرهما من دول هذه المنطقة تتعرضان منذ ما قبل النكبة، وبعبارة أدق منذ أيام وسنوات الإعداد للنكبة الثانية، تتعرضان لشتى أنواع الابتزاز وسرقة الثروات الطبيعية والحروب والهجمات المُخططة بعناية لتحقيق التجزئة ثم التفتيت فالبعثرة.

إلا أنه، وإن كان لا بد من الاستجابة لطلب من أطلق على نفسه عسفاً وأمراً واقعاً صفة الوسيط، وهو فاعلٌ مؤسسٌ مشاركٌ في تحقيق النكبة، فقد يكون من واجب الحيطة الاستمرار في التعامل معه على هذا الأساس وليس بصفته وسيطاً محايداً. ليس معنى أن يتقدم في مجلس الأمن بمشروع قرار يحمل سمة الاعتدال في الموقف، أو أن يمتنع عن استخدام حق النقض ضد مشروع قرار معتدل استنفذ قوته بل وصلاحيته حتى قبل أن يصدر، ليس معنى كل هذا أن الوسيط صار محايداً. فما هي إلا لحظات ويُعلن الوسيط أنه لم يكن صادقاً ولا حسن النية، فها هو يعلن أن قرارات مجلس الأمن ومنها قرارات من صنعه صارت، بقدرة قادر، غير قابلة للتنفيذ.

***

في مثل هذا الوضع، يجدر بالأطراف المكلفة أو المرشحة لأدوار تُفرضُ فرضاً أن تتريث في القبول حتى وإن كان الوضع على الأرض غير محتمل وغير إنساني. نعرف ويعرفون من وقائع النكبة الأولى ونتائجها أن كلفة التعامل مع هذه النتائج كانت باهظة. ولن تكون كلفة التعامل مع نتائج النكبة الثانية أقل من كلفة النكبة الأولى سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وعسكرياً. إذا دخلناها مُسيّرين وإن بزعم أننا مُخيّرون فلن نحصد إلا خراب الديار والخضوع الكامل لهيمنة من لم ولن يرحم، كنا شهوداً وما نزال حتى لحظتنا الراهنة.

مطلوب منا أن نفكر في ’ما بعد’، واختاروا له تعبير ’اليوم التالي’. هذا الطلب فيه ظلم وإجحاف وربما سوء نية. يطلبون من طرف لم يشارك في صنع النكبة أن يشارك في تكريس نتائجها وفي حمايتها

ضروريٌ أن يكون معلوماً للشعب المصري أننا حتى وإن قبلنا فلن نذهب في طرق جرّبناها وتلقينا فيها دروساً مرة، لن نُكرّرها. نذهب في الاتجاه السليم مسلحين بثوابت التاريخ وأولها قدسية علاقاتنا الاستراتيجية بمشرق آمن ومطمئن. يعرف المسئولون هنا وهناك ونعرف كم عانينا في مصر نتيجة احتلال العراق وسرقته وفرض العقوبات عليه، وتمزيق سوريا وإخضاعها لهجمات من كل نوع مهين ومذل، وحبس الفلسطينيين وتشتيتهم بين جزئين لا يلتقيان ولا يتلامسان.

ضروريٌ أن نُحصّن مفاوضينا بدرع جديد يقيهم شرور وتحايلات الطرف أو الأطراف الأخرى، أما الدرع، فهو ما تحقق لصالحنا، مصريين وفلسطينيين وآخرين من دعم وتفهم في الرأي العام العالمي. لم يحدث، حسب ما أذكر، أن وصلت أكرم وأصدق رسائلنا إلى مختلف الشعوب. فلنذهب، إن أجبرنا على الذهاب أو اخترناه، مسلحين بمذكرة دولة جنوب أفريقيا وقرارات محكمة العدل الدولية. يعملون الآن، كما ولا شك نعلم، على إلغاء ما وقع وكأنه لم يقع. جنوب أفريقيا تدفع بالفعل ثمناً فظيعاً بل وإفريقيا بأسرها. المقاومة الوطنية ضد الأجنبي المحتل والمستوطن تُبعث من جديد. حالة جديدة من الزهو عادت إلى النفس العربية والآسيوية. هناك في آسيا كما نقل، صحوة، وفي الصين بخاصة إعجاب وفي الهند إنكشاف وقلق برغم الدعم الأمريكي والصهيوني.

ضروريٌ أن نذهب، إن قررنا الذهاب، مُزودين بضعف الجانب الآخر، وأقصد جماعة اليهود المضطربة داخل إسرائيل وفي العالم الخارجي وبخاصة في الولايات المتحدة. يجب ألا نستهين بعمق الانقسام اليهودي، ربما غير المسبوق. نذهب ورؤوسنا مرفوعة بفضل أداء الشعب الفلسطيني في غزة والضفة وبرغم هزال الأداء الرسمي الجماعي العربي. نتذكر ونحن هناك في معمعة السياسة والدبلوماسية أن نصر إسرائيل لم يتحقق فرجاء عدم معاملة وفد إسرائيل كالمنتصر، ونصر الفلسطينيين لم يكتمل فرجاء ساعدوا على اكتماله.

***

أفترض الشفافية في المفاوضات إن جرت. ليت دبلوماسيينا من المفاوضين يحملون معهم فيديوهات صوّرت آلام وجوع وجراح أهل غزة وأهل الضفة فنادراً ما اطلع الرأي العام على تفاصيل ما حدث ويحدث في معسكرات اللاجئين في الضفة. نعرف ولا يعرف الكثيرون في الغرب أن إسرائيل يحكمها المستوطنون من مزدوجي الجنسية. هؤلاء يسرقون أهل المدن والقرى الفلسطينية ويقتلون النساء والأطفال. أهل الضفة لا تحميهم سلطة حاكمة، وهي المرشحة لتحكم في غزة مع المكلفين من عرب منتقين وتحت وصاية الاحتلال الإسرائيلي، والأدهى والأسوأ معاً إذا شاركت في الحكم والأمن قوة دولية سواء من جنسية واحدة أو من جنسيات متعددة.

إقرأ على موقع 180  توقعات بشرق أوسط أكثر تسلحاً وعنفاً.. وتوترات

أرجو وأتمنى أن تتفادى وفود العرب المنتقاة تنفيذ رغبة الطرف الخصم التعهد بإطفاء حماسة الشعوب العربية. هذه الحماسة كنز ليس فقط لشعب فلسطين ولكن لكل العرب، هي ضرورة وهي طريقهم لنهضة جديدة، هي فرصة لتقديم دليل جديد على خروج العرب من قوقعة التجاهل والانكار، فرصة قد لا تتكرر قبل مرور عقد أو عقدين.

سمعتُ أن الوسيط الأمريكي تعهد لقيادات إسرائيلية معينة بأن يقنع العرب المفاوضين بتقديم تنازلات وفيرة تسمح لإسرائيل بالعودة لمكانة مرموقة بين الأمم، بمعنى وقف الحملات الإعلامية المناهضة، والعمل على تفريق طاقة الغضب عن الأفارقة وغيرهم من الشعوب الغاضبة، فضلاً عن عدم الإلحاح على منح فلسطين عضوية دائمة في الأمم المتحدة.

***

لن تهدأ أمريكا وبعض دول أوروبا حتى ترى دولاً عربية أكثر عدداً وقد انضمت إلى إسرائيل في أحلاف إقليمية ومشاريع تنمية مشتركة، لن تكون فلسطين بين هذه الدول لسنوات وربما لعقود عديدة قادمة. فالقرار باستبعاد فلسطين كدولة مستقلة هو قرارٌ إسرائيليٌ متخذٌ بالفعل وما كانت حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة سوى صفحة مدروسة من صفحات الملف الصهيوني؛ صفحة مقررة على النخبة الحاكمة في إسرائيل. كنا شهوداً. 

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180   إما هذا الخراب المقيم أو ذاك المستحيل الممكن!