دون الحاجة للخوض في تفاصيل النماذج اللامتناهية التي تقع أمام أعين أي متابع أثناء التصفح على طريقة الـ Swipe على منصات إنستجرام، تيك توك، فايسبوك، تويتر سابقاً (X حالياً) ويوتيوب أو غيرها، وإن اخترنا الابتعاد بعدسة كاميرا الرصد لمستوى عين الطائر ذي النظرة البانورامية الدرونية، التي تبحث عن الأنماط patterns، بدلاً عن المفردات singularities، ربما سيتفق معي الكثيرون في أن ثمة روابط بين كل هذه الترندات المتنوعة، يمكن تصنيفها في أنماط محددة. حتى وإن أصاب ذلك التصنيف داء السيولة، فلا عجب، فما من اجتهاد إلا وأصيب بذات الداء.
الاستثارة قبل التصنيف
من وجهة نظري، ما نجري وراءه من ترندات هو ليس بالأمر الجديد، إن هو إلا اجترار لذات الصنف من المثيرات (بمفهوم الـ Sensationalism) الذي نتداوله كمتابعين، منذ أزل وسائط الإعلام حتى بزوغ فجر التسجيل الصوتي ناهينا عن المرئي. أي عادة المشاركة العمياء، التداول الأعور، والسعي إلى لفت الانتباه البائس؛ هذه السمات كانت في طباعنا وعاداتنا وتقاليدنا منذ أزمنة الثرثرات القبلية والمناطقية التي ربما نبعت من الرغبة في تنميط الغير في المناطق والقبائل والجماعات الأخرى بغرضي المفارقة أو التقليل من الشأن. وكذلك في الأساطير الشعبية المحلية مثل أخبار العيّارين والشطّار، والتي حملت الكثير من المبالغة التعويضية عند من يجدون في أخبارهم بعض التعزية عن خنوعهم وطاعتهم للنظم الاجتماعية التي لا يجرؤون على كسرها. أو حتى الفرمانات التي كانت بمثابة المذياع الأول الذي ينقل أوامر السلطة إلى الناس بالأسوأ الآتي ، وربما بعد أن تتنقل بين ألسنة من سمعوها إلى من لم يحضروها، كانت تتغير وتتلون فتفقد الكثير من تفاصيلها أو يُضاف إليها ما هو ليس في صلبها.
لم نزل حتى اليوم لا نعرف إن كان “علي الزيبق” الذي تتجسد فيه أسطورة اللص الشريف، مصرياً أم عراقياً! بل إن أشهر اللصوص الشرفاء على الإطلاق وهو “روبن هود”، لا تزال الآراء تتضارب بشأنه، إن كان أسطورة شعبية تداولتها الأقلام والألسنة عبر القرون، كوسيلة مقاومة شعورية لفظية ضد استبداد طبقة النبلاء الإنجليزية، أم أنه شخصية حقيقية عاشت بالفعل بين المظلومين، فاشتهر وتم تمجيد اسمه كمقاوم في صف المظلومين؟ بل يتساءل الكثيرون، هل كان هو شخصاً واحداً، أم ربما انتحل اسمه عديد الأشخاص من “الشُطّار” الأوروبيين، على طريقة أشباه المشاهير التي نشاهدها تنتشر بيننا حتى اليوم عبر وسائط مختلفة؟
تجربة الأداة الرئيسية
دعني أحيّرك معي قليلاً عزيزي القارئ، لكي ترى مدى لا نهائية المحتوى الذي يمكن أن يُصنع لقرون قادمة عن مثل هذه الموضوعات العجيبة:
هل من أحد متأكد حتى الآن من حقيقة وجود بيج فوت Big Foot من عدمه، حتى وإن شاهد ألف فيديو عنه؟ هل يعرف أحدٌ بالتحديد من قتل جون إف كينيدي أو مالكوم إكس، بيو جاما بنتو أو كيفية وفاة هتلر بشكل مؤكد؟ هل هناك مخلوقات فضائية تعيش على كواكب أخرى وتزاور كوكبنا بين الحين والآخر على متن مركباتها أم لا؟ هل الكوارث الطبيعية الأخيرة بالفعل صنيعة بشرية استخدمت فيها الولايات المتحدة تقنيات HAARP، التي يطلق عليها “تقينة الهلاك Doom Tech” لإحداث الزلازل الاصطناعية؟ هل تم قتل مايكل جاكسون بشعاع ليزر موجه من الفضاء كما سرّب البعض معلومات مخابراتية عن ذلك للراحل ريتشارد جريجوري؟ هل حقاً يعبدون تمثال مولوخ داخل “البوهيميان غروف” ويقدمون له أضحية بشرية أثناء أدائهم لهذه الشعائر الماسونية الشيطانية؟ هل الكونت دراكولا شخصية روائية من إبداع الروائي الإيرلندي برام ستوكر، أم أنه شخصية رومانية حقيقية تدعى الأمير فلاد الثالث، أم أن كلمة دراكولا في الحقيقة هي لفظة رومانية يتداولها سكان مقاطعة والاشيا (الأفلاق) منذ القدم، ليطلقوها على كل من بلغت قسوته وإجرامه حد الفجر، وتعني “الشيطان” بالرومانية؟ هل كان عيسى -عليه السلام- قمحي البشرة ومجعد الشعر، أم أنه أبيض البشرة وطويل الشعر أشقره كما يُصوّره الكثيرون رسماً؟ هل ليدي غاغا من الزواحف Reptilians المتنكرة بهيئة بشرية، أم أن هذه الزواحف البشرية مجرد أسطورة ميثولوجية نابعة من تاريخ كوريا الجنوبية أو ربما من الأساطير الهندوسية عن مخلوقات خرافية تدعى “ناغا”؟
دعونا نكتفي بهذه الأمثلة وهي قطرة ماء في محيط.
أشعرت عزيزي القارىء بكم الفراغ الذي تخلقه مثل هذه الأسئلة في ذهنك، ومدى اتساع نطاقات الغوص في مناقشة تفاصيلها وأبعادها التي تزور جميع المجالات تقريباً؟ هل فكرت ولو لحظة أن تقوم بنسخ شيء مما ذكرته أعلاه لتذهب به إلى محرك بحث جوجل لإرضاء فضولك؟ هذا الشغف الذي أصابك بعد قراءة الفقرة السابقة الملغّمة بالأسئلة المستفزة، المثيرة للانتباه والتي يسيل غموضها لعاب الفضول الإنساني، وما شعرته عند قراءتها عزيزي القارئ، هو بالضبط ما يسمى بالاستثارة Sensationalism . ولقد قمت لتوي بتنفيذها ببساطة من خلال فقرة واحدة لم أذكر فيها سوى نماذج قليلة مما تتناوله الترندات حتى اليوم، وربما حتى الأزل.
التصنيف إلى أنماط
الآن بعد أن أصبنا عين الثور بتحديد الأداة التي تُفتح بها المساحات الشاسعة لـ”برطعة” مثل هذه الترندات والمؤامرات والأشباه، لنحاول تصنيف أسباب انتشارها في تصنيفات أو أنماط محددة وإن أصابتها السيولة كما ذكرت مسبقاً:
1-النمط التعويضي:
كتعويض عن فراغ نفسي، عقلي أو مجتمعي، قد يهتم الناشر أو المتابع لمثل هذه الترندات بالفعل بموضوعات مثيرة للجدل، مؤامراتية أو غامضة، للاستعاضة بها عما لم يُسمح له من استخدام عقله به، من ممارسة سياسية يدير عبرها أمور دنياه، أو رأي ديني قد يصيبه بوابل من التكفير من متشددين، أو حتى بآراء اجتماعية في نطاق الأسرة أو الجيرة لا يسمح له أحد بقولها لأنها “عيب”. فأين يذهب هذا الكبت المخزون داخل هذه الخلايا العصبية الخنيقة؟ ليذهب إذاً نحو تفاصيل موضوعات جدلية، مثيرة ولن تحسم أبداً، لربما يجد فيها من يتابعها وينشرها ما يُعوّضه بشعور إشباع عقلي ونفسي، أنه “الفكيك” الذي وجد الحقيقة ويوعي بها الناس أو بمعنى أصح “الذين لا يعرفون” من وجهة نظره التعويضية، وهو ما يمنح شعور بالارتقاء الفكري “الوهمي” فوق الغير، وتفريغ كبت التفكير، وتعويض عن غياب التفكير النقدي المنطقي في ما يهم وينفع، إلى ما لن يحسم أبداً ويذهب كغثاء السيل في الغالب.
وربما تكون ترندات تمجيد شخص ما أو مدحه وكأنه ملاك أو بطل أو قديس، بمثابة تعويض عما نفشل في تحقيقه في الواقع. فإن عدنا للماضي كما أسلفت، إلى العيّار “علي الزيبق”، سواء أكان مصرياً أم بغدادياً، لصاً شريفاً أم “عصبحي”، فالحقيقة واحدة، وهي أن أسطورته التي تعيش معنا حتى اليوم، يتم تداولها تعويضاً عن فشل الجماهير في مقاومة ظلم الأقلية الأرستقراطية، ولذا تعيش أساطير البطولات والأبطال وإن كانوا أشقياء أو عيّارين، لأنها تمنح هذا الشعور التعويضي المرغوب، ولذلك يعلم من ينشرها أنها “ستأكل” مع الناس، ويستمتع المتابعون باستهلاكها واجترارها والتفاعل معها.
ألا يقع تحت هذا التصنيف بوضوح، أشباه الفنانين ولاعبي كرة القدم وغيرهم من مشاهير الإنترنت، الذين لم يجدوا حلاً إلا استخدام الشبه الشكلي بأحد المشاهير، ويساعدهم على ذلك قنوات وصفحات تافهة أو “تعرف اللعبة”، يمتزج فيها الإلهاء بالإستهبال بالسعي إلى الربح؟
2-النمط الإلهائي:
فن الترفيه Entertainment، هو فن إلهائي بلا أية تعقيدات ولا تفسيرات مؤامراتية، هو بالفعل ذلك. مشاهدة مسلسل هو وقت غير مستخدم لمتابعة أو ممارسة شيء حقيقي في واقع حياتنا. سماع أغنية تلمس كلماتها المحمولة فوق النغمات مشاعرك، هي إما تعبير عما يجول بداخلك بالفعل ولم تعبر عنه، أو هو تعويض عن مشاعر لم تشعر بها، والأمر هنا ليس قاصراً على الرومانسية، بل إن الأغاني الوطنية التي نحترفها، هي في حقيقتها تعبير واضح عن هذه المبالغة الإلهائية بمشاعر طبيعية كالانتماء للمكان، ربما للإلهاء عما يحدث بالفعل من غياب وفقدان أي معنى للوطنية الحقيقية وغياب المواطنة الحقة، بل والمنع عن الاشتراك في تسيير أي من أمور الوطن الذي نغني له هذا.
نشر ترندات المؤامرات، وأخبار الفنانين الصفراء، وفضائح المشاهير، وتنابذات مشجعي فرق كرة القدم المتنافسة في جميع دوريات العالم، ما هو إلا إلهاء يُصمّمه لهذا الغرض ُصنّاع الترفيه في المجالات المختلفة، ويشاركه ويتداوله المستهلكون بجنون، ليقوموا بإلهاء أنفسهم عما يدور بالفعل في حياتهم. فأخبار زوجة كريستيانو رونالدو سهلة الهضم، بينما سبب ارتفاع سعر البصل ربما يسبب الإمساك. فلنلتهي إذن بما خفّ وزنه ورخص سعر تداوله. ولنذهب بالالتهاء إلى أبعد الحدود، إلى المخلوقات الفضائية، وما لم يخبرونا عنه في تاريخ الإنكا، أو ربما الوميض الأزرق الذي سبق زلزال المغرب، ولنعيث في الأرض إلتهاءً.
3-النمط الغرائزي:
لا يحتاج الأمر هنا لشرح، فصورة لفستان مكشوف ارتدته فنانة في مهرجان سينمائي، أو لقطة فيديو إباحية من فيلم شهير، أو خبر فضيحة جنسية للاعب كرة عالمي يجذب الانتباه ويثير الغرائز الجنسية والثرثرية Gossip ببساطة. أو حتى شهوة الأكل، فالكثير من برامج الطبخ تذهب هباءً لأن أحداً لا يطبق ما يراه على الشاشة من وصفات، إن هو إلا استمتاع بطريقة التحضير ومظهر الصنف الشهي الذي يتم تحضيره، ولهذا السبب تنتشر برامج مسابقات الطهي في جميع تلفزيونات العالم. أو حتى شهوة حب الشهرة، الذي يمكن أن يصنف تحت إطار غريزة حب التميز والظهور، الذي يدفع الكثيرين إما للتشبه بالفنانين حرفياً، أو السعي وراء الشهرة بأي وسيلة ممكنة عبر إثارة الانتباه عبر الإنترنت، سواء بالتعليقات الكوميدية، أو الرقصات الغريبة، أو الأزياء المستفزة وخلافه.
4-النمط الاستفزازي:
هل فات أحد منا مشاهدة بعض الفتيات اللاتي يتظاهرن بالغباء والتفاهة، ممن يصنعن فيديو لكي يشاركونا مآسيهم الحزينة، عن انكسار قلم الماسكارا، أو تأجيل تاريخ عرض فيلم “باربي” في دور السينما أو عن عدم وصول حقيبة اليد التي قامت بطلبها من موقع تسوق إلكتروني. تلك الفتيات لسن غبيات وربما لسن مرفهات من الأساس، بل هن يعلمن مدى سهولة استخدام هذه الطريقة لاستفزاز الناس للتعليق والمشاركة وحتى “التريقة”. في النهاية أي رد فعل هو بمثابة نجاح لناشر المحتوى عبر تحقيق المشاهدات والنقرات والمشاركات تحت شعار All publicity Is good publicity. هذه الفيديوهات فخ، ومن يسهل استفزاز مشاعره بها، هو إما مراهق أو لا يعرف اللعبة.
5-النمط الاضطرابي:
يصل الأمر ببعض الناس، إلى حد الاضطراب النفسي بالفعل. فترندات الصبيان “المتبنتين” والبنات “المسترجلات” على سبيل المثال، تنبع إما عن اضطرابات حقيقية في شخصية من يصنع هذا المحتوى، أو بشكل مزيف ومصمم للاستفزاز من أجل استغلال هذه الاضطرابات عند المتابعين الذين يسارعون لعمل ردود فعل إما إيجابية بالتمثل بهم أو التظاهر بتبنّي قيم ليبرالية لا يستطيع فهم ما وراءها من الأساس، أو ردود فعل سلبية بادعاء الفضيلة أو الوعظ والتهجم على هؤلاء الفسقة المارقين.
دائرة من الاضطرابات المتبادلة، تدفع الجميع نحو صنع هذه الفقاقيع “الترنداوية” التي لا تنتهي. هل فات أحدنا مشاهدة فيديو لمواطن عربي يشكو من غلاء الأسعار، ألا يُعبّر هذا عن اضطراب حياته وفقدانه القدرة على العيش والتصرف، وشعوره بإنعدام الأمل، لدرجة دفعته للتعويض عن ذلك بصنع فيديو على الإنترنت ربما لا يعرف هو نفسه لأي غرض صنعه ونشره؟
ألا ترى معي أن فيديوهات مضحكة عن أناس يتقدمون بمواهبهم المنعدمة لبرامج مثل X Factor أو Arabs Got Talent، يعبر عن دائرة اضطراب وأوهام تتخطى شخصاً يتوهم في نفسه موهبة لا يمتلكها؟ بل إن من ينشرون هذه اللقطات ربما لا تقل أوهام الكثير منهم عن أنفسهم عن هؤلاء المتسابقين؛ عن أوهام هؤلاء المساكين الذين تنتشر أوهامهم كالفضيحة الدائمة على جميع المنابر الاجتماعية الالكترونية!
عودة إلى أشباه المشاهير، فستجد أن بعضهم بالفعل مضطرب من الناحية النفسية، كأن يدعي قرابة ما بفنان متوفِ، وينتحل اسمه الأخير سعياً للشهرة. ألا يعبر كل ذلك – والأمثلة لا متناهية – عن اضطراب في واقع الإنسان، يتم التعبير عنه بشكل فج وواضح عبر شبكة الإنترنت.
6-النمط الربحي:
وهنا مفتاح السر، فكل صانع محتوى، يسعى في النهاية للتواجد أونلاين، ليس للشهرة فقط، فإن كانت الشهرة لا تجلب المال فما الفائدة منها يا عزيزي، الهدف ببساطة هو نسبة من ربح الإعلانات، أو ربما صفقات تدر الربح إذا ما حالف صانع المحتوى الحظ ليصبح Influencer. فتتساقط عليه عروض الإعلانات وشركات تسويق المنتجات وربما اللقاءات التلفزيونية أيضاً أو حتى عروض التمثيل في الأفلام، المسلسلات أو الإعلانات التلفزيونية.
وهذا السعي إلى الربح، ما هو إلا اتجاه دُفع ملايين الناس إليه دفعاً، بسبب شح فرص العمل في العالم الحقيقي، وضعف الأجور وضياع الحقوق، فإذا صعب صنع حياة حقيقية، لنصنعها افتراضياً إذن ونربح بعض المال. لكن النمط الربحي ليس وحده ما يجمع كل هذه الأنماط التي اجتهدنا لتصنيفها، بل إن كل هذه الأنماط تتداخل وتتشابك بعضها ببعض في آن معاً، ولم أذكر تحت كل منها إلا المختصر المفيد. وإن كان قد فاتني نمط، فليضفه من هو أعلم وأبلغ مني.
فما اجتهدت في عرضه باختصار هنا، ليس بالقول الفصل، وبالطبع لن تتحول مقالتي هذه إلى ترند، والحمد لله.
فهي لا تعويضية، ولا إلهائية، ولا غرائزية ولا اضطرابية ولا هي ساعية للربح. ربما قد تكون فقط استفزازية، بمعنى استفزاز التفكير، فيما نراه اليوم، وكل يوم!
تحياتي.