الواقع الفلسطيّني الصعب.. والخيارات الأصعب (2/1)

منذ حوالي الشهر، يقف العالم بمعظمه مذهولاً أمام وحشية وإجرام جيش الاحتلال الإسرائيلي بحقّ الفلسطينيين في غزّة. إجرامٌ لا يُوفر طفلاً أو امرأة أو عجوزاً أو صحافياً أو مسعفاً أو طبيباً أو مستشفى أو مدرسة أو مجمعاً سكنيّاً. ضحايا بالآلاف يسقطون كلّ يوم شهداء وجرحى، في الوقت الذي تستمرّ فيه السلطات الرسميّة والإعلامية في الغرب بالانحياز الكامل للنظام الصهيوني الذي يبقى بالنسبة للغرب فوق المواثيق الدولية والقانون الدولي وفوق القيم الإنسانية وفوق الجميع.

لم تكتفِ السلطات الغربية بالموقف، بل امتدّت إلى الفعل، حيث تتعرّض الكثير من التحرّكات الشّعبيّة إلى التضييق والتقييد، الأمر الذي يجعل حرّية التعبير التي يتغنّى بها الغرب موضع تساؤل. وتمدّد هذا التقييد ليشمل مساحات الإعلام الرقمي ومنصات التواصل الاجتماعي التي تعاظم دورها بشكل كبير مؤخراً. إنّ هذا الدور بالتحديد يثير قلق النظام الصهيوني وقيادات الدول الغربية، لا سيما وأنّ هذا الشكل من الإعلام الشعبي لعب دوراً كبيراً في التأثير على الرأي العام العالمي، وأتاح مزيداً من الإضاءة على القضية الفلسطيّنية وعلى معاناة الشعب الفلسطيّني بشكل لم يكن ممكناً من قبل.

بالمقابل، هناك نسبة معتبرة من الجمهور الغربي ما زالت تتأثر بالإعلام الرسمي الذي تهيمن عليه الدعاية الصهيونية. كما أنّ جزءاً من هذا الجمهور ينطلق من توجّهات عنصرية معادية للعرب – أو معادية للسامية بشقّها العربيّ دون اليهوديّ – وبالتالي فهو قد حسم موقفه مسبقاً وصمّ آذانه وأشاح بنظره عن الإجرام الصهيوني عمداً. هذا الجمهور يجعل من هجوم حركة حماس في السابع من تشرين الأول/أكتوبر مرتكزاً وحيداً لموقفه. هو على كلّ حال موقف أجاب عليه أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، حين قال أمام مجلس الأمن إنّ هجمات حماس لم تأتِ من الفراغ، إنما هي نتيجة عقود من الاحتلال والاستيطان الممنهج والقتل والتدمير والتهجير.

النظام الصهيوني والردّ الإلزامي

لقد كان هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر صفعة كبيرة جداً للكيان الصهيوني. إنّ ما بعد هذا التاريخ ليس كالذي كان قبله، فالهزيمة السياسية والأمنية والاستخباراتية والعسكرية للنظام الصهيوني قد وقعت، والثمن السياسي الذي سيدفعه بنيامين نتنياهو ورجالاته وحلفاؤه بعد نهاية هذه الحرب سيكون كبيراً جداً مهما كانت نتيجة هذه الحرب. إنّ نتنياهو وحلفاءه ملزمون بردّ عسكري كبير يوقع عشرات آلاف الضحايا من الفلسطيّنيين.

  • لماذا حتمية الردّ العسكري الصهيوني؟

ليس هناك أخطر من زعيم سياسي ليس لديه ما يخسره. من هنا، فإنّ نتنياهو وعلى الرغم من تردّده وإرباكه، غير أنّه لن يتوانى عن القيام بكل ما يلزم في محاولة يائسة لإنقاذ مسيرته السياسية. كما أنّ جيش الإحتلال الإسرائيلي سوف يفعل المستحيل لإنقاذ سمعته وردّ اعتباره.

  • أمّا لماذا من الضروري بالنسبة لجيش الاحتلال الإسرائيلي إسقاط عشرات آلاف القتلى، أو حتى مئات آلاف الضحايا من الفلسطيّنيين؟

فذلك لأنّ هذه الضرورة إنّما هي تنبع من قضية وجودية بالنسبة للنظام الصهيوني والكيان الذي يُسمّى دولة إسرائيل، وسوف أشرح الأمر. إنّ الصهيونية هي في جوهرها مشروع استيطاني، وفي النهاية، فإنّ النظام الصهيوني قد أسّس كياناً مصطنعاً ولكنّه لم يُؤسّس وطناً. الوطن هو أرض ومجتمع مجبول بهذه الأرض ومتجذّر فيها، ومن تراب هذه الأرض هناك شذرات تسكن الروح وتبقى مع أهل الأرض وفيهم أينما ذهبوا. ليس هذا الكلام شعراً، إنّما هو واقع يخبرنا عنه كلّ فردٍ من أهل فلسطين الذين تعيش قضية فلسطين وأرض فلسطين في وجدانهم الجمعي، وتسكن حكايات مدنها وبلداتها في ذاكرتهم الجماعية وثقافتهم وفنّهم وأقاصيص جدّاتهم وتراثهم الشعبي. غير أنّ كلّ ذلك لا ينطبق على مستوطنين صهاينة معظم جذورهم في الشتات. هم يحملون جنسية إسرائيلية تُعطيهم أرضاً ليست لهم، يسكنون عليها ولا يسكنون فيها ولا هي تسكن فيهم وفي وجدانهم وأرواحهم. لذلك فهم يعيشون قلقاً مزمناً ومتوارثاً ومستمرّاً حول وجودهم كأمّة على أرض فلسطين. يعرف الفلسطينيّ في قرارة نفسه أنّ وجوده في المهجر وفي بلدان اللجوء مؤقّت، بينما يشعر الصهيوني في قرارة نفسه أنّ وجوده على أرض فلسطين مؤقت.

لقد كان هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر صفعة كبيرة جداً للكيان الصهيوني. إنّ ما بعد هذا التاريخ ليس كالذي كان قبله، فالهزيمة السياسية والأمنية والاستخباراتية والعسكرية للنظام الصهيوني قد وقعت، والثمن السياسي الذي سيدفعه بنيامين نتنياهو ورجالاته وحلفاؤه بعد نهاية هذه الحرب سيكون كبيراً جداً مهما كانت نتيجة هذه الحرب

هذا التّمايز الكبير بين واقع المواطن الفلسطينيّ والمستوطن الاسرائيليّ يجعل النّظام الصهيونيّ يضع جهوداً وأموالاً كبيرة في سبيل جعل شعبه يقتنع ويؤمن بالمشروع الصهيوني، وذلك من خلال الدعاية والتربية والتعليم والتعبئة الأيديولوجية. إنّما تواجه هذا النّظام أزمة أخرى هي الطامة الكبرى، فالمستوطنون الصّهاينة محاطون بمئات الملايين من العرب. إنّ هذا الواقع وحده كفيل بأن يجعل الشعب الصهيوني يفقد الثقة بالمشروع، ويفقد الاستعداد للتضحية في سبيله. من هنا وبهدف معالجة هذا الأمر، دأب النظام الصهيوني على ممارسة عسكرية تقوم على حتمية إيقاع عشرات ومئات الشهداء الفلسطينيّين والعرب مقابل كلّ قتيل صهيوني. وبذلك فإنّ النظام الصهيوني يقول لشعبه: هم أكثر منّا عدداً بعشرات المرات، غير أننا قادرون، بحكم تفوقنا العسكري والتكنولوجي، على إيقاع عشرات الضحايا مقابل كلّ قتيل يسقط لدينا. سقط للكيان الصهيوني منذ عملية طوفان الأقصى حوالي 1500 قتيل، ومئات الأسرى والمفقودين، وآلاف الجرحى، فضلاً عن الضربة المعنوية الهائلة لجيش الاحتلال الإسرائيلي. وهو بالتالي ملزم بالردّ بأضعاف مضاعفة بهدف إسقاط عشرات آلاف الشهداء ومئات آلاف الجرحى من أهل غزّة وفلسطين عموماً، وإلا فإنّ التداعيات السياسية والاجتماعية، ناهيك عن الاقتصادية، ستكون كبيرة جداً على الكيان الصهيوني وعلى مستقبل وجوده.

الموقف الغربي من الاندفاعة الإسرائيلية

للغرب حساباته. وهو على الرغم من انحيازه للكيان الصهيوني ومن التزامه العلني والضمني الواضح بتأمين الدعم والتمويل لحربه على الشعب الفلسطينيّ، غير أنّ الغرب لن يجاري نتنياهو وجيش الاحتلال الإسرائيلي في اندفاعته. لن تكون هواجس نتنياهو والحكومة الصهيونية على حساب مصالح الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية والترتيبات التي يسعون إلى تطبيقها في المنطقة. فهم يريدون تسوية شاملة بين الدّول التي فرضت نفسها في لعبة ميزان القوى في منطقة الشرق الأوسط، أي إيران وتركيا والكيان الصهيوني، مع دور متميّز لقطر والسعودية والإمارات ومصر، ودور أقلّ للدول العربية الأخرى التي وقفت متلقية معظم الوقت، أو هي دخلت تحت عباءة إحدى الدول الركائز الثلاث. الإدارة الأميركية، ودول الغرب عموماً، تريد في النهاية تحقيق مصالحها المباشرة، والتي ليس آخرها إنجاح مشروع الممرّ الاقتصادي بين الهند وأوروبا والذي يدخل منطقة الشرق الأوسط من دبي ويخرج منها في مرفأ حيفا.

إقرأ على موقع 180  لبنان لا يعزل نفسه.. قياداته تعزله عن العالم

أمام هذا الواقع، ليس للدول العربية موقف موحّد أو رؤية موحّدة، وليست الجامعة العربية سوى هيكلاً رثّاً خالياً من الحياة والإرادة والقوّة، ولولا هذه الحقيقة لكان هناك كلام آخر. إنّ بلداناً عربية عديدة سوف تندفع نحو تركيا بقيادة رجب طيب إردوغان في بحثها عن حليف إقليمي قويّ قادرٍ على مكابشة إيران والغرب وإسرائيل، لا سيما وأن الإقرار العلني الذي قام به إردوغان بأنّ حركة حماس هي حركة مقاومة بوجه الاحتلال قد نجح في كسب قلوب الكثيرين من الشعب العربي في هذه الظروف. كما أنّ إردوغان لم يضع سقفاً سياسياً لا يمكنه الالتزام به بعكس النظام الإيراني وحلفائه. فالأخير ظهر وكأنّه متردّد ومهتم بمصالحه القومية أكثر من اهتمامه بالقضية الفلسطيّنية السّاكنة أبداً في وجدان الشعوب العربية. يبدو إردوغان واعياً تماماً لأهمية هذا الدور ولأهمية المهام الإقليمية التي سوف تضطلع بها تركيا، والتي لم تتوفّر لها منذ نهاية الحقبة العثمانية. كما أنّه ليس لدى الإدارة الأميركية أي مشكلة في هذا الأمر، فهم يريدون مفتاحاً إقليمياً يجنّبهم الدخول المباشر في وحول المنطقة؛ يريدون مفتاحاً يمكن التفاوض معه وقادراً على ترجمة الاتفاقيات الإقليمية على أرض الواقع.

فرص التسوية الشاملة وحلّ الدولتين

إنّ التسوية الشاملة لا تعني بالضرورة حلاً نهائياً، إنّما هي في الواقع حلّ مؤقت يرتدي رداء الحلّ النهائي. الهدف من التسوية هو كسب الوقت لتنظيم الصفوف وإعادة الانتشار ريثما يتغير ميزان القوى من جديد، فيتمكّن حلفاء راعي التسوية من الانقضاض من جديد. هذا ما تفعله الدول والأنظمة التي تتقن اللعب الجيوسياسي، وهذا ما تفعله الإدارة الأميركية بإتقان شديد وأفضل من أي بلدٍ آخر في العالم، مدفوعة بمصالح الولايات المتّحدة الأميركية ومسنودة بتفوقها العسكري والاقتصادي الذي لا مثيل له على الإطلاق اليوم. بالتالي إذا تمكّنت الإدارة الأميركية من إنجاح حلّ الدولتين ضمن التسوية الشاملة التي تطرحها، فإنّ هذا النجاح سوف يكون محدوداً ومؤقتاً. إذ أنّ النظام الصهيوني لا يريد هذا الحلّ في خضمّ هواجسه من التغييرات الديموغرافية المتسارعة مع تزايد عدد الفلسطيّنيين على مستوى كامل أرضهم التاريخية، وهو لن يكفّ عن بناء المستوطنات وعن القضم التدريجي للمزيد من الأراضي الفلسطيّنية. بل إنّ النظام الصهيوني يريد طرد جميع الفلسطيّنيين من فلسطين، ولن يتوقّف قبل تحقيق ذلك. كذلك ليس لدى الشعب الفلسطيّني أيّ مصلحة في حلّ الدولتين الذي سيؤدي في النهاية إلى دولة فلسطينية ذات دور إداري وأمني فحسب، وليس إلى جمهورية ووطن. هي دولة ضعيفة ومفتقرة للموارد، تابعة للنظام الصهيوني، إقتصادياً وسياسياً وأمنياً، أي دولة يقتصر دورها على أن تكون منطقة عازلة صغيرة في الظهر الشرقي للكيان الصهيوني وعند الحدود مع مصر، وتعمل في خدمة النظام الصهيوني ومشروعه التوسّعي. هذا يعني أنّها دولة مؤقتة ينتهي وجودها بعد أن ينتهي دورها. ثم أنّ الشعب الفلسطيّني لا يثق بالنظام الصهيوني ولا هو سيتخلّى عن حلم العودة إلى أرضه ووطنه المغروس في وجدانه الجمعي. وإنّي أرى أن سقوط النظام الصهيوني وإقامة جمهورية فلسطينية ديموقراطية متعدّدة الطوائف أقرب للتحقيق مستقبلاً من حلّ الدولتين إذا كان الهدف إنجاز حلّ مستدام.

بالعودة إلى لبنان، فإنّ لبنان، مع سوريا والعراق، هو المكان الذي سينطلق منه السكّين الذي سيقطع قالب الجبنة الخاص بالتسوية الإقليمية التي ستأتي بعد نهاية هذه الحرب سواء دخل لبنان فيها أو لم يدخل. هذه البلدان الثلاثة ستكون مساحة يتداخل فيها نفوذ الدول التي تشكّل الركائز التي سوف تقوم عليها التسوية الاقليمية. هذا يعني أننا مقبلون على مرحلة دقيقة ومحفوفة بالمخاطر والتحدّيات التي لا يمكن أن يحلّها النموذج الحالي الذي يتمّ وفقه تناول موضوع القضية الفلسطيّنية والكيان الصهيوني ودور لبنان في المنطقة. هذا النموذج الذي يحكمه صراع تاريخيّ بين مقاربتين خاطئتين تنطلقان من فرضيّتين ساذجتين – أي المقاربة التي تقوم على النأي بالنفس والمقاربة التي تقوم على أساس أنّ عدوّ عدوّي هو صديقي. وإذا كان انتصار إحدى هاتين المقاربتين غير ممكن إلا بتشظّي لبنان بين المحاور المتنافسة، فلا بدّ من خيار ثالث.

(*) في الجزء الثاني والأخير غداً: لبنان بين فرضيّتين ساذجتين، وفرصة الطرح الثالث

Print Friendly, PDF & Email
ماهر أبو شقرا

ناشط ومُنظِّم سياسي، لبنان

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  إسرائيل عن "عبوة مجدو": جرأة ومهنية مثيرة للإعجاب!