سوريا أم صوريا.. بين أشور وحور وصور وصيدا (3)

يستعرض القسم الثالث والأخير من هذه الدراسة، الفرضية القائلة بأن سوريا استقت إسمها من مدينة صور الفينيقية اللبنانية، حين كانت تلك المدينة على رأس المدن الكنعانية، ومثلما عُرف سكان السواحل الشامية ذات عصر بالصيدونيين حين كانت مدينة صيدا سيدة المدن الفينيقية، فالتعريف نفسه انتقل إلى الصوريين بعدما غدت السيادة لمدينة صور.

إذا كان معظم التاريخ قائم على الظن وما تبقى إملاء أهواء، كما يقول أحد أهم المؤرخين في القرن العشرين، وول ديورانت، فهذا ما يجعل هذه الدراسة غير مقفلة، وذلت قابلية مفتوحة على النقاش، فإنه من جهة ثانية يمكن الإنطلاق من مقولة ديورانت إلى القول إن سوريا مرت بخمسة أطوار إسمية هي: أرض كنعان؛ أرض آرام؛ سوريا القديمة؛ بلاد الشام وسوريا الجديدة.

وفيما شكّلت بيروت مرفأ دمشق الحديثة، فإن صيدا وصور شكلتا مرفأي البلاد السورية قديما على ما يقول أغلب المؤرخين والباحثين، في حين أن سوريا الجديدة، أكثر ما ظهرت إسماً ورمزاً وجغرافيا في كتابات اللبنانيين المحدثين، ابتداءً من البطريرك اسطفان الدويهي، مروراً بالأمير حيدر الشهابي وعبوراً بميخائيل مشاقة، وفتحاً غير مسبوق مع بطرس البستاني وصحيفته “نفير سوريا” وانتهاءً بمجلات اللبنانيين في مصر، من مثل مجلة “المقتطف” ليعقوب صروف، ومجلة “الهلال” لجرجي زيدان، مع الأخذ بالإعتبار احتمال الإشتقاق اللغوي لسوريا من مدينة صور الواقعة على الشاطىء اللبناني ـ السوري ـ الشامي ـ الآرامي، ومع التأمل أن النفوذ القوي لمدينة صور كان يمتد إلى الداخل السوري، مثلما يقول المؤرخ والعالم الألماني كارل هاينز برنهردت في كتابه المعروف “لبنان القديم” (1).

بين سوريا.. وصور وأشور وحور

الشيكل القديم

في مقالة له بعنوان “البانوراما السياسية في خط مستقيم أرض ضاربة في القدم”، يقول المفكر اللبناني أنطون سعادة، مؤسس “الحزب السوري القومي الإجتماعي”: “ثمة جدل حول أصل إسم سوريا، ويرجّح تأكيد الرواية التي تذهب إلى أنّ هذا الإسم هو اشتقاق من إسم صور أي صور الشهيرة القديمة، عاصمة أول إمبراطورية استعمارية بحرية في العالم، التي أخذت موقعها على شاطئ البحر المتوسط عند سفح جبال لبنان” (2).

ولهذه العائدية حضورها عند إلياس ديب مطر في كتابه “العقود الدرية في تاريخ الممالك السورية” الصادر عام 1874 في بيروت فيعرض رأيين منطلقاً من القول إن “سوريا دُعيت بهذا الإسم نسبة إلى أشوريم حفيد النبي ابراهيم عليه السلام، غير أن بعضهم رأى إنما دعيت بذلك لإشتقاقها من صور المدينة العظيمة” (3).

وأما لجهة الصلة في القرابة اللفظية والدلالية بين سوريا وأشور، كما يذهب باحثون فلا يأخذ بها “المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري” حين يشير إلى “كتّاب كثيرين خلطوا بين سوريا وأشور” (4)، ويحسم فيليب حتي رأيه بخلاصة فيها “إن إسم سوريا يوناني في شكله ولا توجد في الغالب صلة بين سوريا وأشور، وفي العصور اليونانية وما بعدها توسع استعمال هذا الإسم وأطلق على البلاد كلها واستخدم بهذا المعنى حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعض كتّاب العصر الكلاسيكي يخطؤون في الكلام عن السوريين حين يجعلون إسمهم مرادفاً للأشوريين” (5).

وفيما يعمل المختص في فقه اللغات السامية وحضارات الشرق القديم، المؤرخ السوري فاروق اسماعيل، على تضعيف صلة النسب بين سوريا وصور، متسائلاً عن أسباب استبدال اليونانيين للحرف الأول من صور بحرف التاء (صور: tyre) فيحتمل صلة إسم سوريا بـ”الشعب الخوري غير السامي (الحوريون)” بعد انقلاب الخاء إلى شين باللغة القبطية، ثم انقلاب حرف الشين سيناً في اليونانية، لتنتقل رحلة المفردة حور إلى شور باللغة القبطية وتستقر أخيراً بالصيغة اليونانية على سور، وإذ يقطع فاروق اسماعيل بيونانية إسم سوريا وانعدام صلته بأشور، لكنه يرى أن أول من قال بأن سوريا مشتقة من أشور، هو المسستشرق الألماني نولدكه عام 1871 وذلك “بسبب التشابه اللفظي، وهو اتجاه مرفوض في دراسات علم اللغة رفضاً قاطعاً” (6).

بين الإسم التاريخي.. والحديث

وبحسب عفيف بهنسي (7)، مدير الآثار والمتاحف في سوريا أن أبا محمد الحسن بن أحمد الهمداني (ت: 947 م) “قد ذكر لأول مرة إسم الشام “في كتابه” الإكليل في أخبار اليمن وأنساب حمير”، ولكن قبل استخدام هذه التسمية، عُرفت سوريا بـ”بلاد عمورو، أي الغرب من الرافدين، ثم ظهرت تسمية أسورا عربايا في العهد الفارسي، وتحرف إسم أسورا إلى سوريا، وكان الإغريق أول من استعمل هذه التسمية التي وردت على لسان هيرودوت” (8) في القرن الخامس قبل الميلاد.

 معبد حدد

يُستدل مما سبق، أن إسم الشام حديث التداول (القرن العاشر الميلادي)، وكذلك إسم سوريا حديث نسبياً، وبصرف النظر إذا كان المؤرخون الإغريق قد ابتكروه أو أشاعوه، او كان معروفاً في عهد الملك الكلداني نبوخذ نصر (القرن السادس ق.م) كما يعتقد الأب إسحق أرملة (9) وأما عمورو أو أمورو، وتعني الأموريين، كقبيلة أو شعب، فلا تتصل بتسمية سوريا من حيث التركيب اللفظي والحرفي، مما يعيد عقارب البحث إلى مدينة صور، وفي ذلك يقول سليم عبد الحق، المدير العام للآثار السورية، في كتاب مشترك مع الخبير الفني في مديرية الآثار العامة خالد معاذ: “لم يبق مما يدل على مدينة دمشق الآثارية التي كانت تمتد حول معبدها، إلا هذا الحجر المنحوت في معبد حدد، وصفاته الفينيقية ظاهرة، فهو متوج بتاج مزدوج مسطح وله ذقن طويلة وأجنحة مزدوجة بعضها فوق بعض وصدارة بين قائمتيه الأماميتين المفترقتين، ويرجع عهده إلى القرن التاسع قبل الميلاد، ويُظن أن حزاقيل ملك دمشق أراد أن يبني معبدَ حدد (ادد) ويزينه، فاستحضر لذلك فنانين فينيقيين، كما فعل الملك سليمان في القدس” (10).

وإذا تم الأخذ بهذه الواقعة، فدلالاتها تنطوي على احتمالين، إما يكون نفوذ مدينة صور قد وصل دمشق، مما دفع فينيقيي صور إلى بناء معبد حدد المرادف لبعل الصوري، وإما أن تكون العلاقة بين ملكي المدينتين قد عرفت مستوى متقدماً من المتانة والوثاقة افضت في النهاية إلى أن تترك صور أثرها الروحي والفني وحتى التجاري على المملكة الدمشقية، فالمرحلة التي بنى فيها الصوريون معبد حدد أو منحوتات للمعبد، كانت فيها صور سيدة الممالك العالمية في الملاحة والتجارة والثراء والفنون، بالإضافة إلى تبؤوها سائر المدن الفينيقية على السواحل السورية واللبنانية والفلسطينية في تلك المرحلة.

بين سوريا.. وصيدا

من خلال هذا الواقع التاريخي لصور، لا يعود مستبعداً إطلاق تسمية صوريا على مجمل مدن السواحل المذكورة آنفاً، ومنه امتدت التسمية إلى ما وراء السواحل، فالمعروف أن تعريف الصيدونيين، والنسبة إلى مدينة صيدا، كان يطلق على مجمل المدن الفينيقية كما يرى الخبير في العلوم الآثارية محمد الخطيب في “الحضارة الفينيقية” حين سبقت صيدا شقيقتها صور في السيادة والنفوذ الإقليمي والدولي “وقد استُعمل إسم الصيدونيين في العهد القديم وهوميروس، للدلالة على الشعب الفينيقي كله، ثم اقتصر على مدينة بعينها وهي صيدا، ينطوي هذا الإستعمال إما على سيادة صيدا على سائر المدن الفينيقية وإما للدلالة على وحدة نسبية بين هذه المدن” (11) وعلى هذه الخلاصة يستقر احمد حامدة “فالصيدونيون هي تسمية أخرى للفينيقيين، ولم يُقصد بها سكان مدينة صيدا فقط، بل كامل الشعب الفينيقي” (12).

آثار صيدا

إن هذه الخلاصات التي تتقاطع حول تسمية الفينيقيين بالصيدونيين وشمولها مجمل مدن ومناطق الساحل حين كانت مدينة صيدا سيدة المدن الفينيقية، يفتح مجالات القول إن هذه التسمية انتقلت إلى مدينة صور بعدما انتقلت السيادة الفينيقية إليها وأضحى الفينيقيون معروفين بالصوريين، وهذا ما قد ينسحب إلى مناطق ما وراء الساحل، أي إلى الداخل الصوري ـ السوري، ولذلك ليس عن طريق المصادفة أن التقسيمات الإدارية التي اعتمدتها الأمبرطورية الرومانية الشرقية، اتخذت من فينيقيا إسماً لهذه التقسيمات “وسوريا تلك قسّمها القدماء المتأخرون إلى ثلاثة أقسام، الأولى سوريا انطاكيا، والثانية سوريا حماه، والثالثة سوريا فينيقيا لبنان وهي ما فيها دمشق ولبنان وتوابعهما” (13) وفي عهود لاحقة كانت مدينة صور عاصمة لـ”فينيقيا الأولى” كما في التسمية الرومانية.

إقرأ على موقع 180  التوراة.. هذا ما نالته صيدا وصور من لعنات وخراب (3/2)

قد يكون الإستدلال بعملة مدينة صور والمعروفة بـ”الشيكل الصوري” وجهاً من وجوه النفوذ التاريخي الصارخ للصوريين في بلاد الشام، وهذا ما يسمح بإقران صوريا بسوريا، فالعملة الصورية استمر تداولها في المنطقة زهاء خمسة قرون (14) فالصوريون راحوا يسكون عملتهم “الشيكل (السيكل ـ ثقل ـ مثقال) في أواسط القرن الخامس قبل الميلاد، وبقي استخدام هذا “الشيكل” حتى القرن الميلادي الأول، وحين يكون النفوذ النقدي والإقتصادي والسياسي والروحي (معبد حدد في مدينة دمشق وبعل في مدينة بعلبك) قد بلغ هذا الشأو والشأن، فالأمر يستدعي، على الأقل، التفكر بأصل الإسم سوريا، وإذا كان ثمة شك بأصله اليوناني، وطعن بتحريفه عن أشور، واعتراض على أرومته الحورية، فلماذا لا يأخذ الإفتراض مكانه التاريخي وتدرجات الإسم من الصيدونيين إلى الصوريين، وبحيث شملت هذه التسمية مدن الساحل كافة ثم توسعت إلى ما وراء الساحل؟

مراجع وحواشي القسم الثالث والأخير:

1ـ هاينز برنهردت كارل ـ لبنان القديم ـ ترجمة ميشال كيلو ـ مراجعة زياد منى ـ قدمس للنشر والتوزيع ـ دمشق 1999ـ ص: 107.

2 ـ راجع الموقع الإلكتروني الخاص بأنطون سعادة ـ المجلد السابع ـ مقالات 1944 ـ 1947.

3 ـ مطر عيد الياس ـ العقود الدرية في تاريخ الممالك السورية ـ مطبعة المعارف ـ بيروت 1874 ـ ص: 5.

4 ـ “المعجم الجغرافي للقطر العربي السوري” ـ مركز الدراسات العسكرية ـ دمشق 1992 ـ ص: 55.

5 ـ حتي فيليب ـ تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين ـ دار الثقافة ـ بيروت 1957ـ ص: 62 و63.

6 ـ فاروق اسماعيل ـ حول الإسم سوريا ـ مجلة “دراسات تاريخية” العدد 49/50 ـ آذار/حزيران ـ دمشق 1994.

7ـ بهنسي عفيف ـ التراث الأثري السوري ـ وزارة الثقافة السورية، مطابع الهيئة العامة السورية للكتاب ـ دمشق 2014 ـ ص: 11.

8 ـ المصدر نفسه ـ ص: 9.

ـ للمزيد: راجع فيليب حتي ـ مصدر سابق ـ ص: 80.

9 ـ أرملة سحق ـ “الملكيون” ـ المطبعة الكاثوليكية ـ بيروت 1936 ـ ص: 91.

10 ـ عبد الحق سليم ومعاذ خالد ـ “مشاهد دمشق الأثرية” ـ مطبعة الترقي ـ دمشق 1950 ـ ص: 6.

11 ـ الخطيب محمد ـ الحضارة الفينيقية ـ دار علاء الدين ـ دمشق 2007ـ ص: 47.

12 ـ حامدة احمد ـ الملك والأسرة المالكة في فينيقيا ـ مجلة “دراسات تاريخية” ـ دمشق 1994.

13 – الياس مطر ـ م. س ـ ص: 5.

14 ـ رونكاليا ماريتيانو ـ على خطى يسوع المسيح في فينيقيا لبنان ـ المؤسسة العربية للدراسات بين الشرق والغرب ـ بيروت 2011 ـ ص: 65 و66 و67.

للمزيد:

ـ قاموس الكتاب المقدس ـ نخبة من ذوي الإختصاص واللاهوتيين ـ دار الثقافة ـ القاهرة 1995ـ ص: 565.

ـ الكتاب المقدس (العهد القديم) ـ سفر التثنية ص: 217ـ جمعية الكتاب المقدس ـ بيروت 1996.

ـ هوميروس ـ الألياذة ـ ترجمة: سليمان البستاني ـ مطبعة الهلال ـ القاهرة 1904ـ ص: 1096.

ـ صلاح رشيد الصالحي ـ موجز تاريخ سوريا وفلسطين منذ أقدم العصور ـ مركز إحياء التراث العلمي العربي ـ بغداد 2024ـ ص 300.

ـ فيليب حتي. م. س ـ ص: 294.

ـ عفيف بهنسي ـ م. س ـ ص: 10 و11.

ـ مورس سارتر ـ سوريا في العصور الكلاسيكية ـ 29 الهيئة العامة السورية للكتاب ـ دمشق 2008 ـ ص: 29 وما بعدها.

ـ ارنولد جونز ـ مدن بلاد الشام حين كانت ولاية رومانية ـ ترجمة إحسان عباس ـ دار الشروق للنشر و التوزيع ـ عمان 1987 ـ ص: 44.

ـ يوسف الحوراني ـ المجهول والمهمل من تاريخ الجنوب اللبناني ـ تقديم: السيد حسن الأمين ـ دار الحداثة ـ بيروت 1999 ـ ص: 128.

ـ ميشال إده ـ السيكل وليس الشيكل ـ صحيفة “القبس” الكويتية ـ 24 ـ 12 ـ 2004.

ـ محمود الدسوقي ـ الشيقل العراقي والكنعاني ـ صحيفة “الأهرام” المصرية ـ 6 ـ 1 ـ 2023.

ـ مصلح كناعنة ـ الشيكل والشاقل ـ موقع “عرب 48” ـ 19 ـ 5 ـ 2024.

(*) راجع الجزء الأول من هذه الدراسة: سوريا أم صوريا؟ (1)

(**) راجع الجزء الثاني من هذه الدراسة: سوريا أم صوريا.. من كنعان إلى الشام (2)

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  صراعات المشرق.. هويات وممرات وريوع وحقوق!