إردوغان يبتز العراق العطشان.. المياه مقابل الأمن!

من غير الواضح لماذا لم يجد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، دقائق قليلة من زيارتيهما إلى نيويورك، لعقد لقاء مباشر بينهما، تماماً مثلما هو غير واضح رسمياً حتى الآن، لماذا لم تتم زيارة إردوغان إلى بغداد. 

أمضى محمد شياع السوداني ستة أيام حافلة ديبلوماسياً في نيويورك، وتقاطعت أيام زيارته مع فترة وجود إردوغان في المدينة للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، حتى أن الزعيم التركي وجد الوقت الكافي للتنزه في حديقة “سنترال بارك” في نيويورك وتجاذب أطراف الحديث مع مواطني هذه المدينة الأميركية الصاخبة.

ولهذا، فإن السؤال مشروع، والأهم أن إردوغان والسوداني، خلال أيامهما المعدودة في نيويورك، عقدا عشرات اللقاءات مع زعماء وقادة ومسؤولين ورجال أعمال وممثلي شركات عملاقة، وطرحا خلالها، كما في خطاباتهما من على منبر الجمعية العامة، وفي اللقاءات الصحافية التي عقداها، كل ما يمكن أن يخطر ببال من قضايا سياسية وإقتصادية وإجتماعية ونزاعات عسكرية، لكنهما برغم ذلك، لم تتح لهما – أو ربما لم يشاءا – فرصة اللقاء.

وكان من المتداول، وحتى المعلن بشكل رسمي من جانب مصادر في رئاسة الحكومة العراقية، أن إردوغان سيزور بغداد في مطلع شهر آب/أغسطس الماضي، ثم جرى الحديث عن تأجيل الزيارة إلى أيلول/سبتمبر الماضي أيضاً، وذلك بعد اللقاء المهم الذي جمع الرجلين في العاصمة التركية في آذار/مارس 2023. إلا أنه منذ تلك الزيارة، ازداد إلحاح اجتماعهما، بسبب مسألتين حاسمتين: عطش العراقيين، وإعلان مجموعة الـ20 عن مشروع “الممر الهندي” الجديد.

وبرغم النشاط المكثف الذي ميّز زيارة السوداني إلى نيويورك، وهو ما أثار استحسان الأوساط العراقية، إلا أن إخفاقاً يُسجل في رصيد الزيارة، وتحديداً ما يتصل بقضية المياه التي كان إردوغان “تفضل” فيها على العراقيين بقوله في قمة آذار/مارس الماضي لضيفه العراقي، “نحن ندرك ندرة المياه في العراق، لكن هطول الأمطار في تركيا عند أدنى مستوى له منذ 62 عاماً، ونحن نمر بجفاف يزداد عمقاً بسبب تغير المناخ.. وبرغم ذلك قرّرنا زيادة كمية الإطلاقات المائية صوب نهر دجلة لمدة شهر”. وردّ السوداني بالتعبير عن “الإمتنان” بالنيابة عن الشعب العراقي.

الإخفاق في نيويورك، إن صح التعبير، يتجلي في حقيقة أن رئيس الوزراء العراقي، كان بمقدوره الاستفادة من الإطلالة الدولية وحضور العراق في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة والإهتمام الإعلامي العالمي في تلك الأيام، من أجل رفع الصوت من على هذا المنبر، حول خطورة شح المياه وعطش العراقيين، وتحويلها إلى قضية دولية أساسية.

لكن ذلك لم يحصل. وما أمكن رصده من تصريحات السوداني النيويوركية، أنه تطرق إلى قضية المياه خلال جلسة حوارية نظمها معهد “مجلس العلاقات الخارجية”، وقال خلالها إن العراق يدرس حالياً مشروعاً استراتيجياً لإدارة المياه هو الأول من نوعه في تاريخ العراق، من أجل الإستخدام الأمثل لها. وتابع قائلاً إن ملفّ المياه يُمثل تحدياً وجودياً في العراق، والأزمة تزامنت مع مشاريع دول المنبع التي أثّرت على حصصنا المائية، وقال أيضاً “نعمل على مشروع تحلية مياه الخليج لتوفير المياه للبصرة وباقي المحافظات الجنوبية”.

هناك مجتمعات محلية بأكلمها مُهددة بالبقاء، ومُهددة في أماكن سكنها وعملها. وهناك رفد متواصل لشريحة الناقمين إجتماعياً وسياسياً، بما يمس استقرار الدولة العراقية. خطر الإرهاب ما يزال حاضراً في أكثر من بقعة جغرافية، من شرق العراق إلى غربه

وفي مقابلة له مع قناة “سي إن إن” الأميركية، قال السوداني إن التغيرات المناخية تمثل تهديداً وجودياً للعراق، واعتبر أن شح المياه يؤثر بشكل كبير في الأهوار وفي انخفاض منسوب المياه في نهرين كبيرين مثل دجلة والفرات، وسندعو إلى تشكيل تكتل دولي لدول المنطقة، العراق وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي، لمواجهة آثار التغيرات المناخية.

ومن الواضح أن السوداني في لهجته الهادئة هذه، لم يحول الشح المائي إلى ملف ساخن وعاجل وملح، وهو حتى تجنب توجيه إصبع الإتهام بشكل جلي وواضح لأنقرة، في ما يعكس تهاوناً عراقياً غير مبرر في بلد تُصنفه الأمم المتحدة بأنه من بين الدول الخمسة الأكثر تضرراً بالجفاف والتغيير المناخي على مستوى العالم.

وحتى عندما أوفد إردوغان وزير خارجيته حقان فيدان إلى بغداد بدلاً منه في الأسبوع الأخير من آب/أغسطس الماضي، تمكن رجل الإستخبارات السابق من ترتيب “أجندة” الأولويات وفرضها على محادثاته التي أجراها في العاصمة العراقية، معتبراً أن “ملف الأمن” يتقدم على “ملف المياه”، مُرسخاً بشكل ضمني معادلة “المياه مقابل الأمن أولاً”، وتمكن من تهميش قضية الإحتلال التركي لمناطق شاسعة في الشمال العراقي، مقابل إثارة ملف حزب العمال الكردستاني والتنظيمات الموالية له.

ووفق نظرة أنقرة، فإن الغارات التركية وعمليات الإغتيال من جانب المخابرات التركية، تُمثل أنشطة طبيعية لتركيا، على العراق تفهمها، فيما العطش العراقي مسألة فيها وجهة نظر، وبالامكان تأجيلها في الوقت الراهن، وهذا المنطق الأمني الذي يحكم نظرة أنقرة سيزداد التمسك به في ضوء الهجوم الإنتحاري الذي نفذه حزب العمال ضد مقر وزارة الداخلية التركية في أنقرة، يوم الأحد الماضي.

ويبدو أن طريق الزيارة الإردوغانية المؤجلة ليس ممهداً حتى الآن، لكن من غير الواضح ما الذي يجعل بغداد في المقابل تؤخر تحركها لوضع ملف المياه بنداً متقدماً في أي مباحثات مع الجانب التركي حتى الآن، في وقت يدرك كثيرون، أن الجفاف الذي ضرب المنطقة في العام 2008، ساهم في تأليب ملايين المواطنين والمزارعين على حكومتي بغداد ودمشق، حيث قدرت منظمة “الفاو” مثلاً أن الزراعة السورية تدهورت بنسبة 40% بين عامي 2011 و2012، ودفعت، مثلما فعلت في العراق، على الجانب الآخر من الحدود، بمئات آلاف المواطنين – وربما بالملايين منهم – إلى النزوح من الأرياف نحو المدن الحضرية، ووصف ذلك بأنه كان من بين الأسباب الرئيسية التي جعلت آلاف الشبان يستقطبون بسهولة إلى صفوف الجماعات الإرهابية في البلدين.

إقرأ على موقع 180  ثُلاثية الأنا (شعر، نرجسية وفايسبوك).. وَصْفَة سِحرية للحرية (2)

وفيما يتعلق بالعراق تحديداً، فإن الأمم المتحدة تقول إنه شهد في العام 2021 ثاني أكثر مواسمه جفافاً منذ 40 عاماً بسبب الإنخفاض القياسي في هطول الأمطار، كما أنه خلال السنوات الـ40 الماضية، انخفضت تدفقات المياه من نهري الفرات ودجلة، التي توفر ما يصل إلى 98٪ من المياه السطحية في العراق، بنسبة 30-40٪.

علامة التعجب الكبيرة تتضح أكثر إزاء موقف الحكومة العراقية برغم تصريح وزير الموارد المائية العراقية عون ذياب مؤخراً بأن السنة الحالية “هي الأسوأ منذ تاريخ تسجيلنا للإيرادات المائية لدجلة والفرات في العام 1930″، أو عند استعادة تصريح المتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية خالد شمال الذي قال إن العراق لا يتلقى سوى أقل من 30% من حقه الطبيعي في مياه نهري دجلة والفرات بسبب بناء السدود، وأن البلد لم يعد يزرع سوى أقل من 30% من قدرته الزراعية بسبب عدم حصوله على حقوقه كاملة في المياه.

ربما لو كان الشاعر قيس بن الملوح بيننا في هذه الأيام لاستبدل بيته الشعري “ألا إن ليلى بالعراق مريضة وأنت خلي البال تلهو وترقد”، بـ”ليلى بالعراق عطشانة”. يدرك المسؤولون الأتراك والعراقيون أن المياه حق أساسي من حقوق الإنسان، لكن أنقرة إلى جانب تفلتها من الإلتزام الأخلاقي، تتهرب من الإلتزام القانوني، لأن لا اتفاقيات دولية تُلزمها، كما تقول، بالسماح بتدفق المياه من أراضيها إلى العراق (وسوريا).

هناك مجتمعات محلية بأكلمها مُهددة بالبقاء، ومُهددة في أماكن سكنها وعملها. وهناك رفد متواصل لشريحة الناقمين إجتماعياً وسياسياً، بما يمس استقرار الدولة العراقية. خطر الإرهاب ما يزال حاضراً في أكثر من بقعة جغرافية، من شرق العراق إلى غربه.

صحيح أن تركيا سمحت بتدفقات مائية إضافية بمعدل 1500 متر مكعب بالثانية (مضاعفة بذلك ما كانت تسمح بمروره سابقاً)، إلا أن هذه “التسهيلات” التركية لم تساهم في معالجة عطش العراقيين ولا في إنقاذ أراضي العراق الزراعية الجافة، ولم تساعد في الإجابة عن كيفية قيام بغداد بمعالجة هذا الملف، لكن الآثار المدمرة على المجتمعات، واضحة، وتداعياتها صارت تمس الأمن الإجتماعي للبلاد.

بغداد وأنقرة في حالة ترقب، الواحدة منهما تنتظر الخطوة الأولى من الجانب الآخر، أو نضوج أحد هذه الملفات قبل التقدم باتجاه تسوية في الملفات الأخرى، لكن عطش العراقيين لا يحتمل لا المراوغات التركية، ولا التباطؤ العراقي

توحي الحركة التركية بأنه مقابل الحياء العراقي، لا حياء تركياً. هناك ابتزاز تركي واضح يخدم معادلة أنقرة حول “المياه مقابل الأمن أولاً”، يتمثل في استمرار تعطيل خط جيهان النفطي الناقل لنفط إقليم كردستان وخام كركوك. تكبدت ميزانية العراق (الواقعة تحت عجز هائل مقدر بنحو 48 مليار دولار) حتى الآن 5 مليارات دولار على أقل تقدير، لكن تركيا تخسر يومياً ما بين 2 إلى 3 مليون دولار مقابل رسوم العبور. وبمعنى آخر، راهن الأتراك على 3 تنازلات كبرى قبل الإقدام على أي تسوية من جانبهم: ملف حزب العمال الكردستاني بجر الجيش العراقي إلى معارك الجبال معهم وفي داخل “بيئتهم” الكردية في الشمال العراقي بالإضافة إلى إثارة تقاتل كردي-كردي حول هذا الملف؛ ثانياً بتأخير استئناف خط جيهان لتصبح الخسارة العراقية أكبر من القدرة على احتمالها أكثر؛ ثالثاً القبول العراقي بالتبرير التركي القائل إن مشكلة العراق المائية لا تتعلق بشح التدفقات النهرية من الأراضي التركية، وإنما بسوء استخدام العراقيين لمواردهم المائية وتقادم أنظمتها.

في الخلاصة، بغداد وأنقرة في حالة ترقب، الواحدة منهما تنتظر الخطوة الأولى من الجانب الآخر، أو نضوج أحد هذه الملفات قبل التقدم باتجاه تسوية في الملفات الأخرى، وقبل العمل لترتيب قمة جديدة لإردوغان والسوداني، لكن عطش العراقيين لا يحتمل لا المراوغات التركية، ولا التباطؤ العراقي.

أما إعلان مشروع الممر الهندي-الشرق أوسطي-الأوروبي، فكان يُفترض أن يُعجل بانعقاد القمة التركية ـ العراقية.. وللحديث تتمة.

Print Friendly, PDF & Email
خليل حرب

صحافي وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Premium WordPress Themes Download
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  حروب المياه.. والأممية الجديدة!