“فورين أفيرز”: الحذر يؤخر إشتعال الشرق الأوسط

منى فرحمنى فرح22/10/2023
بعد عملية "طوفان الأقصى"، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، توقع العديد من المراقبين أن يبقى الصراع محدوداً بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة. لكن بعد مجزرة مستشفى المعمداني، كثيرٌ من "حواجز" إحتواء نشوب حرب إقليمية اهتزت. حتى الآن الجميع يلتزم الحذر، لكن لا شيء يمنع الإنزلاق، فالتطورات الميدانية مائعة، والحسابات الاستراتيجية لدى إسرائيل أو إيران، أو كليهما، قد تدفعهما للاعتقاد بأن "المواجهة المباشرة" أقل خطراً على "وجودهما" من الوضع الراهن، بحسب "فورين أفيرز"(*).

ثمة رأي يقول إنه لا يوجد لاعب خارجي يريد توسيع الحرب أو يجعل الأوضاع السيئة أكثر سوءاً: فإسرائيل مشغولة بردها العسكري في غزة. وإيران تريد تجنب صدام محتمل مع أميركا، فيما الأخيرة يهمها أن يبقى الوضع مستقراً حتى لا تتعطل أسواق النفط، ولا يتشتت انتباهها عن الحرب في أوكرانيا أو عن صراعها مع الصين. كما أن حزب الله لديه تحدياته الخاصة في الداخل اللبناني، وأي حرب جديدة مع إسرائيل ستزيد من تفاقم الأزمات السياسية والاقتصادية في البلاد.

الجوار أيضاً ليس من مصلحته التصعيد: فالدول العربية، مثل الأردن ومصر، لديها بالفعل مشاكل اجتماعية واقتصادية حادَّة، وتوسيع حرب غزة يعني أزمة لاجئين جديدة وأعباء اقتصادية وأمنية جديدة. وبالنسبة لدول الخليج، فإن توسيع الحرب سيعطل مشاريعها الطموحة للتنمية الاقتصادية، ويعيق الجهود الجارية لإصلاح العلاقات الإقليمية المتوترة وإنهاء الصراعات المستمرة في ليبيا وسوريا واليمن.

لكن هذه الحجج لصالح احتواء التصعيد في المنطقة أصبحت أقل بديهية بعد المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بقصفها المستشفى المعمداني، في 17 تشرين الأول/أكتوبر (بسبب تبني واشنطن للرواية الإسرائيلية بـ”أنها غير مسؤولية”، والمواقف التي اتخذتها دول المنطقة، بما في ذلك البحرين ومصر والأردن والمغرب وقطر والسعودية والإمارات، والاحتجاجات التي بدأت تضغط على الأنظمة، لدرجة أن عمَّان ألغت قمة كان يفترض أن تجمع الرئيس الأميركي جو بايدن مع المصريين والفلسطينيين.

وحتى قبل مأساة المستشفى، فإن حجم الهجمات التي تشنها فصائل المقاومة الفلسطينية، والحقائق التي أوجدتها على الأرض نتائج عملية “طوفان الأقصى” قد بدأت بالفعل تغير الحسابات الاستراتيجية للجهات الفاعلة الرئيسية، وتزيد احتمالية التصعيد إقليمياً. فقد حذَّر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبداللهيان من أنه إذا استمر العدوان الإسرائيلي على غزة، “فمن المحتمل جداً أن يتم فتح العديد من الجبهات الأخرى” (…) وردَّد المرشد الأعلى الإيراني السيد علي خامنئي مثل هذه التهديدات، قائلاً إن إيران لن تعترض طريق المقاتلين” (…).

إن إحتمال نشوب مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران ليس مجرد سيناريو افتراضي. لعقود من الزمن، انخرط الطرفان في “حرب ظل” تُخاض براً وجواً وبحراً. وقد اشتدت هذه الحرب على مدى السنوات الخمس الماضية، وتحديداً بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في عام 2018، والتقدم أحرزته طهران في برنامجها النووي. وبرغم أن الطرفين ظلا يتصرفان وفق إبقاء الأمور تحت السيطرة، تعمل حرب غزة على تعطيل حساباتهما الدقيقة. وكلما طال أمد الحرب كلما تقلصت حوافز الاعتدال وزادت مخاطر نشوب صراع إقليمي.

ضرورة الحذر

عندما نفذت “حماس” عملية “طوفان الأقصى”، في 7 تشرين الأول/أكتوبر، سارع مسؤولو الدفاع الإسرائيليون إلى رفض الإدعاءات التي قالت إن إيران “ساعدت في التخطيط” للعملية، وسلطوا الضوء على عدم وجود أدلة تؤكد أي دور إيراني في ما حصل، برغم تسليمهم بحقائق أن إيران تقدم مساعدات مالية وعسكرية ولوجستية وتدريبية لفصائل المقاومة الفلسطينية. وإلى حد كبير، تبنى المسؤولون الأميركيون الموقف ذاته. وبايدن شخصياً صرح بأنه ليس لدى الحكومة الأميركية ما يشير إلى أن طهران متورطة أو كان لديها علم مسبق بخطط عملية “طوفان الأقصى”.

إيران نفسها نفت تورطها المباشر (…)، وهناك أسباب للإعتقاد بأنها سوف تلتزم بعض الحذر وتتجنب صراعاً مباشراً مع إسرائيل أو أميركا “لأنها تريد التركيز على اقتصادها المتعثر وأزماتها الداخلية”. وكانت طهران وواشنطن قد بدأتا بالفعل التركيز على الدبلوماسية، وأبرمتا اتفاقاً لتبادل الأسرى والإفراج عن بعض الأصول الإيرانية المجمدة (إدارة بايدن وقطر- حيث يتم الاحتفاظ بالأموال الإيرانية- أوقفتا تنفيذ القرار مؤقتا في 12 أكتوبر/تشرين الأول). أضف إلى ذلك، أن هدف واشنطن من نشرها حاملتي طائرات في شرق البحر الأبيض المتوسط هو لمنع المزيد من التصعيد من خلال تحذير إيران من أنها إذا دخلت المعركة فإن أميركا سترد.

تجدر الإشارة هنا إلى أن حزب الله أيضاً أبدى قدراً نسبياً من ضبط النفس في رده الأولي على الحرب، فشن هجمات صغيرة النطاق بدت وكأنها مصممة لتجنب التصعيد.

إذا وقع هجوم إسرائيلي كبير على حزب الله، أو هجوم أميركي على منشآت نووية إيرانية، أو أي حدث آخر بالحجم نفسه، يعني أن كل الحواجز سقطت تماماً

لكن في الآونة الأخيرة، بدت الرسائل الإيرانية العلنية بمثابة تأييد ضمني للجماعات المسلحة في الإقليم التي قد ترغب في الانضمام إلى الصراع وتوسيعه، وتركت الباب مفتوحاً أمام تدخلها المباشر. كذلك بدأ حزب الله في إطلاق صواريخ مضادة للدبابات أكثر تطوراً على شمال إسرائيل؛ في اختبار للخطوط الحمراء الإسرائيلية السابقة؛ ردّت عليها إسرائيل بالمثل.

سيكون المزيد من التصعيد على الحدود اللبنانية خطيراً جداً. فحزب الله يمتلك قدرات عسكرية متطورة أكثر بكثير من تلك التي تمتلكها “حماس” وباقي الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك صواريخ دقيقة قادرة على أن تطال كل المناطق الإسرائيلية (…). وبدأت إسرائيل بالفعل بإخلاء البلدات والمستوطنات القريبة من الحدود اللبنانية (…)، وكذلك بدأ كثير من سكان القرى اللبنانية الحدودية يتركون منازلهم.

ومع ذلك، إن فتح جبهة شمالية جديدة ليس أمراً حتمياً بعد. إن أولوية إسرائيل الآن هي غزة. في المقابل، يتصرف حزب الله بحذر شديد، ويتجنب- حتى الآن- توسيع عملياته العسكرية، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن حرباً واسعة النطاق مع إسرائيل يمكن أن تجذب أميركا التي تتواجد بوارجها في البحر المتوسط. أضف إلى ذلك أن الشعب اللبناني المحبط يئن تحت أزمات داخلية خطيرة (سياسية واقتصادية وأمنية). وبالتالي ربما تكون الهجمات التي ينفذها حزب الله حالياً مجرد “إشارة” تضامن مع الفصائل الفلسطينية المقاومة و”مساهمة” منه لتخفيف الضغط عن غزة، وليس فتح جبهة شمالية (…).

قنبلة موقوتة

لكن الطريقة التي تُجبر فيها تطورات حرب غزة كلاً من إيران وإسرائيل على إعادة حساباتهما الأمنية قد تفضي إلى مواجهة مباشرة بين الطرفين. وفي الواقع، هذا الاحتمال موجود حتى قبل حرب غزة، وكان يتزايد بإستمرار. ففي السنوات الأخيرة اشتدت “حرب الظلّ”، ووسّعت إسرائيل ضرباتها ضد وكلاء إيران (في سوريا على وجه الخصوص)، وطالت المصالح والمنشآت العسكرية والنووية الإيرانية (داخل البلاد وخارجها).. وكل ذلك ضمن

ما يُسمى بـ”استراتيجية الأخطبوط” التي تبنتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ضد إيران طوال الأربعين عاماً الماضية: تنفيذ هجمات ضد “المخالب” (الميليشيات الحليفة في المنطقة)، ومن ثم التقدم نحو “الرأس”- النظام داخل طهران. ورداً على هذه الاستراتيجية، أصبحت الهجمات الإيرانية ضد الأهداف التابعة لإسرائيل، بما في ذلك سفن الشحن التجارية، أكثر جرأة.

إقرأ على موقع 180  زيارة بايدن.. الحقبة الأمريكية السعودية الثالثة!

قبل حرب غزة، بدا الطرفان واثقين من قدرتهما على إبقاء كل ما بينهما تحت السيطرة. فقد اتقنت إيران سياسة “ضبط النفس”، وأبقت ردودها على الاستفزازات الأميركية والإسرائيلية مقيّدة نسبياً (بما في ذلك ردها على اغتيال قائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني في كانون الثاني/يناير2020)، الأمر الذي اعتبرته إسرائيل “نجاحاً” لسياسة الردع التي تتبعها لمنع خصمها من افتعال أي تصعيد واسع النطاق. افتراضات تل أبيب تلك تشبه تماماً افتراضاتها بشأن “حماس” في غزة قبل عملية “طوفان الأقصى”، عندما اعتقدت أنها نجحت في إضعاف قدرات خصمها وإحتوائه (…).

الإيرانيون أيضاً وقعوا في شرك “الغطرسة”. لقد ازدادت ثقتهم بنفوذهم الإقليمي وبعلاقتهم مع روسيا وعودة الدبلوماسية مع معظم جيرانهم العرب، بما في ذلك السعودية. كما أن إحتواء الحكومة لموجة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في خريف عام 2022 عزَّز من ثقتها بنفسها كثيراً. وفوق هذا وذاك استطاعت أن تُحرز تقدماً كبيراً جداً على الجبهة النووية، ونتزعت اتفاق تبادل الأسرى مع أميركا (الشهر الماضي) من دون أن تقدم تنازلات تُذكر بخصوص برنامجها النووي.

ربما اعتقدت إيران أن قدرات الردع الخاصة بها؛ بما في ذلك ما يشكله حزب الله من تهديد على إسرائيل؛ تسمح لها باستعراض قوتها في جميع أنحاء المنطقة وتحافظ على وضعها النووي وفي الوقت نفسه  تبقى بمنأى عن أي رد فعل إسرائيلي كبير.

حقيقة أن إسرائيل وإيران اعتقدتا أن لهما اليد العُليا هي التي تقود البلدين نحو طريق محفوف بالمخاطر. فكل جانب يتصور أنه يستطيع أن يخدع الآخر بشكل دوري دون المخاطرة بتصعيد لا يمكن السيطرة عليه. لكن الحواجز التي كانت تحول دون نشوب صراع مباشر بينهما آخذة في الانهيار. وإذا استدعت حرب غزة أن يشنّ حزب الله هجوماً واسعاً على إسرائيل، أو إذا وقع هجوم إسرائيلي كبير على حزب الله، أو هجوم أميركي على منشآت نووية إيرانية، أو أي حدث آخر بالحجم نفسه، يعني أن كل الحواجز سقطت تماماً. وهي إحتمالات، إن حصلت، تشكل “خطراً وجودياً” بالنسبة لإسرائيل وإيران على حد سواء.

رمال متحركة

وبرغم أن نتائج هكذا إحتمالات غير مضمونة، فإن التطورات الحاصلة على الأرض اليوم تدفع كلا الطرفين نحو توسيع الصراع بينهما بدلاً من ضبط النفس. فالقادة الإيرانيون قد يجدون في الحرب الدائرة بين إسرائيل وغزة “فرصة” لتقليص القدرات الإسرائيلية من خلال شن هجمات بالوكالة من لبنان أو سوريا أو العراق (مثلما حصل الخميس: تعرض القوات الأميركية في العراق وسوريا لهجمات، واعتراض البحرية الأميركية لصواريخ فوق مياه البحر الأحمر). وتعتقد إيران أنها قادرة على مواجهة إسرائيل وأميركا من دون الإضرار بعلاقاتها الإقليمية والعالمية.

التطورات الحاصلة على الأرض اليوم تدفع كل الأطراف نحو توسيع الصراع بدلاً من ضبط النفس.. وفي الوقت نفسه إلتزام الحذر والصبر

الأهم من ذلك كله، أن طهران تتوقع أن يغض الشريكين الروسي والصيني الطرف عما قد تفعله. فروسيا قد ترحب بـ”حالة من عدم الاستقرار” في الشرق الأوسط لإلهاء الإهتمام بالحرب في أوكرانيا. والصين قد يهمها إضعاف موقف الولايات المتحدة في الإقليمي برغم أن مصلحتها تكمن في الحفاظ على تدفق ثابت لنفط الشرق الأوسط.

في دفتر الحسابات الإيرانية، هناك هجمات إسرائيلية لم يتم الرد عليها ولا تزال تتطلب رداً. وقد يكون هذا هو الوقت المناسب: فإسرائيل مشتتة ومنهكة، و”طوفان الأقصى” كشف نقاط ضعفها الأمنية والإستخباراتية. بالطبع، “الانتقام” ليس وحده الذي يوجه تفكير قادة إيران، بل ضرورة القيام بـ”عمل وقائي” لحماية وجودها (…).  فبرغم كل الخلافات الداخلية والغضب من فشل دولتهم في حمايتهم، توحد الإسرائيليون خلف تصميم حكومي عسكري على “سحق” كل من شارك في “طوفان الأقصى”. وإيران حقها أن تقلق من أن توجه إسرائيل انتقامها وآلتها العسكرية نحوها بمجرد أن تنتهي من غزة، فهي التي تمول وتساعد وتسلح فصائل المقاومة في المنطقة.

عملية “طوفان الأقصى” أفقدت إسرائيل مصداقيتها، وقلبت كل افتراضاتها التي ظلَّت راسخة حول كيفية تعاملها مع خصومها: “احتواء العدو.. وشل قدراته”. وقد تقرر الآن ملاحقة “رأس الأخطبوط” بضربات واسعة النطاق داخل إيران، بما في ذلك المواقع الصاروخية والمنشآت النووية ومقار الحرس الثوري. فقد تكون المواجهة المباشرة والعلنية مع إيران هي السبيل الوحيد لاستعادة إسرائيل قوة ردعها التي تهشمت، وإتكالها في ذلك على الدعم القوي واللا-محدود الذي تعهدت إدارة بايدن توفيره لها.

هل تسقط حواجز الحماية؟

إن المزيد من المناوشات بين إسرائيل وإيران، ناهيك عن حرب واسعة النطاق، يعني زعزعة استقرار المنطقة بأكملها، وتعطيل أسواق النفط، وكثير من الضحايا المدنيين، وجذب القوات الأميركية، وربما حتى دفع إيران إلى تسليح قدراتها النووية. وحقيقة أن الحرب لم تمتد بعد إلى مختلف أنحاء المنطقة لا يعني أن ذلك لن يحدث (…).

حتى الآن، يبدو أن الإدارة الأميركية تدرك كل هذه المخاطر، لذلك أعطت الأولوية لاحتواء الحرب بين إسرائيل وغزة (زيارات بايدن ووزير خارجته أنتوني بلينكن للمنطقة الأسبوع الماضي). ويبدو أيضاً أن الإدارة الأميركية تتواصل مع إيران عبر قنوات خلفية (…)، وهذا أمرٌ بالغ الأهمية لتجنب سوء التقدير ومنع أي تصعيد غير مرغوب فيه.

المشكلة هي أن هذا الصراع يظل قابلاً للاحتواء طالما أن مصلحة جميع الأطراف تكمن في تجنب حرب إقليمية. في الوقت الراهن، يبدو أن هذا الوضع لا يزال قائماً. لكن ليس هناك ما يضمن أنه سيصمد في المستقبل المنظور. فالتطورات الميدانية مائعة، والتغيرات في الحسابات الاستراتيجية لدى إسرائيل أو إيران، أو كليهما، قد تدفعهما للاعتقاد بأن “المواجهة المباشرة” أقل خطراً على “وجودهما” من الوضع الراهن.

– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.

(*) داليا داسا كاي، عضوة في مركز بيركل للعلاقات الدولية- جامعة كاليفورنيا، وباحثة في برنامج “فولبرايت شومان” التابع لمركز دراسات الشرق الأوسط المتقدمة- جامعة لوند.

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  مناوشات دولية يضبطها "العمالقة".. تحالف "أوكوس" نموذجاً